حبيب الزموري
يحرص أنصار قيس سعيد منذ بدأ العد التنازلي لعملية التصويت على اختزال عملية الاستفتاء في الصندوق بمعزل عن المسار الذي سبقها ولا يدخرون جهدا في التعبير عن “ديمقراطيتهم” و”احترامهم للرأي المخالف” بتشجيع الناخبين على الإقبال على صناديق الاقتراع والتصويت حتى بـــ “لا” و ممارسة “حقهم”. وهي في الحقيقة مقاربة هزيلة للمسألة الديموقراطية ولا تختلف في شيء عن تسطيح أنصار الترويكا سابقا أو مختلف الائتلافات الحزبية الرجعية الحاكمة التي تشكلت بعد الثورة للمسألة الديموقراطية وللشرعية، مقاربة “الصندوق لي يعديك من واد الاقتراع ما عليك في نتونته” تلك المقاربة التي تختزل السيرورة الديموقراطية برمتها في وضع ورقة الاقتراع في الصندوق والنتائج التي يفرزها التي تصبح شرعية مقدسة مهما كانت الجرائم الانتخابية والسياسية والمالية والأخلاقية التي حفت بالمسار الانتخابي.
من هذا المنطلق لا يختلف أنصار سعيد في شيء عن أنصار النهضة وحلفائها فكلاهما يحيط مسألة الشرعية بسياج دغمائي مقدس معزول عن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي بغض النظر عن التجاوزات والانتهاكات والجرائم التي ترافق تركيز تلك الشرعية، وبما أنّ خير وسيلة للدفاع هي الهجوم فإنّ معسكر الرئيس ما فتئ يشيطن معارضي الاستفتاء وتحديدا دعاة المقاطعة بوصفهم طابورا خامسا لحركة النهضة حسب تعبيرهم دون أن يتجرؤوا ولو للحظة واحدة على استرجاع ما حفّ بالحملة الانتخابية لزعيمهم المفدى في الدور الثاني من تجييش لكافة المجاميع الرجعية في البلاد وعلى رأسها حركة النهضة لترجيح الكفة لصالحه دون أن يحركوا ساكنا، ولا على شرح السياسة الاقتصادية والخارجية لقيس سعيد منذ اعتلائه سدة الرئاسة وخاصة منذ 25 جويلية 2021 والتي لا تختلف في شيء عن السياسات السابقة المرتهنة لصناديق النهب والتدمير الاقتصادي والاجتماعي والتي استبدلت محورا رجعيا بآخر. الحملة الانتخابية لأنصار الاستفتاء ليست سوى بروباغندا متهافتة تستمد مقولاتها وشعاراتها مباشرة من الخطاب الشعبوي الخشبي لقيس سعيد الذي يحسبه التائه في صحراء الانتقال الديموقراطي ماء فقيس سعيد لم يأتي ليؤسس قطيعة مع المنظومة كما يدعي بقدر ما كان التعبيرة الأشد خطورة لأزمة المنظومة.
إنّ تشجيع الناخبين على الإقبال على صناديق الاقتراع يوم 25 جويلية بالترغيب والإغراء حينا بالرخاء وجنة العدالة والمساواة التي تنتظرهم في المنعطف الأول من المسار الذي دشنه سعيد حينا , وبالترهيب من عودة “غول” النهضة حينا آخر والتي – للتذكير – لم يكلف قيس سعيد نفسه فتح أي ملف من ملفاتها بما فيها تلك التي تمسّ الأمن القومي التونسي. كل هذا الترغيب والترهيب ليس له سوى هدف واحد هو تجنب تكرار مهزلة الاستشارة الوطنية وتآكل الشرعية المزعومة وصورة الزعيم الملهم المعبر عن الإرادة الشعبية.
لقد خرجنا لتوّنا من مسار ديموقراطي مثخن بالفساد السياسي والمالي والأخلاقي برر به قيس سعيد انقلابه ليستبدله بمسار آخر لا يقل انحرافا عن المسار السابق بل إنه أشد خطورة منه فلئن حافظت القوى التقدمية خلال المرحلة السابقة رغم اختلال موازين القوى على قدرتها على التدخل للتصدي لانحرافات العشرية السوداء من داخل المؤسسات التمثيلية ومن الشارع ونجحت في ذلك في مناسبات وفشلت في أخرى فإنّ قيس سعيد قد دشن مسارا آخر لا صوت يعلو فيه غير صوت الفرد المتضخم الذي ابتلع كافة السلطات، الفرد الذي يسعى إلى وضع يده لا على أجهزة الدولة فحسب بل إلى مصادرة حق الرأي الآخر في التعبير عن نفسه فلا وجود للدولة وللشعب خارج إطار شخصية هذا الفرد، وحتى محاولة تفصيل غطاء قانوني ودستوري من قبل النخب الموالية للرئيس على مقاسه قد باءت بالفشل نظرا لحدة التعطش للانفراد بالرأي، فالزعيم الملهم يفصّل القوانين وحده ويقرر وحده ويحكم وحده لا شريك له.
بأي حق منح قيس سعيد لنفسه هذه السلطة المطلقة ليعيد تشكيل نظام الحكم والدستور بل يعيد كتابة التاريخ كما صرح هو نفسه في دستوره المكتوب في “الغرف المظلمة” على حد تعبير “فخامته”؟ هل كان زعيما ثوريا قاد ثورة قلبت نظام الحكم؟ هل كان زعيم حزب سياسي خول له وزنه السياسي في مؤسسات الحكم تنفيذ برنامجه؟ هل هو “المهدي المنتظر” الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا؟ لا وجود لمؤسسة أو لشرعية ثورية أو سياسية تمنح قيس سعيد هذا الحق. وحتى محاولة تضخيم تحركات 25 جويلية 2021 ومحاولة تسويقها على أنها موجة ثورية عارمة ليست سوى مغالطة أدمنها قيس سعيد وأنصاره ووصلت بهم الغطرسة إلى دسترتها إلى جانب الاستشارة الوطنية التي لم تتجاوز نسبة المشاركين فيها 5℅ من التونسيات والتونسيين، أبعد هذا العبث عبث؟ هل تحول مصير الشعوب والأوطان إلى لعبة بين أيدي المغامرين؟
إنّ المشاركة في المسرحية العبثية التي سماها قيس سعيد استفتاء مهما كانت طبيعة هذه المشاركة هي انخراط مباشر في العبث وشرعنة للمسار الانقلابي، قيس سعيد انقلب على مريديه الذين تكفلوا بتفصيل دستور على مقاسه فهل يعتقد عاقل أنه سيأخذ التصويت بــ”لا” على دستوره بعين الاعتبار؟ إنّ الإمعان في الغطرسة والتسلط لا يواجه إلا بالإمعان في القطيعة مع هذه المنظومة التسلطية الناشئة والإمعان في مقاومتها والتصدي لها. هذا على المستوى السياسي أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقيس سعيد ما انفك يبيع الأوهام للجماهير ويبشرهم بالعدل والمساواة في توزيع الثروة والذي أطلق العنان لحكومته – التي يحرص جاهدا على رسم مسافة بينه وبينها في نظر الرأي العام – لتنفيذ ما لم تتجرأ كل الحكومات الرجعية السابقة على تنفيذه من رفع للدعم وتخلي الدولة عن واجباتها الاجتماعية بل وتمكين الأجانب من ملكية الأراضي الفلاحية الذي يعتبر من أهم بنود اتفاقية الأليكا في الوقت الذي يواصل فيه الرئيس وأنصاره رفع شعارات السيادة الوطنية والأمن الغذائي وتأميم الثروات.
إنّ مقاطعة مسرحية الاستفتاء في تقديرنا هي الإجابة السياسية الواقعية الآنية على التسلط والغطرسة التي طبعت عملية تنظيمه أما على المدى التوسط والبعيد فإنّ عدم الاعتراف بالمنظومة التي أفرزها مجمل المسار الانقلابي ومقاومتها بلا هوادة هي الأفق السياسي لكل نفس ديمقراطي وتقدمي وثوري أحزابا وجمعيات وشخصيات اختارت التمسك بالحد الأدنى من المبادئ الديموقراطية والتقدمية بعيدا عن كل نزعة تبريرية وانتهازية تحاول تسويق مشروع قيس سعيد بوصفه مشروعا ثوريا معاديا للإخوان ولمنظومة ما قبل 14 جانفي في حين أنّ ممارسات سعيد وحكومته ما فتئت تكرس نفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تمعشت منها أقلية كمبرادورية في البلاد ووزعت الفقر والبطالة وتدهور الخدمات الأساسية على عامة الشعب.
الشعب التونسي اكتوى بنار السياسات المعادية لطموحاته ومطالبه في عهد النهضة مما جعله يستبشر بانقلاب قيس سعيد، وكان سيستبشر بأي قوة تطيح بأوكار الفساد السياسي. وقد برع قيس سعيد في شيء واحد ألا وهو استثمار إحباط الشعب التونسي ونقمته على منظومة ما بعد 2011 التي سرقت ثورته ولكن صبر الشعب التونسي على سعيد لن يطول كثيرا فالخطابات الرنانة وسياسة الترهيب من عودة النهضة إلى سدة الحكم لن تجدي سعيد نفعا عندما يجد نفسه وجها لوجه مع الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الاجتماعية القادمة لا ريب فيها وما على القوى الديمقراطية والتقدمية والثورية إلا الاستعداد لتسليح الشعب بالوعي والتنظيم الضروري لتجنب سرقة تضحياته مرة أخرى.