علي الجلولي
يتواصل نسق العبث والتلاعب بمكاسب الشعب التونسي التي افتكها بتضحياته المريرة، ففي خطوة داست أبسط شكليات العمل الإداري البسيط، توجه قيس سعيد بخطاب إلى الشعب ليلة عيد الأضحى لا لتوجيه المعايدة فحسب، بل لاستغلال المناسبة للحديث عن دستوره المجيد وذلك بخرق القوانين الجارية مرة أخرى بالدعوة إلى المشاركة المكثفة للمشاركة بالتصويت بنعم، وأيضا وأساسا للتصريح بكون دستوره الذي نشر منذ يوم 30 جوان الجاري يحمل أخطاء شكلية تتعلق بالتراكيب اللغوية وأخطاء الرسم وحساب التبويب، إنّ مثل هكذا أخطاء حين تصدر من أعلى هرم السلطة لا يجب أن يقع التعامل معها على أنها “أخطاء إنسانية” كما لا يجب التعاطي مع أخطاء التلاميذ والطلبة والممتحنين عموما على أنها “أخطاء إنسانية”، بل هي أخطاء تُقيّم جزائيا من خلال العدد المتحصل عليه، وحين تصدر الأخطاء في الوثائق الرسمية للدولة، فإنّ هذا لا يسمى إلا العبث ولا شيء غير العبث. ولم يطل الخطأ لفظا كما حدث مع لجنة ديقول سنة 1958 حين تسرب “خطأ إنساني” إلى لفظ ظل منشورا بخطئه اللغوي ولم تقدر أية جهة على تصحيحه لأنّ النص صدر بالجريدة الرسمية للدولة، وشارك الشعب الفرنسي في الاستفتاء على النص كما نشر بخطئه الذي عدته الأمة الفرنسية إنسانيا وناتجا عن سهو لا غير، أما هذا الحجم من الأخطاء التي “وقع تصحيحها” في النسخة الثانية من الدستور فلم يكن شكليا فحسب بل طال المضمون إذ شمل التصحيح 64 فصلا من جملة 142 بما جعل لفيفا واسعا من متتبعي الشأن العام في بلادنا وفي مقدمتهم القانونيين إلى اعتبار ما تم نشره مساء 8 جويلية هو نسخة أخرى من الدستور تقتضي منطقيا وقانونيا آجالا ورزنامة جديدتين، فيما انبرت جوقة المريدين إلى إعلاء الصوت مثل كل جوقات الطغيان في التاريخ رافعة شعارها المميز “الله ينصر سيدنا”.
التطرف في الموالاة يصنع الطغاة.
أكدت عديد الدراسات التاريخية التي قاربت التجارب السياسية المعاصرة وحتى القديمة أنّ الطاغية لا يولد بالضرورة كذلك، بل كثيرا ما تلعب جوقة الموالاة وبطانة المساندة دورا كبيرا وحتى حاسما في بلورة النزعة الاستبدادية والذهاب بها إلى الأقصى، ولنا في تاريخنا القريب والبعيد ما يعزز هذه الفكرة. واليوم تواصل بطانة الحكم نفس الدور وبنفس الآليات والممارسات، فصبيحة يوم 8 جويلية كانت القوى المدافعة عن خيار “نعم” تمدح الدستور حتى أنّ البعض سمّى حملته بـ”نعم شاهقة” تيمّنا وتبرّكا بمفردات الخطاب القيسي الذي أخذ هذا اللفظ بالذات (الصعود الشاهق) من موسليني زعيم الفاشية الإيطالية، ونحن طبعا لا نعتقد أنّ هذا الاستعمال يتم بعفوية ودون قصد. ونفس القوى نجدها بعد خطاب سيادته تبارك وتهلل حتى دون أنّ تطّلع على “التنقيحات”، وانخرطت في موجة دفاع وتفسير للتصحيحات الشكلية والمضمونية. إنّ مجمل هذه القوى هي من حيث تعي أو لا تعي تعزز كل نوازع الاستبداد وحكم الفرد وتوسيع صلاحياته إلى ما لانهاية . هذا ويذهب البعض منها إلى التقليل من شأن احترام الشكليات والإجراءات بل واحتقارها وهي بذلك تعطي ضوء أخضر للحاكم كي يفعل ما يريد كيفما يريد ووقتما يريد، وهو الحال في بلادنا اليوم مع الحاكم بأمره قيس سعيد. و للعلم وللأمانة فإنّ هذه القوى قللت في بياناتها وتصريحاتها من شأن الأخطاء والنقائص والثغرات رغم إشارة بعضها إليها، لكنها لم تطالب بتنقيحها بل اتجهت عموما إلى الدفاع عن فكرة “تمرير الدستور ثم نرى”، أي أنها قابلة بفكرة أن يتحول الدستور إلى خرقة يتم تنقيحها كلما عنّ للحاكم بأمره ذلك، وهذه في حد ذاتها فكرة خطيرة لأنها تنزع عن الدستور طابعه العام والمرحلي على الأقل وتلبيسه لباسا مؤقتا مرتبطا بوضع محدد وبلحظة معينة، هي لحظة صراع شقي منظومة الحكم الرجعية والفاشلة، وهو صراع حول الصلاحيات والمواقع وليس حول الخيارات والتوجهات والسياسات التي لا يطالها الخلاف بين شقي منظومة حكم 2019، بل يطالها النزاع حول أيهما أكثر ارتباطا بالطبقات الطفيلية والمتنفذة والدوائر الإقليمية والدولية المسيطرة على بلادنا ومقدراتها وخياراتها. لذلك ورد دستور سعيد دستورا متمحورا حول صلاحيات الرئيس الذي نال ما لم ينله أي حاكم قبله
إنّ المشاركين بنعم يتورطون في دعم الاستبداد الذي لن يجرؤوا بعد مدة على رفع أصواتهم ضده بل سينوعون لتبريره بكل التعلات، إنهم يعيدون نفس تجربة “أحزاب الديكور” التي دعمت بن علي طيلة 23 عاما من حكمه ولم تجرؤ لحظة على انتقاده ولو بصوت خافت. إنّ أحزاب وجمعيات وشخصيات الموالاة تحرم بفعلتها هذه نفسها من مسافة الأمان الضرورية مع السلطة متغافلة عن اتجاهاتها التسلطية الواضحة و عن جوهرها الطبقي الذي لم يمسه أي تغيير مهما كان بسيطا، وهذه الملاحظة نقصد بها أصدقاءنا من “الديمقراطيين” و”اليساريين” الذين لا شيء يفسر موالاتهم لحاكم فردي محافظ ورجعي ولدستور يقيد الحريات ويرفض المساواة بين الجنسين وينسف
الأساس المدني للدولة ويربطها بمقاصد الشريعة مغلقا الباب أمام العلمانية كشرط أساسي للجمهورية الديمقراطية، إنه دستور يلغي فعليا الجمهورية التي ناضلت من أجلها أجيال ويعيدنا إلى مربع “الملكية” التي عاشت البلاد تحت سياطها منذ دستور 1959 إلى حدود الثورة التي دكت الحكم الفردي المطلق.
إنّ النوازع الاستبدادية لقيس سعيد ظاهرة ولا تحتاج كثير أدلة، سواء قبل وصوله لقصر قرطاج أو بعده، قبل انقلابه على شريك حكمه وبعده. كما أنّ التغافل عن جوهر صراعه مع حركة النهضة ستكون له كلفة سياسية غالية، فالصراع بين الطرفين ليس صراعا يقابل طرفا وطنيا وديمقراطيا وتقدميا وآخر رجعيا وعميلا، بل هو صراع يقابل بين طرفين يتحدان في المضمون الاجتماعي وفي احتكامهما لنفس الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كخيارات لا وطنية ولا شعبية ولا تقدمية، يتفقان في النزعة المحافظة والرجعية التي تنهل مما هو ظلامي في الشريعة والحضارة، إنهما يتفقان في الانتماء الفكري/السياسي لنفس المدرسة السلفية التقليدية، لكن يختلفان الآن في كيفية مسك الحكم والتحكم فيه والاستفادة منه. لذلك نحن لا نرى موقعا لأصدقائنا الديمقراطيين في مشروع سعيد الشعبوي المحافظ، فبنفس الصرامة التي يجب أن نقاوم بها حركة النهضة وحلفائها وحزب الدستور ومشتقاته، يجب أن نقاوم بها الشعبوية اليمينية التي تشكل اليوم خطرا فعليا لا على حاضر تونس بل أيضا على مستقبلها، خطر لا من جهة السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي يتم في هذه اللحظات تفصيلها مع مندوبي صندوق النقد الدولي لتزيد من تعميق التبعية والتفقير والتهميش كما تمت مع حكم النهضة وقبلها حكم التجمع، بل أيضا على منجز الحريات الذي عُمّد بدماء الشهداء وتضحيات الأجيال. إنّ سعيد لا يؤمن بالحرية والديمقراطية ولم يناضل يوما من أجلهما ومشروعه يستهدف ضرب كل فعاليات الانتظام المدني والاجتماعي أي الأحزاب والمنظمات والنقابات، وفي هذا المستوى بالذات هو يتعامل مع الأحزاب الموالية له مثل تعامله مع خصومه وهي خاصية من خاصيات الشعبوية اليمينية. لذلك سيكون “أصدقاؤنا” من الديمقراطيين في موقف وموقع حرج حين تشتد وتائر القمع ومعارك النضال ضده، لكن وقتها سيكون “فات الفوت” لأنّ من يعطي صكا على بياض اليوم سيجد صعوبة كبرى في استعادته غدا.
استفتاء على الدستور أو على حكم سعيد؟
يركز الموالون على خطى الحاكم بأمره على صرف اهتمام الناس عن محتوى الدستور الجديد، وإن تمّ النقاش فيتمّ بتشنج يغيّب المضامين المراد تدقيق النظر فيها والحكم عليها، ويجنح أنصار “نعم” إلى تلك المقايضة الرخيصة التي ارتبطت تاريخيا بكل منظومات الاستبداد، إنها المقايضة الشهيرة بين السلم والخراب، الاستقرار والفوضى، وتُصرّف اليوم في معادلة: سعيد أو الخوانجية. ويُستدرّ التعاطف من رفض جزء مهم من جماهير الشعب لحصيلة حكم ما بعد 14 جانفي، هذه الحصيلة التي لا نشك لحظة في فشلها وخرابها، لكن أيضا لا نشك لحظة في كوننا كنا مع القوى الثورية المتماسكة، الأكثر شراسة في معارضتها والتصدي لها ومقارعتها ومنازلتها، نقول هذا لا بغرض التفاخر والمزايدة والاستعراض المجاني، بل للهمس في آذان بعض المغالين في انتقاد العشرية الفارطة بكونهم كانوا شركاء في أطر حكمها، صحيح أنهم شركاء من موقع ثانوي وأحيانا احتياطي وذليل، فأحزاب تزايد اليوم في خطاب التشهير كانت مشاركة في حكومات النهضة، النهضة التي لم تحكم لوحدها أبدا بل شكلت حكوماتها منذ نهاية 2011 بالاشتراك مع قوى حزبية وسياسية أخرى، وشخصيات أصبح خطابها يثير الغثيان من كثرة المدح للحاكم والذمّ للمطاح بهم وهي التي كانت مستوزرة (أو قابلة بالاستيزار) لديهم لتقوم بأرخص الأدوار ضد الشعب ومعطليه ومفقريه ومهمشيه.
إنّ انحرافا واختلالا رهيبا وفظيعا يطال مجمل مسار الاستفتاء، هذا الاستفتاء الشكلي والصوري والذي لم تنتظم حوله وبمناسبته أي نقاشات حول المضامين أو الأفكار والحاجيات وتنتظم بصدده حملة باهتة بيضاء ذكّرت العديد بـ”انتخابات” بن علي التي كان سعيد يشارك فيها ويدعمها بالأفكار إذ كان عضوا في الحملة التفسيرية لـ”استفتاء” 2002 الذي عمق مظاهر الحكم الفردي، وهاهو استفتاء 2022 ينتظم لذات الغرض. إنها سخرية التاريخ، مثلها مثل دستوره الذي ليس سوى تجميعا لمحتوى دستور 1959 الاستبدادي ودستور 1 جوان 2014 الظلامي. إنّ أنصار سعيد ومواليه يريدون وضع شعبنا الطيب والمسالم في إمية الطاعون أو الكوليرا، بينما شعبننا جدير بالصحة الجيدة والهواء النقي والفضاء الحرّ، وهذا لن يتحقق إلا بخيارات وطنية شعبية ديمقراطية تتناقض مع الشعبوية والظلامية والدساترة كمخاطر جاثمة وداهمة على شعبنا وبلادنا.
إنّ حرف إرادة الشعب واغتصاب إرادته بافتكاك بيعة على حكم قيس سعيد الذي لا يختلف جوهريا عن حكم المنظومة الطبقية/السياسية السائدة والمرتهنة للعائلات المتنفذة والمتحكمة والمستأثرة بمقدرات تونس وثرواتها، واستغلال المناسبة لتمرير دستور رجعي يكرس حكم الفرد ويخلق صعوبات جمة لشعبنا وقواه الوطنية والتقدمية.
إنّ الموقف السليم في هذه اللحظة التاريخية الفارقة ليس سوى مقاطعة هذا الاستفتاء/البيعة وإحداث الفراغ الشعبي من حوله، دونا عن ذلك ستدخل بلادنا بداية من 26 جويلية طورا جديدا من الأزمة الآخذة في التعقد من خلال دخول معطى رفض الدستور الممنوح والطعن في الشرعية.