بقلم: حمّه الهمّامي
ما من شك في أن النساء التونسيات معنيات مباشرة بالاستفتاء على دستور قيس سعيد المبرمج ليوم جويلية 25 القادم. وتعمل أبواق الدعاية الرسمية بما فيها تلك الصفحات مدفوعة الأجر في الشبكة الاجتماعية على حث النساء على المشاركة بكثافة في هذا الاستفتاء والتصويت بـ”نعم” لصالح دستور قيس سعيد الذي يقدم على أنه “تصحيح لمسار الثورة” بل “تصحيح لمسار التاريخ”. ومن البديهي أن السؤال البسيط الذي يطرح في مثل هذه الحالة هو التالي: على ماذا سيصوت النساء في هذا الاستفتاء؟ هل أن الدستور المقدم، الذي ستنبني عليه الحياة السياسية وتنبع منه التشريعات في المستقبل، فيه ما يقنع النساء حقا بالتصويت لفائدته؟ هل يضمن لنساء تونس حريتهن وحقوقهن وكرامتهن؟ هل هو يضع حدّا لكافة أشكال الميز التي يعانين منها قانونا وواقعا؟ هل أتى دستور قيس سعيد لنساء تونس بما هو أفضل مما أتى بله دستور 2014 الذي ما انفك قيس سعيد وأنصاره يشيطنونه ويقدّمونه زورا وبهتانا على أنه دستور حركة النهضة؟
إن هذه الأسئلة هي التي اجتنب قيس سعيد وأتباعه إثارتها لهدف واضح وهو أن لا مصلحة لهم في اطلاع النساء التونسيات بدقة على نص الدستور ليدركن ما جاء فيه ويبلورن موقفا واعيا منه، سواء بالإيجاب أو بالسلب بل إن كل هدفهم هو التحيل عليهن ودفعهن إلى مبايعة قيس سعيد يوم 25 جويلية القادم دون معرفة ما ينتظرهن أو بالأحرى ما يخبّئه لهن “الحاكم بأمره”، خاصة أن مشروع الدستور الذي سيعرض على الاستفتاء لم تشارك في صياغته ولو امرأة واحدة ولا حتى رجل واحد، فقد كتبه سعيد بنفسه ونشره ليلة 30 جوان في الرائد الرسمي دون أن يطلع عليه أو يناقشه أحد وهي حالة فريدة لم تحصل حتى مع الدكتاتوريات المعروفة إذ لها من الذكاء ما يجعلها تراعي بعض الشكليات وتسند مهمة صياغة الدستور إلى لجنة أو برلمان شكلي الخ… أما في الأنظمة الديمقراطية فإن مشاريع الدساتير تخضع للنقاش أشهرا كاملة في بعض الأحيان ليبدي المواطنات والمواطنون رأيهم فيها قبل عرضها على الاستفتاء. أما قيس سعيد “الواحد القهّار” فقد كلف شكليا لجنة لصياغة الدستور ثم ألقى بمقترحها في سلة المهملات وقدم إلينا مشروعه “الفريد”، ولكن المليء بالأخطاء كما اعترف هو بذلك بعد ثمانية أيام من نشر المشروع (46 خطأ في الشكل والمضمون) ممّا اضطره إلى مراجعته وإعادة نشره.
عودة إلى الماضي القريب: 13 أوت 2020
قلنا إذن إن نساء تونس مثلهن، مثل الرجال، لم يشاركن في وضع الدستور لا بشكل مباشر أو غير مباشر بل علمن به وهو ينشر في الرائد الرسمي ولا يستبعد أن تكون غالبية النساء على غير علم بمحتوياته. وهو ما يدفعنا إلى كتابة هذا النص لمعرفة “نصيب” نساء تونس من دستور سعيّد. ولكن قبل أن نقوم بذلك تهمّنا الإشارة، طالما أن الدستور المقدم هو بالكامل من تحرير قيس سعيّد، أن مواقف هذا الأخير من قضايا النساء في تونس معروفة وسبق له أن عبر عنها في أكثر من مناسبة. ومن الهم التذكير بهذه المواقف حتى نرى أثرها في كتابة الدستور الجديد. ففي يوم 13 أوت 2020 تكلم قيس سعيد لأول مرة كرئيس بمناسبة العيد الوطني للمرأة المناسب للذكرى الـ64 لصدور مجلة الأحوال الشخصية. وكان أول رئيس في تاريخ تونس يصرح علنا أنه ضد مبدأ المساواة بين الجنسين خاصة في مجال الميراث لتعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية، مع العلم أن سلفه، الباجي قائد السبسي، كان أعد قبل وفاته “مجلة للحقوق والحريات” خطا فيها خطوة نحو تحقيق هذه المساواة. ولكن سعيد ارتد عن ذلك وعاد بنا إلى الوراء، إلى “نظرية العدل”، مدعيا أنها “أرقى” من “نظرية المساواة” التي اعتبرها شكلية، مع العلم أنه في نفس الخطاب ذهب إلى اعتبار الفضاء العائلي “فضاء خاصا”، لا يخضع للقانون، وأن المرأة تفقد فيه بالتالي صفة “المواطنة” فهي الزوجة لا أكثر ولا أقل وهو ما يشرّع التعسّف دون محاسبة.
إن نظرية “العدل” هذه هي حيلة ابتدعها الفقهاء من قبل ورددها كل الظلاميين في العهد المعاصر، للتحيل على عقول الناس بل لاختلاق ذريعة لتبرير كافة أشكال التمييز الموجودة في المجتمع بين السيد والعبد أو الرأسمالي والعامل أو الرجل والمرأة أو المسلم وغير المسلم وغيرها من أشكال التمييز بالادعاء بأن وجود هذا التمييز ليس فيه انتهاك للمساواة ولكنه من باب “العدل” إذ لا يمكن أصلا أن نسوّي بين سيد وعبد أو رجل وامرأة أو رأسمالي وعامل أو مسلم وغير مسلم، فالعدل يقضي أن يلتزم كل طرف بـ”المكانة” التي تعود إليه، مكانة عليا للبعض ودنيا للبعض الآخر. ونظرية “العدل” هذه لا تختلف كثيرا عن نظرية “التكامل” التي يستعملها الظلاميون بديلا للمساواة، لأنها قادرة على إخفاء التمييز وتقديمه على أنه أمر “طبيعي”، فللرجل مثلا خصائصه التي تجعله “سيّدا” وللمرأة خصائصها التي تجعلها كائنا “دونيا” وهما “يتكاملان” في وظائفهما. وليس من الغريب أن يجمع الوهابيون السعوديون بين المفهومين “العدل” و”التكامل” للالتفاف على مبدأ المساواة: “تعتمد أنظمة المملكة العربية السعودية المستمدة من الشريعة الإسلامية مبدأ المساواة التكاملية بين الرجل والأنثى مع مراعاة خصائص وسمات كلا الجنسين لتحقيق العدل في نهاية المطاف”. ولا فائدة هنا في الحديث عن وضعية النساء في السعودية، عن حالة “التكامل والعدل” التي يعشن فيها. أما في مصر فقد ابتدعت دار الإفتاء بدعة أخرى إذ أقرّت مبدأ المساواة ولكنها ذهبت إلى أن المساواة لا تعني “التساوي” في كل شيء: نعم للمساواة، لا للتساوي….
لذلك كانت المطالبة بالمساواة (لا بـ”التكامل” أو “العدل”) في الحقوق بقطع النظر عن الجنس أو العرق أو الدين أو اللون محور من المحاور الكبرى لنضال الإنسانية عبر العصور. وهو ما تحقق في العصر الحديث حيث أصبحت المساواة مبدأ إنسانيا أساسيا معترفا به بقطع النظر عن درجة الالتزام به في الواقع. ومن المعلوم أن الأقطار العربية هي من أكثر بلدان العالم تخلفا في مجال إقرار مبدأ المساواة واحترامه خاصة فيما يتعلق بالجنسين. فهي تستعمل كل الحيل لضرب هذا المبدأ باسم “الخصوصية” وتحديدا باسم الدين والشريعة. وبطبيعة الحال فإن قيس سعيد يعود بنا بنظريته حول “العدل” إلى عهود ما قبل الحداثة، إلى مفاهيم فقهاء عهد الإقطاع والعبودية القائمة على التمييز. إن العدل، وهو قيمة هامة، لا بد منها في أي مجتمع ديمقراطي لأن غيابها يعني الظلم والجور، لا يمكن أن يتحقق إلّا بين شخصين متساويين في الحقوق، فالمساواة إذن هي المبدأ الأول، الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب والأمم وحين تتحقق المساواة تتوفر وقتها الأرضية المناسبة لتحقيق العدل.
ولكن يمكن أن تكون هذه المساواة شكلية، قانونية فقط، بحكم سيطرة قوى الاستغلال في المجتمعات الإنسانية، وقتها تكون مهمة الديمقراطيين الحقيقيين ليس إدارة الظهر لمبدأ المساواة بدعوى أنه شكلي وإنما خوض النضال من أجل تنزيله إلى الواقع بإحداث التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تجعل من المساواة واقعا لا مجرد مبدأ قانوني شكلي وهو ما ينطبق على حقوق النساء اليوم بما في ذلك في بلدنا تونس. فالمساواة بين الجنسين مبدأ تعترف به المواثيق الدولية إثر نضالات مريرة وتضحيات جسيمة قام بها النساء في مختلف أصقاع العالم. ولكن الهوة ما تزال قائمة بين القانون والواقع بفعل الاستغلال الرأسمالي القائم أصلا على التمييز الفعلي، العملي، بين البشر، بين صاحب رأس المال والأجير وبين الغني والفقير. ولكن نساء العالم لم يرفعن في مواجهة هذا الوضع الشعار الذي يرفعه قيس سعيد وهو “العدل بدل المساواة” وإنما يرفعن شعار “المساواة التامة والفعلية” أو “المساواة في القانون والواقع”. وفي كلمة فإن قيس سعيد أراد التراجع عن مبدأ أصبح معترفا به في غالبية دول العالم عدا في عدد صغير منها يضربه التخلف الفكري والسياسي والاجتماعي مثل السعودية وبعض البلدان الخليجية الأخرى.
لا مكاسب للنساء في الواقع
هذا من الناحية القانونية. أما من الناحية العملية فإن قيس سعيد الذي طالما تحدّث عن ظروف حياة العاملات الفلاحيات الصعبة خاصة ووعدهن بالجنة فإنه لم يفعل لصالحهن أي شيء رغم أنه من حقه تقديم مشاريع قوانين لها الأولوية في النقاش في مجلس النواب. كما أنه لم يقم بأي شيء من أجل تنفيذ القانون عدد 51 الخاص بنقل العملة الفلاحيين (معظم من النساء) الذين استمرت معاناتهم ومآسيهم (الحوادث القاتلة…). كما أنه لم يضع الآليات الضرورية لتنفيذ القانون عدد 58 المؤرخ في 11 أوت عام 2017 والمتعلق بالقضاء على كل أشكال العنف ضد المرأة القائم على أساس التمييز بين الجنسين من أجل تحقيق المساواة واحترام الكرامة الإنسانية، مما أبقى هذا القانون حبرا على ورق. وبالطبع فإنه لم يفعل شيئا أيضا فيما يخص استكمال المصادقة على العديد من الاتفاقيات الدولية مثل الاتفاقية عدد 183 الخاصة بحماية الأمومة. وقد واصل قيس سعيد نفس السلوك بعد انقلاب 25 جويلية 2021 فرغم تجميعه كل السلطات بين يديه ورغم أنه أصبح يحكم عبر مراسيم غير قابلة للطعن فإنه لم يصدر أي مرسوم لصالح النساء بشكل عام والكادحات بشكل خاص فمعظم المراسيم التي أصدرها تهم كيفية سيطرته على مقاليد الحكم وحل المؤسسات القائمة وتفكيكها وتصفية خصومه، متبعا نفس أسلوب سابقيه الذين كانوا يتباكون على حالة النساء الكادحات والفقيرات دون القيام بأي شيء لصالحهن خاصة أن ظروف حياتهن ساءت إلى أبعد الحدود بسبب جائحة كورونا وما نتج عنها من طرد للعاملات وتفاقم للفقر في صفوف النساء بشكل عام. وحتى عندما عيّن امرأة لتكون على رأس الحكومة فمن أجل الديكور لا غير، لأنه جعلها منزوعة الصلاحيات بحكم الأمر 117 وحشرها في الملفات الاقتصادية والاجتماعية التي تضعها وجها لوجه مع العاملات والعمال والكادحات والكادحين لتطبق عليهم، كـ”أول امرأة عربية تعيّن على رأس حكومة”، برنامج تقشّف مُمْلى من المؤسسات المالية الدولية، سيسلخهم سلخا ويذبحهم ذبحا.
وبطبيعة الحال لا توجد أية مفاجأة في سلوك قيس سعيّد، في كلّ ما قاله وفي كلّ ما فعله، فهو شخص محافظ، لا علاقة له بالفكر التقدمي الحديث ولا بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية الخاصة بالقضاء على الميز الجنسي والتي لا يستبعد أن يكون يرى فيها، وفي الحركات النسائية المطالبة بالمساواة “سلعة غربية استعمارية” “غريبة” عن مجتمعاتنا و”خطيرة” عليها. وهو ما سنجد له أثرا في مشروع دستوره “العظيم”.
جولة في مشروع دستور قيس سعيد
إن دستور قيس سعيد لا مفاجآت فيه بالطبع بخصوص حقوق النساء التونسيات. فالتوطئة التي قدم بها دستوره، لا ذكر فيها، كما هو الحال في عديد دساتير البلدان الديمقراطية، لمبدأ المساواة التامة في الحقوق بين النساء والرجال ولا منعا للتمييز بينهم، ولا تذكيرا بدور رواد حركة تحرير النساء في تونس وفي مقدمتهم الطاهر الحداد صاحب “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي نادى فيه من بين ما نادى وهو في العام 1930 بالمساواة بين المرأة والرجل في مجال الميراث مبررا ذلك بتطور الواقع وتحديدا بتطور الأنظمة الاجتماعية الذي لم يعد يبرر التمييز. كما أنه تجاهل دور الحركات النسائية في تونس في مقاومة الاستعمار ثم في مقاومة الدكتاتورية ودورهن الريادي في انتفاضة الحوض المنجمي ثم في الحراك الثوري الذي عرفته بلادنا في 2010-2011 وفي مقاومة حكومة الترويكا وعلى رأسها حركة النهضة وفي إسقاط دستور 1 جوان 2013 (المسيرة الضخمة بمناسبة 13 أوت 2013) وإفشال كل محاولات نسف مبدأ المساواة وتعويضه بمبدأ “التكامل” تارة و”العدل” تارة أخرى. كما أنه لا إشارة في هذه التوطئة إلى المرجعيات الدولية لحقوق الإنسان عامة وحقوق المرأة خاصة وفي مقدمتها الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو). لقد عبّأ قيس سعيد توطئة دستور بكلام حشو لا هدف منه سوى تشويه التاريخ وإعطاء نفسه مكانة بارزة فيه والحال أنه كان غائبا في كل نضالات الشعب التونسي وهو إذ “يدخل” التاريخ اليوم فبوصفه منقلبا على الثورة وعلى مكتسباتها.
غياب التنصيص على المساواة التامة
أما بالنسبة إلى فصول الدستور في حد ذاتها فإنها خلو من التنصيص على مبدأ المساواة التامة بين الجنسين بشكل جدّي وصارم. فقد كرر الفصل الثالث والعشرون ما جاء في الفصل الواحد والعشرين من دستور 2014 الذي جاء فيه: “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وهم سواء أمام القانون”. وهذه الصيغة فيها الكثير من الغش والمغالطة. فقد تبدو للبعض أنها تنصيص على مبدأ المساواة وهي غير ذلك. وليس أدل على ذلك من أن هذه العبارة موجودة تقريبا في كافة الدساتير العربية، من الجزائر إلى المغرب، ومن الكويت إلى سوريا، ومن مصر إلى العراق، كما أننا نجد في هذه الدساتير ما ورد تقريبا في الفصل الحادي والخمسين الوارد في دستور سعيد والمنقول عن دستور 2014 من توصيات للنهوض بأوضاع النساء وتطوير مكاسبهن من باب التلاؤم الشكلي مع بعض التوصيات الواردة في الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد النساء:
“تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها
تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات
تسعى الدولة إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة
تتّخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة”.
ومع ذلك فالجميع يعلم أن تعدد الزوجات والتمييز في الميراث وفي الزواج والتبني وغيرها من مظاهر التمييز، قائمة في هذه البلدان. والسرّ في ذلك يكمن في أمرين اثنين: أولهما أن صيغة “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق….” تخلو من إشارة هامّة نجدها في الدساتير التي تقرّ مبدأ المساواة (دساتير البلدان الغربية والصين وكوبا وفينيزويلا الخ…) وهي “المساواة في الحقوق في كل المجالات” وتُفصّل بعض الدساتير هذه المجالات فتذكر “السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية والاجتماعية”. كما تخلو تلك الصيغة من الإشارة إلى “منع كافة أشكال التمييز بأي ذريعة كانت”. وبالإضافة إلى ذلك لا يكفي الحديث عن الحفاظ عن مكاسب النساء وتطويرها مثلا دون التأكيد الواضح على أن الهدف من ذلك هو تحقيق المساواة التامة والفعلية في كافة المجالات ووضع حد لكافة أشكال التمييز على أساس الجنس وتجريمها.
أما الأمر الثاني وهو الأهم في بلداننا العربية، والذي نفهم من خلاله اللجوء إلى استعمال العبارات العامة والفضفاضة عن المساواة، سواء تعلق بتونس أو غيرها، فيتمثّل في اعتبار الشريعة (أي ما ابتدعه الفقهاء من قوانين في عصورهم وفقا للمصالح التي كانوا يدافعون عنها ووفقا للذهنيات السائدة وقتها) فوق الدستور والقانون. فحين تستعمل عبارة “متساوون في الحقوق….”، فينبغي أن يضاف إليها ضمنيّا “ما عدا ما نصّت عليه الشريعة الإسلامية من تمييز”. فالحقوق إذن تقف عند حد الشريعة، فكل ما لا يتوافق مع الشريعة، يخرج من باب الحقوق، وهو ما يفسر قائمة التحفظات التي تلحقها الأنظمة العربية، بما فيها تونس، بالتوقيع على الاتفاقيات الدولية الخاصة بالقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. وهو ما يفسر الخطر الدائم الذي يهدد مثلا منع تعدد الزوجات وإباحة التبني في تونس. فالقوى الظلامية لا تفوت فرصة للهجوم على مجلة الأحوال الشخصية التي تعتبرها “منافية للشريعة”. وكما أوضحنا فإن دستور قيس سعيد لا يختلف كثيرا عن الدساتير العربية الأخرى التي تنص عن المساواة في الحقوق دون ربطها بشكل واضح بمنع كافة أشكال التمييز في كافة المجالات.
ولكن ربما يتساءل البعض لماذا الإلحاح على ذكر هذه الملاحظة ونحن في تونس تقدمنا أشواطا في تحقيق مكاسب للنساء؟ أليس في هذا خوف لا مبرر له أو مبالغة لا هدف منها سوى استهداف قيس سعيد؟ بالطبع لا. فلا خوف دون مبرر ولا مبالغة للتشويه وإنما كل ذلك قائم على ما جاء في دستور قيس سعيد من مخاطر جدية. لقد عاد بنا دستور قيس سعيد أشواطا كبيرة إلى الوراء. فقد ألغى أولا الفصل الذي ينص في دستور 2014 على مدنية الدولة القائمة على مبدأ المواطنة (الفصل الثاني). كما أنه أضاف فصلا يمكن اعتماده لتصفية مكاسب المرأة التونسية ومنها ما ورد في مجلة الأحوال الشخصية. ينص الفصل الخامس على ما يلي: “تونس جزء من الأمة الإسلامية وعلى الدولة وحدها تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية”. لقد خرج بنا سعيد هنا من مجال الانتماء القومي بالمعنى الحديث إلى مجال الانتماء الديني العام والفضفاض “الأمة الإسلامية” ليحشرنا في مجال “دولنة الشريعة” أو التزام “الدولة وحدها” بتحقيق ما جاء في الشريعة، وهو المقصود بمقاصد الإسلام من باب التحيّل على العقول إذ المتعارف والمتداول عند الناس هو مقاصد الشريعة لا مقاصد الإسلام، فللإسلام أركانه الخمسة وللشريعة مبادئها الخمسة التي ذكرها سعيد في دستوره. وهذا الفصل قادر على أن يكون المرتكز لمراجعة كل مكتسبات المرأة التقدمية بعنوان تعارضها مع الشريعة. ولا ينبغي الاعتقاد أن إضافة سعيد في “تصويباته” عبارة “في ظل نظام ديمقراطي” لنص الفصل الخامس يغير شيئا مما يريده أو يضيف إليه شيئا. لقد أضاف هذه العبارة للتمويه تحت ضغط الرأي العام الديمقراطي ولكنه حافظ على الجوهر. وهو ما يجعل من التنصيص على المساوة في الحقوق والواجبات (الفصل الثالث والعشرون) والحفاظ على المكاسب وتطويرها (الفصل الواحد والخمسون) مشروط بما جاء في الفصل الخامس أي الالتزام بمقاصد الشريعة كما يؤولها “سيدنا” وبما أننا نعرف جيدا تفكير “سيدنا” المحافظ فإننا ندرك المخاطر التي تهدد مكاسب المرأة التونسية، ويتّضح لنا أننا لم نخرج من مجال توظيف الدين في السياسة والإتجار به وأن معركة سعيّد مع حركة النهضة هي في الحقيقة حول من يحتكر توظيف الدين لا حول هذا التوظيف في حدّ ذاته.
دستور ذكوري، يعادي المساواة
إن دستور قيس سعيد قائم في جوهره على عقلية ذكورية وعلى معاداة المساواة. ولا يمكن هنا الانخداع ببعض التصويبات التي أضافها في “الملحق” بتاريخ 8 جويلية والذي يعد في حد ذاته مهزلة من كل النواحي السياسية والقانونية. ومن أهم هذه التصويبات التي تهمنا في موضوعنا هذا إضافة في الفصل … فهل يعقل أن رئيسا، يعد مشروع دستور “يسهو” عن ذكر حق النساء في الترشح للرئاسة؟ هل هذا يصدقه عاقل؟ ومن التصويبات أيضا تأنيث بعض الكلمات التي وردت في النسخة الأولى في صيغة المذكر فقط (الفصل 58: ناخب/ الفصل 59: مواطن ….) وهنا يطرح نفس السؤال أيضا: هل هذا من باب السهو؟ بالطبع لا. إن العقلية التي تقود قيس سعيد هي عقلية محافظة، ذكورية. ولكن الضغط الذي سلط عليه والنقود التي انهالت عليه دفعته إلى تلك التصحيحات لأن “المؤنث” لم يكن حاضرا في ذهنه أصلا.
ولا تتوقف الأمور عند هذا الحد. فقد تناول دستور سعيد موضوع الأسرة في فصل يتيم ومقتضب وجاف ولا يستجيب لتطور القانون الإنساني، وهو الفصل12: “الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع وعلى الدولة حمايتها”. ففي هذا الفصل لا توجد أدنى إشارة إلى الأسس التي تتكون عليها العلاقات الأسرية من مساواة في الحقوق والواجبات والتضامن في أداء الشأن المنزلي والأسري وتبادل الاحترام. إن المرأة العاملة تعمل خارج المنزل ثم تتولى القيام بالشأن المنزلي وتلقى على عاتقها في غالب الأحيان مهمة ثالثة وهي متابعة دراسة الأطفال. كما أنّه لا تخصيص لبند حول الأمومة ودور الدولة في حمايتها باعتبارها وظيفة اجتماعية تقتضي مساعدة الأم من لحظة الحمل وحتى الولادة وفترة النفاس الأمر الذي يتطلب التنصيص على مجانية الخدمات الطبية أثناء الحمل والوضع وما بعده. وعند الحديث عن الطفولة فلا ذكر لوجوب توفير الدولة المحاضن ورياض الأطفال مجانا أو بأسعار رمزية خاصة للأمهات العاملات. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدستور لا يتعرض بالمرة للعمل المنزلي ولربات البيوت. إن تطور التشريع الإنساني أصبح يعتبر العمل المنزلي نشاطا اقتصاديا يخلق قيمة مضافة ويحقق رفاهية اجتماعية للعائلة تنعكس على المجتمع بأسره بما يعطي لربات البيوت الحق في الحصول آليّا على الضمان الاجتماعي. أما بخصوص العنف ضد النساء الذي تضاعف مرات ومرات في مجتمعنا فإن الدستور يكرر ما جاء في دستور 2014 من كون الدولة “تتخذ التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة”. وبالرغم من صدور قانون في هذا الشأن منذ 2017 (القانون عدد 58 بتاريخ 11 أوت 2017) فإنه لا جدية منذ ذلك الوقت في وضع الآليات الكفيلة بتنفيذ ما جاء في هذا القانون.
هذه بعض الملاحظات السريعة حول دستور قيس سعيد أوردناها لتأكيد طابعه الذكوري، الأبوي وتنبيه نساء تونس إلى أن دستور قيس سعيد لم يأتهنّ بجديد بل إنه يهدد مكاسبهن بما فيه من إضافات (الفصل الخامس) يمكن أن تعتد لمراجعة بعض القوانين والإجراءات التقدمية التي فرضها النساء بنضالهن وتضحياتهن.
مصلحة النساء في رفض دستور سعيد
ومقاطعة الاستفتاء
فماذا تعني مشاركتهن في استفتاء 25 جويلية 2022 غير الموافقة على التراجع في تلك المكاسب؟ أليس النساء مدعوات حقا إلى أن يكنّ في مقدمة الرافضات لدستور سعيد ومقاطعة استفتائه؟ وعلى النساء أن يدركن أن ما ذكرناه من مخاطر تمسهن لا بد من أن تضاف إليها المخاطر الأخرى التي تمس الرجال والنساء معا. ونقصد هنا النظام السياسي الذي يريد إرساءه سعيد وهو نظام الحكم الفردي المطلق. إن قيس سعيد أعطى لنفسه إمكانية التحكم في كل السلطات، (التي حولها إلى مجرد وظائف) التنفيذية والتشريعية والقضائية والتأسيسية دون مراقبة أو محاسبة أو إمكانية عزل. فهو الذي يعين ويقيل ويحل البرلمان ويعين القضاة الخ… ومن البديهي أن حاكما مستبدّا يهذا الشكل لا يمكن أن يكون نصيرا لحرية النساء وحقوقهن. إن النساء لا يتمتعن بحريتهن وحقوقهن إلا في مجتمع حر، تتوفر فيه الحريات والحقوق للجميع. أما قيس سعيد فقد عاد بنا إلى مجتمع الرعية الذي يتحكم فيه فرد واحد، سلطان، أو خليفة، أو مرشد، أو أمير، يتحكم في كافة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والروحية للناس. فكيف لنساء تونس إذن أن يشاركن في استفتاء على دستور يعود ببلدهن إلى مربع الاستبداد وبمجتمعهن إلى مجتمع “الرعية” وهو ما سيكون النساء ضحيته الأولى والرئيسية؟
إن نساء تونس وخاصة الواعيات منهن يجدن أنفسهن اليوم أمام مسؤولية كبيرة عليهن تحمّلها كما تحمّلنها من قبلهن شقيقاتهن في الحركة الوطنية وفي فترة مقاومة الدكتاتورية وفي الثورة وفي فترة ما بعد الثورة… إنهن مطالبات بإيقاف هذا الدكتاتور الشعبوي الذي ينوي القضاء على الأخضر واليابس. ولا ينبغي لأحد أن يخيف نساء تونس بأن عدم مشاركتهن في الاستفتاء سيعيد إليهن حركة النهضة. فقيس سعيد لا يختلف أولا على النهضة فلا أحوال النساء ولا أحوال المجتمع بصورة عامة تحسنت منذ انقلاب 25 جويلية 2021 عما كانت عليه في عهد حكم حركة النهضة حتى نخشى عودتها فليس لدينا جميعا ما نخسر أكثر مما خسرنا ولن تسوء أحوالنا أكثر ممّا ساءت. كما أن الدستور الذي يبشر به سعيّد نساء تونس وشعبها أسوأ بكثير من دستور 2014 الذي عُمّدَ بالدم والتضحيات، زد على ذلك أن نساء تونس لا تخيفهن النهضة ولا أي طرف آخر. فقد وقفن عام 2013 في وجه النهضة وهزمنها فأسقطن دستورها وحكومتها وهن قادرات اليوم على ذلك، بل إن الجمعيات والمنظمات والفعاليات والشخصيات النسائية، كلها اليوم، عدا القلة القليلة التي استولى عليها الطمع، أو أخطأت الاختيار بسبب ضيق الأفق، تقف ضد الاستفتاء المهزلة، وترفض أن تقول “نعم” للدكتاتورية وللاعتداء على مكاسب النساء التونسيات،
وأخيرا وليس آخرا فإن الاختيار لا ينحصر في: إما قيس سعيد وإما النهضة، فلنساء تونس وشعبها خيار آخر مستقل، خيار المشروع الوطني الكبير، الديمقراطي والاجتماعي الذي يحقق المساواة التامة والفعلية لنساء تونس وفي مقدمتهن العاملات والكادحات في المدن والأرياف اللواتي يعانين الأمرين في ظرف الأزمة الحالية، ويربط مع ثورتهن وثورة الشعب عامة ويفتح الباب على تحقيق أهدافها والخروج بتونس من أزمتها والنهوض بها وبشعبها.
فلتقَاطع نساء تونس بقوة الاستفتاء المهزلة والمغشوش لأن المقاطعة وحدها قادرة على إسقاطه سياسيا وعزل صاحبه شعبيا.
لا مشاركة في المهزلة بأي شكل من الأشكال، فقيس سعيد لم يحدد عتبة للمشاركة خوفا من فضيحة مماثلة لفضيحة “الاستشارة الوطنية” الكاذبة ولكن من مصلحته أن تكون نسبة المشاركة مرتفعة، فليكبده نساء تونس هزيمة أشنع من هزيمة “الاستشارة” ولا يوفرن له فرصة التباهي بنسبة مشاركة تمكنه من مواصلة التكلّم باسم “السّيادة الشعبية”.
إن المشاركة بـ”لا” لا معنى لها في مسار قائم أصلا على الباطل، وتغيب فيه أدنى مقومات النزاهة والشفافية وترأسه هيئة منصّبة لا مهمة لها إلا التزوير وهو ما يجعل المشاركة تخدم في كل الحالات قيس سعيد الذي يبحث اليوم بكل الوسائل على توسيع نسبة المشاركة لأن النتيجة قادر على تزويرها عبر أدواته.
ليدوّي صوت نساء تونس عاليا: لا للدكتاتورية والاستبداد، لا للتراجع عن مكاسب النساء.
إنّ الشعبوية حلّ وهمي لمشاكل حقيقية، فلنبحث عن حلول حقيقية لمشاكلنا الحقيقية. وإنّنا لقادرون على ذلك.
ليَسِرْ نساء تونس جنبا إلى جنب مع القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية من أجل وضع حد لحكم الاستبداد والفساد والعمالة بمختلف أجنحته.
لا يوجد استبداد “نظيف” واستبداد “فاسد”، فكل استبداد مُضرّ وفاسد أصلا.
تونس في 17 جويلية 2022