حبيب الزموري
تكشف توطئة الدستور الذي انفرد قيس سعيد بصياغته رغم مسرحية الحوار التي فشل فشلا ذريعا في اخراجها، هوسا بإعادة تشكيل التاريخ وفق رؤية ذاتية انطباعية لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالرؤية الموضوعية التي يستوجبها التعامل مع الأحداث التاريخية، لم يهتم قيس سعيد في توطئته بقيمة الأحداث التاريخية بقدر ما يهتم بتوافقها مع مشروعه الشعبوي التسلطي ليطمس أحداثا ويضخم أخرى في سياق مشروع متكامل لإعادة تشكيل تاريخ البلاد الحديث والمعاصر فهو القائل حرفيا في توطئة دستوره “فكان لا بد من موقع الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية من تصحيح مسار الثورة بل ومن تصحيح مسار التاريخ وهو ما تمّ يوم 25 من شهر جويلية من سنة 2021 تاريخ ذكرى إعلان الجمهورية”. مكلفا نفسه بمهمة رسولية مقدسة غير قابلة للتقييم أو الرقابة حولت التاريخ إلى حديقة خلفية لمشروع حكم فردي تسلطي متعالي يختزل الشعب والدولة في شخصه.
تضخم “الأنا الرسولية” وتعطشها للتسلط هو الذي دفع قيس سعيد إلى إسقاط تاريخ 14 جانفي 2011 يوم سقوط رأس المنظومة النوفمبرية، يوم محاصرة الجماهير الثائرة لقلعة القمع والاضطهاد، من ذاكرة توطئته وإقحام تاريخ 25 جويلية 2021 المصطنع في التوطئة إقحاما فجا في محاولة بائسة لجعله تاريخ انبلاج فجر جديد وتاريخ جديد، إنّ هذا التعسف والاستهتار بالتاريخ في توطئة مشروع الدستور المقترح من قيس سعيد يعكس نزعة شديدة الخطورة لاحتكار الحقيقة وطمس أيّ صوت لا يكون صدى لصوت “الزعيم المعصوم”.
قيس سعيد المفتقر لأيّ تاريخ سياسي – باستثناء تأثيثه لبعض الدورات التكوينية في أكاديمية التجمع الدستوري الديموقراطي ومشاركته في تبرير تنقيح بن علي للدستور سنة 2002 – يبحث عن تأليف سردية تاريخية تطمس الماضي وتزوره. نحن بصدد ولادة مركزية تاريخية – قيسية ستتضح معالمها مستقبلا ما لم يتم إسقاط المشروع الشعبوي في تونس، ستعيد إلى الأذهان المركزية – البورقيبية التي طبعت الكتابة التاريخية طيلة عقود وليس من المستبعد أن تتحول ذكرى “كابوسان” الحملة الانتخابية إلى عيد وطني.
القيام بالمهام الثورية وتصحيح المسار الثوري يستوجب توفر ثوريين مسلحين بالوعي والتنظيم مستعدين لتقديم أقصى التضحيات وشق طريقهم في أحلك الظروف. المشاريع الثورية ليست وليدة الصدفة أو المغامرة ولا يمكن أن تترعرع في مناخ الاستكانة والمهادنة، فلا تقية في المبادئ الثورية ومواجهة الظلم والظالمين. هذا ما يحاول قيس سعيد ومريدوه تغييبه عن النقاش والصراع الفكري والسياسي الدائر اليوم في البلاد وهو ما يفسر تشنج الخطاب الشعبوي وتسلحه بمعجم التخوين والتجريم في ظل غياب المشروع والبرنامج والإرث النضالي.
إنّ هذا الاعتداء السافر على تاريخ حركة التحرر السياسي والاجتماعي في تونس الذي مارسه قيس سعيد في توطئة دستوره لن يفرز إلاّ نفيه من تاريخ النضال الوطني في بلادنا إن عاجلا أو آجلا فأحرف التاريخ التي كتبها في توطئته مزورة، على حد تعبير الشاعر الكبير مظفر النواب، ولا علاقة لها بالملاحم والتضحيات التي سطرها الشعب التونسي طيلة تاريخه الحديث والمعاصر في سبيل التحرر والانعتاق السياسي والاجتماعي على يد أجيال من المناضلات والمناضلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين لم يكن قيس سعيد في أيّ لحظة من حياته واحدا منهم بل غالبا ما كان في المعسكر الآخر.