علي الجلولي
تعرف إيران في الأيام الأخيرة تحركات احتجاجية متنامية اندلعت حين تدخلت “شرطة الأخلاق” لمنع الشابة “مهسا ايميني” التي كانت “سافرة” أي لا تحمل “التشادور” أو الحجاب الفارسي الذي يجب أن يغطي كامل شعر الرأس باعتباره “عورة”، والتي تجرأت على لبس سروال ظل لعقود حكرا على الذكور فحسب. تعرضت “مهسا” إلى الاعتداء ولم تٌحمل إلى المستشفى بالسرعة المطلوبة فوصلته جثة هامدة. لكن إعلان الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي كان سببا في اندلاع احتجاجات سرعان ما توسعت وشملت أغلب مدن البلاد واستهدفت رموز السلطة من مراكز الأمن وسيارات البوليس، ولم تقف عند ذلك بل استهدفت أيضا الرموز السياسية وعلى رأسها خامئني “مرشد الثورة” كما يسمى في النظام السياسي الإيراني، الذي أحرقت صوره وأسقطت من الجدران.
اتسعت التحركات وتوسعت احتجاجا على سياسة القتل والمنع والاضطهاد الذي يشمل كل مكونات إيران العرقية والثقافية والدينية، وفي مقدمة الجميع جمهور النساء الذي تطبق عليه “أحكام الشريعة” والتي تستهدف خاصة اللباس والاختلاط ومجمل الحقوق المرتبطة بذلك رغم الكفاءة والجدارة التي تثبتها المرأة الإيرانية التي خرجت أكثر من مرة للاحتجاج، بل يمكن الجزم أنّ أكثر من تحدى سلطة الملالي هو النساء اللاتي قدن في أكثر من مناسبة حركة الاحتجاج الشعبي التي لم تنطفئ في إيران رغم القمع السافر لقوات النظام الذي يتربع على البلاد منذ ثورة 1979 التي قادها الشعب وسطت عليها الرجعية الدينية بقيادة الخميني الذي أقام نظاما رجعيا متغلفا بالدين وبنظرية ولاية الفقيه الشيعية التي مكنته ومكنت جماعته من الحكم المؤبد لإيران بالحديد والنار.
ورغم إمكانياتها النفطية والزراعية والحرفية الهائلة، فإنّ هيمنة سلطة البازار أي الاليغارشية الفارسية التي ظلت تتحكم في اقتصاد البلاد والتي تتمركز في النشاط التجاري باعتباره شريان النشاط العام ومن ثمة التحكم في مفاصل القرار الاقتصادي والسياسي في تحالف مقدس مع آيات الله. والطابع الديني للنظام كأساس للشرعية القائمة كانت ضحيته جماهير النساء التي تمنع من مجمل حقوقها باسم الدين والأخلاق والهوية. كما تضطهد الأقليات العرقية والدينية بما فيها المسلمون السنة والعرب (في الأهواز خاصة) وتنتهك حقوقها الدنيا خاصة فيما يهم التعبير عن خصوصيات مميزة ومختلفة عن العرق والمذهب السائد وهو مذهب الأمامية الاثناعشرية التي تنظر للفقيه/ الحاكم (علي خامئني اليوم) على أنه “روح مقدس”.
وكما هو معلوم فإنّ المذاهب الشيعية في أغلبها محافظة ورجعية في موضوع النظرة للمرأة، و”الإسلام السياسي” الشيعي مثله مثل شقيقه “الإسلام السياسي السني” تقوده نظرة موغلة في الرجعية للمرأة ، لذلك تعاني المرأة الإيرانية اليوم الأمرين تحت نظام حكم الملالي خاصة بصعود الغلاة مثل الرئيس الحالي” إبراهيم رئيسي” المعروف بتشدده خاصة في القضايا الاجتماعية بما فيها التعاطي مع قضايا النساء. ضمن هذا السياق تتحرك نساء إيران اليوم اللاتي توجهن مباشرة إلى قلب الموضوع وهن اليوم بصدد صنع ملحمة بأتم معنى الكلمة، فلفيف واسع من حرائر إيران تخرجن للتظاهر بوجوه مكشوفة وتجرّأن على خلع خرقة القماش المفروضة على الرؤوس لترمى في النار على أنغام أصواتهن الهادرة وأزيز المقصات وهي تقصّ شعر الحرائر في حركة لها من الرمزية المكثفة الكثير من المعاني، فتطويل الشعر وستره هو ميزة “الفتاة الشريفة العفيفة الأصيلة” أما قص الشعر وتعريته فهو عنوان الانبتات والخروج عن الملة. لقد أعلت نساء إيران الصوت بكونهن قررن الخروج عن الملة التي ليست سوى الخضوع لنظام الملالي.
وفيما تحوز تحركات حرائر إيران وأحرارها تعاطف لفيف واسع من الشعب، وإعجاب ومتابعة أحرار العالم لجرأتها وشجاعتها وتقدمية محتواها الذي يستهدف ضرب المظاهر القروسطية لاضطهاد النساء، فقد تحولت “مهسا” إلى أيقونة ورمز لا في إيران فقط، بل في العالم وفي المقدمة البلدان التي مازالت المرأة فيها تنوء تحت كلاكل الاضطهاد والحرمان والقهر وخاصة في منطقتنا العربية والإسلامية حيث يُغلّف الظلم بجلباب المقدس الديني.
لقد تحولت قضية حرية المرأة وحقها في إعلاء صوتها وتعرية شعرها إلى قضية ملايين النساء في إيران واللاتي اختطفن اللحظة التاريخية للتحرك وخوض معركة التحدي رغم حجم القمع الذي تواجه به السلطة الإيرانية جماهير المحتجات والمحتجين سواء بالإيقافات الواسعة والاعتداءات العنيفة على المتظاهرين ما فيها اطلاق الرصاص وأيضا بقطع الانترنيت وتنظيم حملة إعلامية شعواء لتخوين حركة الاحتجاجات – كما تفعل أنظمة الاستبداد عموما – بادعاء ارتباطها بأطراف خارجية تناوئ النظام وتضغط عليه في إطار المفاوضات النووية.
إنّ هذه الحملات لا تنطلي على محتجات المدن الإيرانية ومحتجّيها الذين خرجوا ضد النظام الذي يقهرهم ويحرمهم الحرية منذ عقود، وهم يتحركون دون أي وهم على مكاييل الدول والمؤسسات الامبريالية التي لا تتوانى عن توظيف نضالهم المشروع من أجل الضغط على النظام. إنّ هذه التحركات تمثل دقا لإسفين في تابوت الأفكار الرجعية الظلامية التي تحكم نظام ولاية الفقيه في إيران التي تستحق شعوبها نظاما ديمقراطيا حداثيا يحقق العدالة والمساواة بنفس القدر الذي يتصدى فيه لمظاهر ونوايا الهيمنة والتدخل الامبريالي والصهيوني.
في 23 سبتمبر 2022