بقلم: حمّه الهمّامي
خيّرت ألّا أردّ عليهم منذ البداية، بل خيّرت تركهم حتّى يتقيّأوا ما في أحشائهم من عفن، من سبّ وشتم وتشويه وحقد وكراهية ونذالة. ولا أخفي أنني انتظرت يوم الاثنين أيضا حتى يكتمل نصاب جوقة “السّاقطين والسّواقط والسقّاط”، ويأخذ بعض أشباه الإعلاميّين “المكلّفين بمهمّة” والذين لا علاقة لهم بـ”مهنة المتاعب”،نصيبهم من وليمة النّذالة حتّى لا يُحرموا من أجْر أو على الأقلّ من شهادة شكر تُحْسَبُ لهم في سلّم ارتقاء “القوّادين” والمأجورين لدى سلطة “الحاكم بأمره”. وكذلك حتّى تتّضح الصورة لدى الرّأي العام ويفهم كيف يمكن جعل “الحبّة قبّة” وتحويلها إلى “قضية” و”موقف” أوّلا لتشويه صورة خصم سياسي تعجز الآلة الرّسميّة ومأجوروها عن مواجهته بالحجّة وثانيا لحرف الاهتمام عن المشاكل الكبرى، السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والأمنيّة، التي يتخبّط فيها عامّة النّاس وتتخبّط فيها البلاد.
ماذا حدث يوم 4 مارس؟
فما الذي حدث يوم السبت 4 مارس 2023 لتنطلق ليلا شرارة حملة رذيلة على حمّه الهمّامي، الأمين العام لحزب العمّال من “سِقْطِ متاع الحشود الفاشية” خاصّة ؟ لقد شاركت، مثلي مثل العديد من المناضلين السياسيّين والحقوقيّين والمثقّفين من النساء والرجال، في المسيرة التي نظّمها الاتحاد العام التونسي للشغل دفاعا عن كيانه في وجه هجوم قيس سعيد السّافر الذي كانت آخر حلقاته عشيّة المسيرة، في كلمة متلفزة بمناسبة استقبال وزير الشؤون الاجتماعية، ممّا يذكّر بأحلك فترات الهجوم على منظمة حشاد من مختلف أنظمة الحكم التي عرفتها بلادنا. لقد شاركت في المسيرة تضامنا وإيمانا منّي بأنّ ضرب الاتحاد، كما بيّنت التجارب السابقة، يفسح المجال للسلطة الفاشية الحاكمة كي تعبث بالوطن والمجتمع وتفرض عليه صمت القبور. وهو ما يجعل من الدفاع عن الاتحاد لا دفاعا عن الشغيلة والحركة النقابية فحسب بل دفاعا عن تونس وحتى عن الذات لأنّ ضرب الاتحاد يُسهّل ضرب كافة القوى الحية في المجتمع ومنها القوى الديمقراطية والتقدمية.
وحين اقتربنا من نقطة الوصول، مقرّ ولاية تونس، هتف بعض المشاركين ومن بينهم بعض شبابنا، بشعار: “يا غنّوشي يا سفّاح، يا قتّال الأرواح”. فهمست إليّ رفيقتي قائلة: “موش وقتو الشعار هذا” فتفاعلت معها: “موش وقتو”، فالتفتت إلى الشباب وقالت لهم بأنّ هذا الشعار “موش وقتو”، واسترسلنا في رفع الشعارات التي تطالب بإطلاق سراح المعتقلين أخيرا لأسباب سياسية. ولا أخفي أنّ ما قادني في اعتبار الشعار المذكور “موش وقتو” في تلك اللحظة بالذات، وبالتالي ليس من المناسب رفعه في مسيرة ذلك اليوم بالذات، لا بشكل عام أو مطلق ولا بمعنى أنّ “زمانه قد ولّى وانتهى”، هو أنّنا، كسياسيين، ضيوف في ذلك اليوم عند الاتحاد العام التونسي للشغل، ولسنا في مسيرة حزبية، من تنظيمنا وتأطيرنا، نرفع فيها ما نشاء من الشعارات، وهو ما يقتضي منطقيّا احترام استقلالية الاتحاد وبالتالي إطار المسيرة وهدفها الذي حدّده منظّموها، حتى لا نتّهم بالسطو عليها مع العلم أنّ الاتحاد يضمّ في صفوفه نقابيين من كل النزعات الفكرية والسياسية. ولكن ليس هذا فقط ما دعاني إلى إبداء تلك الملاحظة. فالمنظمة الشغيلة لا تواجه هجوما غير معلوم المصدر، فالذي يسعى سعيا محموما، في هذه اللحظة التكتيكية، إلى الانقضاض عليها هو قيس سعيد الذي لا يؤمن لا بإعلام حرّ ولا بأحزاب ولا بنقابات ولا بمثقفين ولا بـ”أجسام وسيطة بشكل عام”، وهو ما جعل المنظمة الشغيلة تركّز ردودها وشعاراتها عليه وعلى مشروعه الشعبوي الفاشستي المدعوم من طغاة المنطقة وسادتهم الاستعماريين.
إنّ شعار: “الغنوشي يا سفّاح، يا قتّال الأرواح” في إشارة إلى مسؤولية الرجل وحركته المباشرة وغير المباشرة في موجة الإرهاب التي طالت البلاد ما بين 2012 و2015 خاصة وذهب ضحيتها كلّ من قياديي الجبهة الشعبية الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، رُفِع في جلّ المسيرات والتجمّعات التي شاركنا فيها . ولكن يوم السبت اختلف الإطار لذلك من البديهي أن يختلف السلوك وإن لم يُرفع الشعار في تلك المسيرة فلا يعني أنه لا أو لن يُرفع في مناسبات أخرى. ولكن جوقة “السّاقطين والسّواقط والسقّاط” لا يهمّها ذلك، لا يهمّها لا المكان ولا الزمان ولا المناسبة ولا احترام استقلالية الاتحاد ولا من يستهدف الاتحاد رأسا في اللحظة المعنيّة، إذ أنها تعمل على تحقيق هدف آخر، دنيء، وهو التشويه. إنّ عناصر هذه الجوقة المارقة مناوئون أصلا للاتحاد العام التونسي للشغل ولقيادته وخاصة أمينه العام ومعظمهم لم يحضر المسيرة بل ظلّ يندّد بها ويشيطنها من وراء حاسوب أو في حلقات المقاهي والحانات المغلقة لأنها لا تصطف وراء قيس سعيد. كما أنهم يناوئون كل معارض سياسي أو منتقد لسعيد من إحدى منظمات المجتمع المدني أو من المثقفين والإعلاميين والمبدعين. ومن البديهي أن يكون حزب العمال في مرمى سهامهم وهو الذي قام في وجه الانقلاب الشعبوي الاستبدادي، الفاشستي منذ اللحظة الأولى وحذّر من عواقبه. في هذا السياق بدأوا يوم السبت مباشرة بعد المسيرة حملتهم ضد الأمين العام للاتحاد الذي لم يتورّعوا أحيانا عن تقويله ما لم يقله ووصفوه بأبشع النعوت لا لشيء إلاّ لأنّه انتقد قيس سعيّد وهجومه على الاتحاد والحرّيات مطالبا بإطلاق سراح المساجين السّياسيّين الموقوفين في قضايا رأي. وفي ساعة متأخرة من الليل نزل مقطع فيديو فيه ما دار بيني وبين رفيقتي من كلام ليكون نشره إشارة انطلاق الحملة. نحن لا نعرف من صوّر المقطع ومتى وكيف صوّره. لكنّنا علمنا لاحقا أنّ شخصا كان يلازمنا طوال المسيرة ويحاول التقاط حديثنا. بالطبع نحن نبعث هذا الواشي إلى الجحيم لأننا ننتمي إلى فصيل من المناضلين الذين لا يخفون أفكارهم ويصدعون بها في الوضوح، ويتحمّلون مسؤولية تبعاتها في كل الظروف ولا يلتجئون إلى استعمال الأساليب الملتوية من قبيل “لم نقل ذلك” أو أنّ “كلامنا أُخرج من سياقه”…
انطلاق حملة الجُبن والعار
ما أن نُشر الفيديو إذن حتى نعق الناعقون بصوت واحد: “مانا قلنا لكم حمه الهمامي، حليف النهضة… وضد محاسبة المجرمين والإرهابيين… ولا يتبنى قضية الشهداء ونساها أو أجّلها بدعوى مواجهة سعيد أوّلا…”، وتمت “دبلجة” هذه الأكاذيب والمزاعم بسيل من السب والشتم والتشويه. وليس خافيا على ذي اطّلاع من هم هؤلاء الناعقون. بالطبع ليسوا سياسيين أو إعلاميين أو مثقفين أو مواطنين/مواطنات متابعين للشأن العام ولهم مواقفهم من الأحداث التي قد نتفق معها وقد لا نتفق، وهو أمر طبيعي جدا بالنسبة إلينا، وإنما هم أرهاط من نوع خاص، يظهرون في كل المراحل، خاصة منها مراحل الاستبداد والدكتاتورية، ويغمسون أيديهم في كل المزابل، يجمعهم شيء واحد وهو خدمة “الحاكم” أو “السلطان” والتمسّح على أعتابه بدافع الطمع أو الخوف أو الانتهازية وهي أمراض تضرب اليوم مجتمعنا في العمق وتمثّل مظهرا من مظاهر أزمته. لقد ذكرهم، صديقي الأستاذ أنور القوصري، في “فاصل تنبيري” بتاريخ 5 مارس 2023، بشكل مفصّل. فمن بينهم “مساندو الانقلاب والمسار الفاشي جهار بهار”، ومن بينهم “المتمعشين من الانقلاب أو المتشعبطين فيه” بحثا عن “فتات” ومن بينهم أيضا “جماعة بيْن بيْن، الجالسين بين زوز كراسي”، ممن مازالوا “عاقدين النية” في الانقلاب كي يريحهم من النهضة ومنهم من تحرّكه دوافع ذاتية “وعاملين ليها كراسي سياسية”. ويمكن أن يضاف إليهم البعض ممّن كانوا من “قوّادة” بن علي وغيّروا “المؤجّر” اليوم، ومنهم خادم بعض الأجهزة الاستخباراتية العربية وأحد جراء “دحلان” والمؤيد علنا للتطبيع مع الكيان الصهيوني وهو يتجلبب بجلباب “رجل الإعلام” الخ…
إنّ هؤلاء “يتظاهرون” عامّة بمعاداة حركة النهضة لإيجاد مبرّر لدعمهم انقلاب قيس سعيد واستبداده الزاحف الذي، إذا استمرّ ولم يوضع له حدّ، ستصل شظاياه حتّى إليهم. وإذ أقول “يتظاهرون” فلأنّ معارضتهم لحركة النهضة زائفة. إنّ بعضهم استوزر مع حركة النهضة وبتزكية منها في حكومة يوسف الشاهد سنة 2016 وكان يتنقل من وسيلة إعلام إلى أخرى للتشهير بالاتحاد العام الذي لا يقبل إملاءات صندوق النقد الدولي، وبعضهم أكل على موائد تلك الحركة واستفاد من خدماتها، وبعضهم كان ينسّق معها في البرلمان للحصول على منصب في الداخل أو الخارج وبعضهم لم يكن يضيره الحضور مع الغنوشي في نفس السفارة واقتسام كعكة الحلوى معه والاستماع إلى خطاب السفير وهو يمجّده ويقدمه على أنه “المفكر الإسلامي الفاعل” ولا يردّ الفعل كأن “يتشجّع” ويهتف “غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح” إذا كان فعلا متمسكا بترديد الشعار كما يدّعي في كل وقت وفي كل مكان، أو، وهذا أضعف الإيمان يغادر المكان للاحتجاج ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك. وبعضهم كان “استمتع” بأصوات حركة النهضة في دائرة انتخابية أو حتى في نقابة من النقابات وبعضهم حضر آخر مؤتمر للحركة (2016) وخطب في الحضور شاكرا، مادحا، متمنيا النجاح والتوفيق لأصحاب المؤتمر ولم يقرأ لهم شعرا لمظفّر النواب أو غيره فيه إيحاء إلى أنّ من بينهم مجرمين وقتلة، وبعضهم كان في الجامعة يقف إلى جانب الطلبة “الإسلاميين” باسم “القومية العربية”، وهي في ناصريتها التقدمية، منه براء، ليعتدي على طلبة اليسار… يضاف إلى هؤلاء بعض المصابين بداء عداء حزب العمال ولهم رغبة جامحة في تصفية حساباتهم الشخصية معه مستغلين كل هجمة عليه حتى لو كانت من “سقط متاع الحشود الفاشية” مستعملين نفس أسلحة حركة النهضة التي يتظاهرون بمعاداتها بل يتجاوزونها أحيانا في السب والشتم والتشهير.
وبالإضافة إلى كل هذا، وهو ما يخفيه هؤلاء الأرهاط المصابون بـ”متلازمة حركة النهضة”{Syndrome d’Ennahdha}، فإنّ قيس سعيد شخصية محافظة، تتموقع في عدّة قضايا على يمين حركة النّهضة، وهي أقرب إلى حزب التّحرير في تطرّفها منها إلى الإخوان المسلمين. ويتذكّر الجميع موقفه من المساواة بين الجنسين في خطاب 12 أوت 2020 وموقفه من مدنيّة الدّولة ومن حكم الإعدام ومن الأقليات وأخيرا من أفارقة جنوب الصّحراء الذي كشف الطّابع المقيت لعنصريّته التي لا تختلف في شيء عن عنصرية عتاة اليمين المتطرّف العنصري الأوروبي.
ومن جهة أخرى فإنّ العديد من هؤلاء يوظف بل يتاجر بدم الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي لإخفاء تواطئه مع الفاشية الشعبوية الزاحفة، وهو ما يسيء إلى الشهيدين اللذين لم يهادنا يوما الدكتاتورية ولم يتذرّعا بـ”مقاومة النهضة” لكي يتذلّلا لأيّ شكل من أشكالها بل كانا يدركان جوهر التناقضات في الساحة ويرسمان حدود التمايز مع كل طرف… وما من شكّ في أنّ زملاء شكري بلعيد في المحاماة كانوا يعلمون اتساع دائرة ضحايا القمع الذين كان يدافع عنهم والتي كانت تشمل حتى خصومه الفكريين والسياسيين…وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحاج محمد البراهمي فلم يكن في عرفه تبرير الاستبداد والفاشية بأية تعلّة كانت. لقد اجتمع كل هؤلاء في جوقة واحدة لشن هجومهم على حمه الهمامي الأمين العام لحزب العمال للإساءة إليه وإلى الحزب وهم يتهمانهما زورا وبهتانا بأنهما “حليفا” حركة النهضة وأنهما “متخلّيان” عن قضية الشهيدين لسبب واحد وهو أنّ حزب العمال يناهض الانقلاب ويقاوم مشروعه الفاشستي المدعوم داخليا من “الأجهزة الصلبة” ومن حفنة العائلات الثرية وخارجيا من طغاة المنطقة ومن سادتهم الاستعماريين كما قلنا أعلاه. وجميعهم يريد غلق قوس الثورة لأنه ضاق ضرعا خاصة بمكسب الحريات الذي تحقق بالدم لما يوفّره من إمكانات للشعب والقوى الديمقراطية والتقدمية للانتظام والتعبير عن مواقفها والاحتجاج بمختلف الأشكال.
حزب العمال لا يحتاج إلى دروس
إنّ حزب العمال، وهذا ليس من باب المكابرة بل تأكيدا لحقيقة، ليس في حاجة إلى دروس ، وخاصة من أرهاط المأجورين والانتهازيين والآكلين على كل الموائد و”سقط متاع الحشود الفاشية”، في مجال مقاومة حركة النهضة وكل التيارات الظلامية الرجعية. لقد واجههم حزب العمال فكريا وسياسيا وميدانيا منذ بداياتهم وفي أوج قوتهم. وشواهده على ذلك موثقة كتبا ومقالات وصورا… وحتى عندما انخرط حزب العمال سنة 2005 في “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” التي شاركت فيها التيارات الفكرية والسياسية الأساسية المعارضة للدكتاتورية حين كان العديد من ناعقي اليوم إمّا مع بن علي أو مختبئين في جحورهم خوفا من بطشه، لم يتوقف صراع حزب العمال مع “حركة النهضة” التي انخرطت في هذه الهيئة على قاعدة مطالب دنيا واضحة كان المجتمع التونسي في حاجة إليها (حرية التعبير والإعلام، حرية التنظم، العفو التشريعي العام)، وكتاباته شاهدة على ذلك. ومنذ أن وصلت حركة النهضة إلى السلطة بعد الثورة لم يقربها حزب العمال ولم يتحالف أو يحكم معها ولم يهادنها بل ظل معارضا شرسا لها وحمّلها وما يزال مسؤولية تخريب الثورة بمعية حليفها الرئيسي “نداء تونس” وفرعه “تحيا تونس” وبعض الأطراف الأخرى، وهو ما يفسر موقفه اليوم من “جبهة الخلاص” وعدم قبوله التحالف معها، وهو ما نلمسه أيضا في شعاره المرحلي العام: “لا شعبوية، لا دساترة لا إخوانجية”. وبالطبع فإنّ وضع الشعبوية الفاشستية في الصدارة ناجم عن كونها اليوم هي الجاثمة بكلكلها على صدر المجتمع، هي الماسكة بالسلطة ورأس حربة اليمين الرجعي الذي يُدمّر مكتسبات الشعب الديمقراطية والتقدمية ويُجوّعه ويُفقّره ويرهن بلاده للخارج وهو ما يجعل من التركيز عليها، وهذا من أبجديات علم السياسية، تكتيكا واستراتيجية، مدخلا للتغيير العام في البلاد وسدّ الباب أمام الرجعيات الأخرى لكي لا تعود بمجتمعنا إلى الوراء. وفي كلمة فإنّ خط حزب العمال هو التالي: مقاومة الانقلاب الذي هو بصدد تصفية مكاسب الثورة وتركيز نظام حكم فردي مطلق، استبدادي، خدمة لمصالح “الكمبرادور” والرأسمال الاستعماري والأجنبي عامة، بأفق جديد، وطني، ديمقراطي، شعبي، دون عودة لما قبل 25 جويلية 2021 وما قبل 14 جانفي 2011. ولمزيد الشرح: نقاوم الانقلاب ونفتح أعيننا على قوى اليمين الأخرى بما فيها حركة النهضة حتى لا تستثمر الوضع لصالحها وهو ما يعني خوض الصراع معها والعمل على افتكاك قيادة معارضة الانقلاب حتى نتقدم بشعبنا ووطننا إلى الأمام ولا نعود بهما إلى الوراء.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنّ حزب العمال ليس في حاجة إلى من يعطيه دروسا في المطالبة بمحاسبة المجرمين والفاسدين وبكشف الحقيقة في جرائم الاغتيال وفي مقدمتها جريمة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي. لقد اعتبر حزب العمال وما يزال هذه الجريمة جريمة دولة. وكان حاضرا وسيظل حاضرا في كل المعارك من أجل محاسبة المسؤولين عنها، تخطيطا وتنفيذا وتستّرا بأيّ وسيلة كانت، مهما كانت مراكزهم أو انتماءاتهم سواء كانت لحركة النهضة أو أنصار الشريعة أو أجهزة الدولة . وهو لن ينتظر إذنا من أيّ كان وخاصة من المتاجرين اليوم بهذه القضية التي تحوّلت إلى “قميص عثمان”، لتبرير تذيّلهم وعمالتهم للفاشية الزاحفة، لكي يواصل القيام بواجبه. إنّ الذين تخلّوا فعليا عن قضية الشهيدين هم الذين يصفّقون اليوم للانقلاب وللفاشية الزاحفة التي من العار الزجّ باسم الشهيدين في الدفاع عنها لأنّ ذلك يشوّه صورتيهما ويمثّل تنكّرا لتاريخيهما النضالي. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ بعض الأغبياء لم يستخلصوا الدرس من تلاعب الباجي قائد السبسي، الرئيس السابق (2014-2019) بهم يوم منّاهم في حملته الانتخابية بالتحقيق في القضية وخذلهم حين صعد إلى دفّة الرئاسة ثم تذكّرهم بعد ثلاثة أو أربعة أعوام حين اشتد صراعه مع يوسف الشاهد وحركة النهضة واستعملهم في صراعه معهما دون إنجاز أيّ خطوة في اتجاه زحزحة الملف. ولسائل أن يتساءل هل هم مقتنعون حقا اليوم، بأنّ سعيد جاد في كشف الحقيقة أم أنهم، وهو الأرجح، يغالطون الرأي العام خدمة لأغراض فئوية وشخصية ؟ هل نسوا أو تناسوا أنّ سعيد استعمل قضية الشهيدين عام 2022 غطاء لحل المجلس الأعلى للقضاء وتوجيه ضربة للقضاء الذي حوّله، في دستوره، إلى وظيفة لتوظيفه كما يشاء؟
إنّ حزب العمال مقتنع تمام الاقتناع بأنّ كشف حقيقة الاغتيالات له شروطه وأهم تلك الشروط وجود دولة قانون بما تعنيه من احترام للحريات والحقوق والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء، وحق كل شخص، مهما كان جرمه في محاكمة عادلة، وهو ما عمل قيس سعيد على تدميره والتراجع في كل مكسب تحقق في هذا الاتجاه. وكل الخطوات التي خطاها شاهد على ذلك (الأمر 117، “دستور” 2022، المهزلة الانتخابية، القمع العام والشامل للمعارضين السياسيين والنقابيين والإعلاميين والمحتجين، فبركة القضايا والحكم مسبقا وعلنا على ضحايا هذه الفبركة قبل البحث فيها وإحالتها على القضاء…) لذلك فإنه من باب الوهم أو الغباء الاعتقاد بأنّ قيس سعيد، القائم حكمه على “الأجهزة الصلبة”، جادّ في كشف حقيقة الاغتيالات وفي حسم الملفات الكبرى العالقة ومنها المحاسبة. إنّ الشغل الشاغل لقيس سعيد هو تركيز دكتاتوريته وهو من هذه الزاوية يوظف بعض القضايا والملفات لتحقيق هدفه لا غير. وهذا ما لا يفهمه الأغبياء وما يعرفه “الساقطون والسواقط والسقاط” ويساعدون “الحاكم بأمره” عليه طمعا وانتهازية وخوفا.
حزب العمال والدفاع عن القضايا المبدئية
في كل وقت وفي كل ظرف
لقد قلت “موش وقتو” في السياق الذي تحدثت عنه وهو سياق ظرفي، مرتبط بمناسبة محددة، ولا يمكن تحميله أي معنى آخر سوى المعنى الذي حمله. وأنا متمسّك بهذا الموقف. وهو لا يعني لا تخلّيا عن مطلب المحاسبة ولا عن مطلب كشف حقيقة الاغتيالات اللذين يمثلان بندين من بنود برنامج حزبنا. وما يميّز حزب العمال والقوى الديمقراطية والتقدمية الحقة بمختلف نزعاتها وخلافاتها وتقديراتها المتباينة أحيانا، أنها تربط تحقيق هذين المطلبين بمقاومة الفاشية الشعبوية الزاحفة التي تجعل من تحقيقهما أمرا صعبا كلّما تركزت في المجتمع حتى وإن تظاهرت بإقصاء بعض الرؤوس في الجهازين الأمني والقضائي أو اعتقالها أو بحثها. وبالتالي فإنّ التركيز على قيس سعيد لا يعني التخلي عن تيْنك المطلبين أو تأجيلهما وإنما مواصلة النضال لتوفير الشروط التي تسمح بتحقيقهما. كما أنّ كون حركة النهضة لم تعد في السلطة فذلك لا يعني تخلينا عن تحميلها مسؤولية الجرائم المرتكبة على حساب شعبنا ووطننا خلال حكمها بمعية بعض الحلفاء وفي مقدمتهم “نداء تونس” والمطالبة بمحاسبتها ومحاسبة المتورطين معها عن تلك الجرائم في مناخ سياسي وقضائي مناسب للمحاسبة. وعلى هذا الأساس يرفض حزب العمال رفضا مبدئيا محاكمات واعتقالات تصفية الحسابات التي تُنتهك فيها أبسط الحقوق ولا تؤدّي إلى تحقيق مطلب المحاسبة، كما يحصل الآن في عدد من القضايا منها قضية ما يسمى “التآمر على أمن الدولة” التي لا يوجد من بين عناصرها، خلافا لما يروج أيّ قيادي من حركة النهضة (عبد الحميد الجلاصي مستقيل من الحركة منذ مدة). إنّ من يقبل الظلم وانتهاك الحقوق عليه أن ينتظر أن يكون ضحية ذلك الظلم والانتهاك يوم تدور عليه الدائرة. وما أكثر الأمثلة على ذلك في التاريخ. إنّ واجب القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية أن تدافع بقوة عن الحقوق والمبادئ والقيم الأساسية التقدمية لتتحول إلى ثقافة لعموم الشعب وإلى جزء من هويته لسدّ الباب أمام صعود الاستبداد أو الفاشية أو عودتهما. وهذا ما لا يفهمه الأغبياء كما لا يفقهه المأجورون الآكلون على كل الموائد الذين لا يدركون أو ربما هم يتظاهرون بأنهم لا يدركون بأنّ “مؤجّرهم” لا يحترمهم ولا يعيرهم أية أهمية بل إنه يذلّهم باستمرار مصرّحا أمام الناس أنه لا يستشيرهم ولا يأخذ بعين الاعتبار أبسط ملاحظاتهم وبأنهم مطالبون فقط بـالتصفيق الذليل له ولكلّ ما يقوله ويقرّره حتى إذا تراجع عنه مثلما حصل أخيرا بخصوص تصريحاته المتعلقة بـ”مؤامرة أفارقة جنوب الصحراء”.
إنّ حزب العمال لا يساوم في القضايا المبدئية ولا يوجد بالنسبة إليه في هذا الإطار “شيء في وقتو” و”شيء في غير وقتو”. وهذا معلوم لدى الجميع إلاّ من أعمى بصيرته الحقد الطبقي أو الذاتية والانتهازية المقيتة والعمالة للحاكم بأمره. لقد دافع حزب العمال بشكل مبدئي عن المساواة بين النساء والرجال بما في ذلك في مجال الميراث عن حقوق الأقليات وعن إلغاء عقوبة الإعدام وعن تجريم التعذيب مهما كان الضحية وعن حق كل شخص مهما كانت جريمته في محاكمة تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، وغيرها دون مواربة ولم يخش “إضاعة أصوات في الانتخابات” أو “ضرب شعبية” لأنه يدافع عن مشروع ثوري تقدمي لا عن مصالح فئوية ضيقة أو آنيّة كما هو حال الانتهازيين والطامعين في المناصب. أمّا الأنذال الذين يشنون علينا هجومهم فهم يعتبرون، كلما تعلق الأمر بالمبادئ وخاصة بالحقوق والحريات والمساواة، أنّ كل شيء “موش وقتو”. الشيء الوحيد الذي يعتبرونه في”وقتو” هو سير قيس سعيد الحثيث نحو إرساء دكتاتوريته. فهم يبرّرون له كل أعماله بما في ذلك خطابه العنصري الأخير وقبله موجة الاعتقالات السياسية بعنوان “التآمر على أمن الدولة والإرهاب والخيانة الوطنية”، وقبلها اعتداءاته المتكررة على الحريات… ناهيك أنهم صفقوا لاستشارة شعبية دامت ثلاثة أشهر ولم يشارك فيها حسب الأرقام الرسمية سوى 5 بالمائة من الجسم الانتخابي. وصفقوا لدستور كتبه سعيد بنفسه ولنفسه واستولى فيه على كل السلطات وعرضه على استفتاء لم يشارك فيه حتى ثلث الناخبين وصفقوا لمهزلة انتخابية لتنصيب برلمان دمى لم يشارك فيها أكثر من 10 بالمائة من الناخبين… وسكتوا وهم “الأعداء الأشاوس” للصهيونية على كل الأعمال التطبيعية لسعيد وحكومته… وإلى ذلك كله فنحن لا نسمع لهم صوتا بخصوص الدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي يصيب بلادنا وشعبنا (غلاء أسعار، ندرة مواد، تفاقم البطالة والفقر، تفاقم خراب الخدمات العامة…) والناجم عن مواصلة قيس سعيد تنفيذ نفس الاختيارات السابقة لحكمه… بل أكثر من ذلك لا يتورّعون عن التهجم عن الاتحاد العام التونسي للشغل وشيطنته لدفاعه عن حقوق منظوريه الدنيا…
وفي الختام… انعقوا فلن يزيدنا نعيقكم إلاّ ثباتا
وفي كلمة فإنّ هؤلاء الخدم والأزلام هم الذين يشنون علينا اليوم حملة التشويه. وهي نفس الحملة التي يتعرض لها الاتحاد العام التونسي للشغل وأمينه العام. كما يتعرض لها الإعلاميون النزهاء ومعارضو الانقلاب… نقولها ونكرّرها نحن نقبل النقد وحتى التجريح من الجميع سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين أو نقابيين أو حقوقيين أو مواطنين/مواطنات عاديين… فهؤلاء لهم عقول يفكرون بها… ولهم أفكار يؤمنون بها بقطع النظر عن صحتها من خطئها… ولكن الخدم والأزلام لا عقل ولا أفكار ولا أخلاق لهم، “لا حشمة لا جعرة”، فهم مجرد مأمورين في خدمة سيدهم في انتظار مجيء سيّد جديد لينقلبوا عليه ويصبحوا في مقدمة المنددين به… فلا يظنن هؤلاء أنّ نعيقهم يضجرنا… اقبضوا الملايين إن شئتم وابعثوا بها صفحات في التواصل الاجتماعي وانتشروا في الإذاعات والقنوات التلفزية والجرائد وسبّوا واشتموا فلن يؤثر فينا نعيقكم بل إنه يرسّخ قناعتنا بأننا في الطريق الصحيح وإننا لعلى درب النضال والثورة سائرون…
“سر في طريقك ولا يهمّك ما يقوله الآخرون”… هكذا تغنى الشاعر الإيطالي العظيم أليغري دانتي صاحب “الكوميديا الإلهية” دفاعا عن حرّية الرّأي وتمسّكا بالموقف الصحيح في الساعات الصعبة حين تنصبّ سهام الأعداء والخصوم من كل حدب وصوب ولا يبقى إلا حلّ واحد: مقاومة… مقاومة… مقاومة.
ثوّارا كنّا… وثوّارا مازلنا… وثوّرارا سنبقى إلى أبد الآبِدين…
تونس في 9 مارس 2023