يُحيي حرائر العالم وأحراره يوم الثامن من مارس ذكرى اليوم العالمي للمرأة، وهو اليوم الذي يتأنث فيه العالم ليستحضر نضالات النساء على مر العصور من أجل حقوقهن التي ظلت لقرون منتهكة وملغاة، ولينظر في أوضاعهم اليوم والتي رغم المكاسب المهمة هنا وهناك إلاّ أنّ ملايين النساء في عديد البلدان مازلن تعانين من أشكال الاضطهاد والتمييز المختلفة والمتنوعة، وأيضا للنظر فيما يجب فعله على مختلف الصعد لا من أجل تحسين أوضاع المرأة بل وأساسا من أجل ضرب الأسس المادية لاستغلالها واستثنائها.
ولعله من المفيد العودة للتاريخ الحافل من كفاح النساء في مختلف المجتمعات دفاعا عن انسانيتهن التي ظلت صفة حصرية للرجال طيلة قرون طويلة وكان لابد من نضال عنيد وتضحيات جسام كي يعترف المجتمع بإنسانية المرأة كخطوة حاسمة في الاعتراف لها بمجمل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ظلت العنوان الجامع لنضالات النساء خاصة في عصرنا في المجتمعات الرأسمالية كما في غيرها.
وقد خلدت النساء مواعيدا بارزة خطت بالدماء على درب النضال التحرري. ففي يوم الثامن من مارس 1908 خرجت آلاف النساء إلى شوارع نيويورك فيما بات يعرف في سردية الحركة النسائية بمظاهرات الخبز والورد، إذ حملت المتظاهرات قطع الخبز اليابس وباقات الورد إحياء لذكرى النضالات العارمة لنساء نيويورك سنة 1856 التي قابلتها قوات القمع بالحديد والنار رفضا لمطالب عاملات النسيج. كانت مطالب العاملات في الموعدين المذكورين تتمحور حول تحسين ظروف العمل والمساواة مع الرجال في الأجر، فضلا عن المطالبة بالحقوق السياسية التي تهم حق المشاركة في الانتخابات تصويتا وترشحا. لقد كانت مظاهرات الثامن من مارس سنة 1908 إيذانا بولادة حركة نسائية منظمة ذات مطالب واضحة عبّأت حولها العاملات وأيضا الفئات التقدمية من الطبقات الدنيا والوسطى، وفي العام الموالي خرجت الحركة النسائية لإحياء ذكرى نضالات العام الفارط لتتبلور في الأثناء فكرة تحويل يوم الثامن من مارس إلى يوم عالمي للمرأة، وهو ما تبنته الحركة الاشتراكية وخاصة رموزها النسائية مثل كلارا زيتكين وروزا لوكسمبورغ، وقد مثل انتصار الثورة الاشتراكية تكريسا فعليا لمجمل حقوق النساء على مختلف الأصعدة، كما تم إحياء ذكرى الثامن من مارس من قبل الدولة السوفياتية سنة 1918 وتزامن ذلك مع إصدار مراسيم وقوانين غير مسبوقة في التاريخ تمكّن المرأة من كل حقوقها. وقد شكلت تلك المكاسب دافعا لنضال النساء لا في أوروبا فحسب بل في مجمل العالم، وقد قدرت الحركة النسائية على فرض تشريعات جديدة تقنن الحقوق وتكرسها كما فرضت مساحات أكبر للمشاركة العملية مثلها مثل الرجل.
وبفضل تفاني أجيال المناضلات من كل البلدان تم فرض الاعتراف باليوم العالمي للمرأة من قبل جمعية الأمم المتحدة سنة 1977، كما أصدرت هذه الهيئة الدولية عديد الصكوك والمواثيق التي تهم مختلف أوجه الحقوق التي تهم المرأة، وتم بعث آليات لمراقبة مدى التقدم في إحقاق حقوق النساء في مجمل بلدان العالم وخاصة في البلدان التي مازالت تعاني من تخلف اقتصادي واجتماعي أو من تواصل هيمنة العقلية الذكورية البطريركية مثل حال بلادنا أين مازالت جماهير النساء في المدن والأرياف تعانين من مظاهر الميز والاضطهاد بسبب جنسهن رغم التقدم الحاصل في مستوى التشريعات مقارنة خاصة بمحيطنا الحضاري والثقافي.
إنّ المرأة التونسية وخاصة الكادحة والمفقرة مازالت تعاني الميز في ظروف العمل كما في الأجر، في النظرة الدونية من قبل الأوساط الاجتماعية والفكرية الأبوية والرجعية. وتزداد أوضاع النساء تعقيدا بتربع الشعبوية المحافظة على دفة منظومة الحكم، فالحاكم بأمره ينهل من معين الأفكار الظلامية وقد صرح أكثر من مرة برفضه للمساواة بين الجنسين احتكاما إلى أحكام الشريعة، كما أنّ تنفيذ القوانين التقدمية التي تم فرضها بفضل نضال النساء والقوى لتقدمية مثل القانون 58 الخاص بتجريم كل أشكال العنف ضد النساء مازال متعطلا من جهة وضع الآليات التنفيذية ومن جهة الصرامة في تطبيقه خاصة فيما يهم الأشكال الفضة للاستغلال الاقتصادي الذي يجد ترجمته في تنامي ظاهرة “شاحنات الموت” التي تنقل العاملات الفلاحيات مثلما تحمل المواشي، هؤلاء الكادحات اللواتي يعشن أوضاعا كما عاشتها ملايين النساء منذ غابر التاريخ، ومع ذلك فإنّ هذه القضية هي آخر ما يمكن أن يشغل بال الحاكم بأمره. كما أنّ مظاهر تأنيث الفقر والبطالة والعنف المادي والاعتداءات الجنسية ومزيد إشاعة الصورة النمطية الرجعية التي تنهل من الماضي الظلامي والحاضر النيوليبرالي الذي يتفق في سلعنة المرأة وتشيئتها والتعاطي معها باعتبارها كائنا ناقصا ووعاء لذة و”ربة بيت ممتازة” تحضر بكثافة في وسائل الإعلام وبرامج التعليم كخادمة في المطبخ أو عارضة أزياء وراقصة
إنّ نضال النساء المتماسك الذي يزاوج بين النضال الحقوقي/المدني والاقتصادي/الاجتماعي والثقافي/الفكري، هو النضال الذي يربط المطالب بعضها ببعض ولا يختصر آفاق التحرر في هذه الواجهة أو تلك. إنّ تحرّر جماهير النساء هو جزء من تحرّر كامل المجتمع، وذلك لن يكون إلاّ بضرب القاعدة الطبقية للتمييز والظلم والقهر وهي قاعدة التمايز الاجتماعي التي تكرسها اليوم الرأسمالية. إنّ تحرّر النساء الكامل والناجز لن يكون إلاّ في إطار الاشتراكية التي تعيد صياغة المجتمع والثقافة على أسس جديدة تلغي نهائيا أيّ تمييز بين البشر على أيّ أساس كان وفي مقدمته على أساس الجنس. إنّ نساء تونس بما حققنه من مكاسب أتت بنضال عنيد ومتواصل قادرات على مزيد المراكمة بالنضال ضد الشعبوية المحافظة والظلامية والنيوليبرالية المتوحشة على درب خيارات جديدة تحرر البلاد والشعب والنساء.
المكتب الوطني لمساواة
08مارس 2023