الجزء 2/4
ترجمة مرتضى العبيدي
القاعدة الاجتماعية للشعبوية ووظيفتها
تستند الشعبوية إلى البرجوازية الصغيرة، الفقيرة والمهمشة اقتصاديًا وسياسيًا، والمحرومة من مكانتها الاجتماعية. في البلدان التي يهيمن عليها رأس المال الاحتكاري. فالطبقات الحضرية للبرجوازية الصغيرة نمت لعقود من الزمن لتصبح عامل توازن مهمًا للاستقرار السياسي “للديمقراطيات الليبرالية الغربية (كمصدر انتخابي قوي)، لكنها سرعان ما عانت من عملية تفقير ممنهج وإقصاء سياسي مع العولمة وأزمة عام 2008. كذلك، فإن ظهور قطاعات صناعية جديدة، جرّاء التقدم العلمي والتكنولوجي، زاد من إضعاف مكانة البرجوازية المتوسطة والصغيرة.
إن انحدار الطبقات الوسطى وانهيارها (ومن ناحية أخرى الصعود السريع لجماعات جديدة من البرجوازية محدودة العدد والحاصلة على امتيازات كبرى)، أدّى إلى تمزق هذه القاعدة الاجتماعية الأساسية للمجتمع البرجوازي وكان سببا مباشرا لحدوث هذا الزلزال السياسي الشعبوي.
من المهم أن نفهم الفرق بين الأساس الاجتماعي للشعبوية واستخدام البرجوازية الكبرى لها. هذه القاعدة التي تولد من رحم أزمة النظام الرأسمالي الإمبريالي الذي يضرب ويدمر شرائح واسعة من المجتمع، ولا سيما البرجوازية الصغيرة المنفصلة عن أحزابها التقليدية، وهو ما يؤدي الى تقليص القاعدة الاجتماعية للدكتاتورية البورجوازية.
وبالتالي، تواجه البرجوازية سلسلة من الصعوبات في الحفاظ على ديكتاتوريتها بالطرق القديمة والأحزاب القديمة والسياسيين الشيوخ. فيصبح من المستحيل تطبيق سياسات جديدة بأشكال قديمة. فالتناقضات الموجودة على المستويين الداخلي والدولي تدفع الطبقة الحاكمة إلى اللجوء إلى قوى وأساليب حكم جديدة. فتلجأ إلى الغوغائية والخداع. وتنقلب على ما أنشأته بنفسها، أي الأحزاب القديمة، ولو أدى الأمر الى إحداث اختلالات وتصادمات سياسية في مؤسساتها الوطنية والدولية.
فالشعبوية هي استجابة تستخدمها قطاعات من البرجوازية لجملة من الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات الوسطى التي لم تعد تجد الحلول لدى الأحزاب التقليدية. فهذه القطاعات انفصلت وتنفصل اليوم عن أحزاب اليسار البرجوازي التي كانت تمثل قطاعات كبيرة من الطبقات الدنيا وتجد نفسها في الوقت الحاضر، منفصلة عنها.
فالبورجوازية بحاجة إلى أطر سياسية وانتخابية جديدة قادرة على توجيه استياء هذه الشرائح الاجتماعية ضد “عدو” ما (النخب في الأعلى، والمهاجرون في الأسفل) ومنعهم من الثورة على النظام الرأسمالي، العدو الحقيقي.
لذلك هي بحاجة إلى أحزاب برجوازية من نوع جديد، تتكيف مع ظروف الأزمة الاقتصادية الكبرى لعام 2008، ومع تفكُك الرأسمالية، وتدمير دولة الرفاه، ومع الرجعية والاستعداد للحرب. هناك حاجة إليها كبدائل تكتيكية في العديد من البلدان. من هذه الحاجيات، يتم تشكيل ورعاية مثل هذه الأحزاب والحركات الشعبوية.
تخدم الشعبوية الطبقات السائدة في الحفاظ على هيمنتها، وملء الفراغ السياسي الذي خلقته أزمة المعاقل الانتخابية القديمة، وهي نوع من العلاج ضد مرض أحزاب اليسار البورجوازي الجماهيرية، بسبب فقدان قدرتها على التمثيل، واستيعاب ومعالجة وتخطيط الاحتجاج الإصلاحي واحتياجات ومشاعر الطبقات الاجتماعية المتوسطة. وهذا يعني أن الظاهرة الشعبوية لا تقتصر على الغضب الانتخابي.
يمكن أن تأتي الشعبوية من قطاعات وممثلي الطبقات الوسطى، الذين يريدون زيادة سلطتهم من خلال تلقي الدعم الانتخابي، وإثارة استياء الطبقات والشرائح الاجتماعية المتضررة من الأزمة.
يمكن للشعبوية أن تصبح بسرعة قوة سياسية عندما تتدخل العناصر الأكثر رجعية من البرجوازية، وقطاع الصناعات الكبرى والبنوك ومن الذين يتربعون على قمة المؤسسات كعنصر منظم. أما النهج الذي تتبعه الشعبوية عندما يتعلق الأمر بالسلطة فهو نهج القوى الحاسمة للبرجوازية.
الأيديولوجيا والسياسة والخطاب الشعبوي
الشعبوية ليست أيديولوجية متماسكة ومهيكلة، ولكنها أسلوب سياسي، وسلاح للنضال السياسي للأحزاب والحركات البرجوازية الصغيرة منها والكبيرة التي تريد أن تشغل الفضاء السياسي لتحقيق أهدافها. يعتمد هذا الأسلوب على عناصر إيديولوجية معينة ويستخدم أشكالًا من الاتصال بعبارات متفجرة، تبدو “شعبية”، والتي يسعون من خلالها إلى توحيد وتعبئة الطبقات الاجتماعية التي تكون بشكل عام سلبية أو محبطة.
1. ينكر الشعبويون وجود الطبقات وصراعها المتبادل، وينكرون التطور التاريخي للصراع الطبقي والدور الطبقي الثوري للبروليتاريا كموضوع أساسي في الصراع الطبقي. ويزعمون أن المجتمع ينقسم أفقياً إلى مجالين متجانسين لكن متعارضين، الشعب والنخب (“نحن” و “هم”). ومن ثم استبدال التمييز التقليدي اليمين / اليسار بنظام ثنائي القطب “الفوق” / “التحت”.
2. بالنسبة للشعوبيين، السياسة هي التعبير العام عن إرادة الشعب (“الشعب”، “عامة الناس”، “الناس مثلنا”) والأمة، ضد النخبة (التكنوقراط في بروكسل) المعرّفة بأنها صاحبة امتيازات وفاسدة وجشعة. إنهم يعرّفون الناس على أنهم “مجتمع وطني”(communauté nationale)، ويقدمون أنفسهم بطريقة ديماغوجية على أنهم حاملين للقيم والفضائل الإيجابية. يقدم الشعبويون أنفسهم على أنهم الممثلون الشرعيون للشعب والأمة، وهم الوحيدون الذين يستطيعون ترجمة السيادة والإرادة الشعبية والوطنية، على عكس “الأعداء الخارجيين”.
3. على مستوى العمل السياسي، يُظهر الشعبويون أنفسهم على أنهم مناهضون للأحزاب (حتى لو كانوا منتظمين في حزب)، على عكس “السياسة القديمة” و “السياسيين المحترفين”. يستخدمون أشكالًا سياسية منظمة عموديًا (على الرغم من أنهم يدعون الى التنظم “الأفقي” و “الأفقية”) حول قائد يتمتع بشخصية كاريزمية ومدرب عمليا لتحقيق ” جودة الأداء السياسي”. إن الأسلوب التواصلي للشعبويين هو التوجه المباشر والممسرح للناس (خاصة في القطاعات الاجتماعية غير المنظمة)، اعتمادا على نوع من البلاغة والديماغوجية. إنهم يحاولون ضبط الحالة المزاجية للجماهير غير الراضية وخيبة الأمل من الأحزاب الأخرى. إنهم يثيرون مخاوف اجتماعية ويستغلون مطالب الحماية والضمان الاجتماعي ضد العولمة والليبرالية الجديدة، إلخ.
فهم يركزون الهجمات على النخبة، والطائفة ( la caste )، ومن هم “فوق”، وفي بعض البلدان مثل بولندا والنمسا وإيطاليا وغيرها، على “الخطر” الجسيم الذي يشكله المهاجرون. إنهم يخلقون توقعات اقتصادية واجتماعية خاطئة، ووعودًا بإجراءات لفائدة للجماهير، والتي لا يمكن تحقيقها من منطلق احترام معاهدات الاتحاد الأوروبي. إنهم يقدمون حلولاً عملية وفورية للمشاكل القائمة دون الإشارة بوضوح إلى أسبابها الهيكلية.
يدير الشعبويون أشكالًا ووسائل مختلفة للاتصال السياسي: المدونات، والفيسبوك، والتويتر، والإنترنت، والساحات، والتواصل الفردي، والتلفزيون، والصحف، إلخ. يستخدمون لغة وشعارات مبسطة وتقنيات العنف اللفظي والتهديدات والاستفزازات.
والهدف دائما هو الوصول إلى القطاعات المتضررة من الأزمة وتعبئتها وفق أهداف سياسية معينة. من الواضح أن الراديكالية اللفظية للشعبويين لا تتوافق مع أي برنامج لقلب العلاقات الاجتماعية والملكية القائمة، بل لمجرد استبدال الشخصيات الحكومية وتطبيق إجراءات أكثر رجعية ومقنّعة على نحو مُحكم.
4. يمزج الشعبويون أيديولوجيات مختلفة، مثل النيوليبرالية والشوفينية والعنصرية ومعاداة الشيوعية، لتوحيد القوى السياسية الرجعية وتحقيق قاعدة جماهيرية أوسع. على وجه الخصوص، هناك مزج بين الشعبوية والقومية البرجوازية، مما يمثل خطرًا كبيرًا على الطبقة العاملة والعملية الثورية، وعاملاً للتحضير للحرب. الموضوع الرئيسي لمزاعم الشوفينية الشعبوية هو استعادة “السيادة المفقودة”. فشعارهم المفضل هو “أمريكا أولاً (أو فرنسا، إيطاليا، إلخ)”. فالمكوّن القومي هو أكثر ما يخدم بشكل مباشر الطبقات المهيمنة في كل بلد. تعمل التعبيرات الأخرى للشعبوية على الجمع بين التيارات المختلفة التي تلتزم بالشعبوية، لكسب الجماهير وبناء تحالفات سياسية.
إن الأحزاب الشعبوية هي انتخابوية، ومتقلبة بلا حدود. فهي على استعداد لإقامة جميع أنواع التحالفات لتغذية النظام الرأسمالي دون الإطاحة به.
غالبًا ما يستخدمون الاستشارات الشعبية والاستفتاءات العامة لنزع الشرعية وتغيير جوانب النظام البرلماني البرجوازي. عندما يصل الشعبويون إلى السلطة، فإنهم يتماهون مع الدولة (“نحن الدولة”). إنهم يزعمون أنه فقط من خلال تعزيز الدولة البرجوازية يمكن حماية الناس. يزعمون أنهم الممثلون الوحيدون للإرادة الشعبية، ويتعهدون بالاستحواذ على جهاز الدولة والحفاظ على السلطة باسم “الشعب”، مع استبعاد الأحزاب المعارضة. لذا فهم معادون للديمقراطية إلى حد بعيد، ويرفضون الاعتراف بالشرعية السياسية والأخلاقية للقوى السياسية الأخرى ويسعون إلى الاحتكار المطلق للتمثيل السياسي في النظام البرجوازي.