بقلم: جيلاني الهمامي
قرر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماع لهم يوم الاثنين 20 مارس 2023 الذي يصادف ذكرى “عيد الاستقلال” في تونس، وهو اختيار مقصود وفيه أكثر من مغزى، إيفاد وزيري خارجية بلجيكا والبرتغال إلى العاصمة التونسية لنقاش الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بالبلاد. وكان مسؤول العلاقات الخارجية ونائب رئيس الاتحاد الأوروبي الإسباني جوزيف بوريل أعلن في ندوة صحفية إثر هذا الاجتماع أنّ البند الثاني من اتفاقية الشراكة الخاص باحترام الطرفين المتعاقدين باحترام الحريات وحقوق الإنسان كان “على جدول الأعمال” نظرا إلى “الوضع المقلق في تونس” مضيفا “بالنسبة إلينا أمر حتمي ومتأكّد أن نتلافى الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وأن ندعم الشعب التونسي. لا نستطيع أن نغمض أعيينا عمّا يجري هناك (…) سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والإصلاحات الهيكلية الهامة والأساسية من جهة، ومن جهة أخرى استكمال البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي، والذي يجب أن يوقّعه الرئيس التونسي قيس سعيد، هما أمر ضروري…” وختم حديثه حول هذه النقطة قائلا: “سنواصل متابعة الوضع عن كثب وسأطلب من عضوين في مجلس الشؤون الخارجية السفر فورا إلى تونس لتقييم الوضع والعودة بتقرير يُوجّه خطواتنا التالية. كل شيء يجب أن يتم بسرعة، لأن الوضع في تونس خطير جدا جدا. إذا انهارت تونس اقتصاديا أو اجتماعيا، فسنكون في وضع ستصل فيه تدفقات جديدة من المهاجرين إلى أوروبا. يجب أن نتجنب هذا الوضع”.
وكان البرلمان الأوروبي قد صوّت على لائحة نالت موافقة 92 % من أعضائه تضمّنت توصيات حيال تونس من أهمّها تعليق برنامج دعم الاتحاد الأوروبي لوزارتي الداخلية والعدل التونسيتين بعد أن أدان البرلمان “المنحى الاستبدادي” لقيس سعيد الذي “وظّف الوضع الاجتماعي والاقتصادي الكارثي في تونس للانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي التاريخي للبلاد”. كما أدان خطاب قيس سعيد ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء واصفا إياه بالعنصري ودعا السلطات التونسية الى الامتثال للقوانين الدولية والوطنية. وقد قوبلت هذه المواقف الأوروبية من قبل أتباع قيس سعيد في تونس بالتنديد معتبرينها “تدخلا سافرا في الشأن الداخلي” مذكّرين بأن “السيادة الوطنية خط أحمر”. أمّا الأوساط الرسمية التونسية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية فقد اعتمدت خطاب “ضبط النفس” واعتبرت تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيما يخص “انهيار الوضع في تونس” أمرا مبالغا فيه” وأن “هذه الملاحظات الانتقائية تواصل في تجاهل أي مسؤولية عن الوضع السائد في تونس من عام 2011 حتى 25 جويلية 2021” ومن جهته تلافى قيس سعيد الرد المباشر على السلطات الأوروبية معتمدا أسلوب التلميح والتعميم إذ صرّح يوم الاثنين 20 مارس 2023 في القيروان أن تونس “لن تقبل أيّ تدخل خارجي في شؤونها” مضيفا “أنّ تونس لن تفرّط في سيادتها لأحد، لأنّها ليست تحت الحماية ولا الانتداب”.
السّيادة الوطنيّة في ميزان
المزايدات الديماغوجية
يركب الذين انتقدوا الموقف الأوروبي الرسمي الأخير (موقف البرلمان الأوروبي ومجلس وزراء الخارجية) شعار “السيادة الوطنية” دفاعا عن قيس سعيد ومنظومته وهم في الواقع لا علاقة لهم أصلا بالسيادة الوطنية بمفهومها الوطني الحقيقي والمعنى الثوري العميق للكلمة. فهؤلاء الذي يصرخون احتجاجا على الموقف الأوروبي الأخير من قيس سعيد ونظامه ومنحاه الاستبدادي والمعادي للحريات لم نسمع منهم كلمة واحدة عن “السيادة الوطنية” عندما صرّح نفس المسؤول الأول عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي يوم 10 سبتمبر2021 إثر لقائه بقيس سعيد في قصر قرطاج قائلا: “في الواقع، استقبلني للتوّ رئيس الجمهورية، قيس سعيد، الذي أشكره على تبادلاتنا الصادقة والمعمّقة. كما التقيت بالوزير مدير ديوان الرئيس نادية عكاشة والسيدة سهام بوغديري، المكلفة بإدارة وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار. كما التقيت بممثلي الأحزاب السياسية الرئيسية وممثلي المجتمع المدني التونسي. أردت أن أستمع إلى مختلف مكونات المجتمع التونسي وسلطاته، من أجل فهم أفضل للوضع في تعقيده”. ويضيف في ذات التصريح: “لقد نقلت إلى الرئيس قيس سعيد المخاوف الأوروبية بشأن الحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في تونس، القادرة وحدها على ضمان استقرار البلاد وازدهارها. وتشكّل الممارسة الحرة للسلطة التشريعية واستئناف النشاط البرلماني جزءا من هذه المكتسبات ويجب احترامها. كما ناقشنا التحديات الاقتصادية المتزايدة التي تفاقمت بسبب جائحة كوفيد19 . وفي هذا السياق، من المهم قيادة البلد نحو استعادة الاستقرار المؤسّسي من خلال الحفاظ على هذه الأسس الديمقراطية. وهذا، مع الحفاظ على الاهتمام برغبات وتطلعات الشعب التونسي، في إطار حوار مفتوح وشفاف، مما سيجعل من الممكن بدء تونس مرة أخرى على طريق توطيد الديمقراطية”. إن أتباع سعيّد يتجاهلون “خارطة الطريق” هذه التي حددها المسؤول الأوروبي ولم يروا فيها مساسا بالسيادة الوطنية، كما يتجاهلون بقية ما صرح به نفس المسؤول في نفس الإطار: “لقد أحطت علما بعناية بالرسائل التي تلقيتها خلال اجتماعاتي، ولا سيما رسائل فخامة الرئيس قيس سعيد. وفي الأيام المقبلة، سأشارك هذه الرسائل وتحليلاتي مع نظرائي الأوروبيين في مجلس وزراء الخارجية، والمفوضية الأوروبية، والبرلمان الأوروبي، ومع جميع زملائي في مؤسساتنا الأوروبية. وفي نهاية المطاف، سنحدد كيف يمكننا دعم ومرافقة الديمقراطية والاستقرار والازدهار في تونس بشكل أفضل. لأن هذه هي إرادتنا والهدف الذي يحرك زيارتي لتونس”.
هكذا تحدث جوزيف بوريل يوم 10 سبتمبر 2021 وتناقلت وسائل الاعلام تصريحاته وتباهت سلطات قيس سعيد بنجاحها في استرضاء الاتحاد الأوروبي والفوز بتفهمه للتدابير الاستثنائية المتّخذة في إطار الانقلاب. هكذا تكلم جوزيف بوريل المسؤول الأول عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، الذي يتعرض اليوم للانتقاد، دون أن ينبس وقتها واحد من أذناب الشعبوية بكلمة بخصوص السيادة الوطنية. وللتذكير أيضا نعود الى تصريحات المندوب السامي للاتحاد الأوروبي في تونس يوم 12 جويلية 2022 حيث قال “في 25 تموز/يوليو، سيطلب من التونسيين التصويت على دستور جديد. وينبغي أن تكون هذه خطوة هامة في عملية التطبيع المؤسسي واستعادة التوازن الديمقراطي. يُعدّ الاتّحاد الأوروبي شريكا مهمّا لتونس، وعلى هذا النحو، يواصل متابعة العملية السياسية عن كثب، بما في ذلك في الفترة التي تسبق التصويت في 25 يوليو. ونبقى متضامنين مع الشعب التونسي خلال هذه المرحلة الهامة”. ويضيف في ذات التصريح “ما زلنا نتابع عن كثب، مع الاحترام الكامل لسيادة الشعب التونسي، الحالة في البلد، ونذكر بأهمية احترام المكتسبات الديمقراطية، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون، والحقوق والحريات الأساسية لجميع التونسيين من أجل ضمان استقرار البلد وازدهاره”. مثل هذه التصريحات لم تثر حفيظة أنصار الانقلاب ولم تستفزّ مشاعرهم الوطنية الزائفة ولم يطلقوا صرخات التنديد بانتهاك السيادة الوطنية التي نلاحظ اليوم استنفارا دعائيا حولها في أوساط الحكم الشعبوي وأنصاره الذين يحاولون إقناع الرأي العام بأن النزعة الهيمنية الأوروبية حيال تونس وغيرها من بلدان جنوب المتوسط إن كانت ليست بالجديدة فإن قيس سعيد لا مسؤولية له فيها بل هو الذي تجرّأ، على عكس رؤساء عرب آخرين ورؤساء سابقين في تونس، على رفع صوته في وجه الأوروبيين ونزعتهم الاستعمارية. وهو أمر مخالف للواقع تماما إذ أن قيس سعيّد لم يشذّ عن أسلافه في الموقف من الهيمنة الأوروبية وهو يرفع شعار “السيادة الوطنية” من باب المزايدة والمغالطة ذلك ما سنعمل على تبيانه بشكل ملموس وبأكثر ما يمكن من الدقّة.
خطاب نشر الأوهام
في البداية لا بدّ من الاتّفاق حول معنى السّيادة الوطنيّة التي يستعملها الشعبويون اليوم بشكل اعتباطي وديماغوجي. إن السيادة الوطنية من المفاهيم المعقّدة إذ يتشابك فيها مفهوم سيادة الدولة بما تعنيه من مناعة الحدود الوطنية والإقليمية بمفهوم المواطنة وسيادة الشعب ودور المؤسسات التمثيلية والوزن الذي تتمتع به مبادئ العدل والمساواة في تجسيم هذه السيادة على أرض الواقع. وقد تشعّبت هذه المفاهيم أكثر في عصرنا الراهن ببروز العولمة الرّأسمالية وتحوّل مسألة مقاومة الإرهاب والدفاع عن حقوق الانسان إلى قضايا دولية مشتركة تتجاوز الحدود الوطنية بما أعطى مسوّغات عديدة ومتنوعة لما يسمى “بحق التدخل الإنساني والديمقراطي” (droit d’ingérence). وبالطبع فإننا لا نودّ هنا الزيغ بالنقاش إلى التعقيدات التي شهدها هذا الموضوع في مسار تطوّره، ونغرق في البحث في جذوره وفي التطويرات التي طرأت عليه في العلوم السياسية على امتداد أكثر من خمسة قرون ابتداء من تنظيرات الفرنسي جون بودان Jean BODIN وصولا إلى آخر ما ظهر من كتابات في هذا الصدد مرورا بطائفة واسعة من الفلاسفة، وسنكتفي بالتركيز على الجانب السياسي الذي يهمّنا في المقام الأول بعد الشحنة التي ضخّها قيس سعيد وأتباعه في المدة الأخيرة (خلال الشهرين المنقضيين خاصة في مسألة “السيادة الوطنية” والمفاهيم المتصلة بها من قبيل “سيادة تونس” و”الأمن القومي” و”الخونة” و”العملاء” و”أعداء الوطن” و”المرتزقة” و”المؤامرة” و”التآمر” و”يتآمرون على تونس” و”إنقاذ البلاد” و”حرب التحرير الوطني” الداخليّة، وما إلى ذلك من الكلمات والعبارات والمفاهيم التي من أهم مقاصدها دغدغة المشاعر “الوطنية” لدى الجمهور وصرف اهتمامه عن مواطن الفشل في سياسات الدولة العامة ذات المساس المباشر بظروف العيش خاصة، علاوة على ما يجده سعيّد في استعمال هذه الشعارات من سهولة كبيرة في تجييش أتباعه لمساندته في مسار الاستحواذ على كل مفاصل الحكم من جهة وتلجيم خصومه بكل الأشكال بما في ذلك افتعال ملفّات “التآمر” والزجّ بالكثير منهم في السجن من جهة ثانية.
إنّ من يستمع الى قيس سعيد في أحاديثه بهذا الصدد يذهب في ظنه أنه سيتخذ قرارا بإلغاء الاتفاقيات السرية والمعلنة التي تكبل تونس وتنتقص من استقلالها السياسي والاقتصادي. كما يذهب في اعتقاده أن قيس سعيد سيقطع مع سياسة التداين واللهث وراء الهبات أو ما يسمى بالاستثمارات الخارجية والتي هي كلّها، قروضا وهبات واستثمارات، عادة ما تكون مرفقة بشروط وإملاءات الغاية منها ضمان مصلحة الجهة المانحة أو المستثمر الأجنبي أكثر منه ضمان مصالح تونس وشعبها ومستقبل أجيالها، بل إنّ من يستمع الى قيس سعيد يتحدث عن السيادة الوطنية قد يذهب في ظنه أنه أعدّ العدّة كي يستغني عن توريد ما يلزم لتوفير مستلزمات معيشة الشعب من الحبوب والزيوت والأعلاف والأدوية والمحروقات والأقمشة وحتى الملابس القديمة roppa vecchia علاوة على كل أنواع التجهيزات والمواد المصنّعة ونصف المصنّعة وأنه ما عاد في حاجة إلى البلدان التي، وللأسف ارتبط مصير بلادنا بها نتيجة ارتهان اقتصادنا لها وخضوع قرارنا السيادي لإرادتها.
وفي كلمة فإنّ من يستمع الى قيس سعيّد يتحدّث عن السّيادة الوطنية يخيل اليه أنه سيخلص تونس من نمط التنمية الهش الذي فرض عليها بل الذي رضخت له سياسات التنمية المحلية التي لا تخلق ثروة ولا تؤمّن للبلاد استقرارها وأمنها
الغذائي والطاقي والصناعي خاصة منذ بداية السبعينات، هذا النّمط الذي يقوم على المؤسّسات الصغرى والمتوسطة محدودة الفاعلية والنجاعة والذي يقوم قطاعيّا على سياحة تقليدية تعتمد حصريا على عناصر الطبيعة (البحر والشمس) وعلى أسعارها البخسة وعلى فلاحة موجهة إلى التصدير دون أن توفّر الحاجيات الأساسية والغذائية للشعب التونسي وعلى صناعة تحويلية خفيفة موجّهة إلى الخارج.
هذا داخليّا. أما بخصوص السياسة الخارجية فإن من يتابع خطاب سعيد وأتباعه حول السيادة الوطنية يذهب في اعتقاده أن نظام الانقلاب الشعبوي “جادّ” في اعتبار التطبيع مع الكيان الصهيوني “جريمة عظمى” حسب عبارة قيس سعيّد في حملته الانتخابيّة لسنة 2019 وأنّ هذه القولة لم تكن مزايدة لفظية اقتضتها الحاجة إلى كسب السباق نحو قصر قرطاج ولا هي مجرد صيغة خطابية لتسجيل نقاط سبق على حساب المنافسين أو أنّه ليس على علم بجملة الاختراقات الحاصلة في ظل حكمه على أكثر من صعيد سياسي وديبلوماسي وتجاري ومنها مقدم أوّل طائرة في سفرة مباشرة من الكيان الصهيوني إلى جزيرة جربة ومنها حضور وزيره للدفاع في اجتماع الناتو في بولونيا جنبا إلى جنب مع وزير دفاع الكيان الصهيوني وتبادل رئيسة حكومته نجلاء بودن عبارات المجاملة مع رئيس الكيان الصهيوني عل هامش قمة المناخ في شرم الشيخ بمصر وتصريح إبراهيم الرزقي الكاتب العام لنقابة السلك الديبلوماسي بوزارة الخارجية بخصوص استعداد تونس للدخول في مفاوضات سلام مع الكيان الصهيوني إذا طلبت السلطة الفلسطينية ذلك لأن رئيس الكيان، حسب زعمه، “رجل سلام وينادي بالسلام وبإقامة الدولتين”.
الحقائق العنيدة
إن الواقع هو غير ذلك، غير ما قد يتبادر إلى أذهان المغلّطين والمغفّلين. إنّ قيس سعيّد لم يقطع مع سياسة الاقتراض بل استمر فيها ولا يكاد يخلو مجلس وزاري من مصادقة على اتفاقية قرض الأمر الذي جعل نسبة الديون من الناتج الداخلي الخام ترتفع بشكل ملحوظ لتبلغ أكثر من 100 % من النّاتج الوطني الخام، وحتى تهرّبه من وضع توقيعه على وثيقة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض الذي جرى بشأنه ماراطون تفاوض ولم يحسم بعد فإنّه ليس رفضا للقرض من حيث المبدأ بقدر ما هو حرص على ألّا يتورّط في إمضاء سيحسب عليه ويضعف جانبه غدا في المحطّات الانتخابيّة القادمة. ولكن وبالمقابل فإنّه دفع برئيسة حكومته ووزرائه ومحافظ البنك المركزي ليتمسّحوا على أعتاب السعوديّة والعواصم الأوروبيّة والمشاركين في “اجتماعات الربيع” لمجموعة البنك العالمي وصندوق النقد ويستجدوا العواصم الأوروبية بما في ذلك حكومة أقصى اليمين الإيطالية كي تتدخّل لهم لدى صندوق النقد الدولي عسى أن يوافق على منح الحكومة قرضا بـ 1,9 مليار دولار لا يدخل منه للخزينة التونسية سنة 2023 في صورة الحصول عليه إلا مبلغ زهيد (500 مليون دينار) لا يغني ولا يسمن من جوع بالنّظر إلى حجم الاحتياجات المالية لهذه السنة والتي تبلغ حوالي 25 مليار دينار منها حوالي 15 أو 16 مليار دينار من الخارج. يجري كلّ هذا بعلم قيس سعيّد بل بقرار وحرص منه شخصيا. أمّا السّيادة الوطنيّة في هذا الباب فهي لا تعني بالنّسبة إليه سوى مزايدة لفظيّة وتبجّح فارغ من قبيل “أمّك صنّافة” بشأن تصنيف الوكالات الدولية، و”اش دخلهم فينا” وهو ما كلّف تونس”عقابا” غير معلن بأن تمّ الحطّ من الترقيم السّيادي لها إلى الحضيض بشكل وضعها في موضع البلد المفلس غير مأمون الجانب وفاقد الثقة لدى البلدان والمؤسسات المالية المانحة.
وبالإضافة إلى ذلك وخلافا للضوضاء حول السيادة الوطنية فإنّ نمط التنمية المتّبع منذ عهد بورقيبة وخاصة منذ سبعينات القرن الماضي مازال الوصفة المعتمدة إلى اليوم ويجري الضغط بكل الأشكال الاقتصادية والتجارية والمالية والديبلوماسية حتى لا يقع المساس به، كي يبقى اقتصادنا اقتصادا ريعيا غير منتج يعتمد مؤسسات صغرى ومتوسطة ذات رسملة ضعيفة ومحدودة الإنتاجية تمسك به لوبيات فاسدة وكيلة للرأسمال العالمي وفي خدمة الأجنبي. هذا النمط يتجسد في سياسات معروفة كما سبق قوله لا تخلق الثروة ولا تراكم رأس المال وهي بالتالي عاجزة عن بناء اقتصاد وطني قوي ومندمج موجه إلى خدمة الوطن والشعب. هذه هي السياسات التي لم يفكر قيس سعيد مطلقا في تغييرها وتخليص البلاد منها ومن تبعاتها المشؤومة بل بالعكس مازال مستمرا فيها وهو لا يتوانى عن طمأنة كبار الرأسماليين وطغمة المال في تونس وكذلك الأوساط الخارجية التي أمْلتْ علينا منذ عقود هذا الوضع وكرسته في اتفاقيات اقتصادية أبرزها اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1998 واتفاق الشريك المتميز لسنة 2012. إن الدفاع عن السيادة الوطنية الحقيقية يستوجب أولا وقبل كل شيء إخراج بلادنا من الموقع الذي حشرت فيه ضمن التقسيم العالمي للعمل والذي بمقتضاه بقيت تونس من بلدان الهامش فقيرة وتابعة تعيش بفتات القروض والهبات والمنح سوقا للبضائع والخردة والمزابل والنفايات ومصدّرا لبعض المواد الأوّلية التي تحتاجها الاقتصاديات المصنّعة وهامشا لتوطين بعض الأنشطة عند الاقتضاء. إنّ الدفاع عن السيادة الوطنية يتجاوز حدود بعض الحركات الشكلية الدعائية مثل دعوة سفير هذا البلد أو ذاك لتبليغه “احتجاج السلطات التونسية” بشأن بيان أو موقف (سفراء تركيا والمغرب والولايات المتحدة الامريكية) او الانسحاب من لجنة البندقية أو طرد مسؤولة نقابية أوروبية أو منع آخر من دخول البلاد للحضور بدعوة من اتحاد الشغل، فالسيادة الوطنية أعمق من هذا بكثير وينبغي أن تتجسم في قرارات قوية في ملفات جوهرية لا أن يقع حصرها في تصريحات دعائية موجهة إلى كسب إعجاب الأنصار المغلّين والإعداد للحملات الانتخابية القادمة.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى وعلى العكس مما يقال حول “السيادة الوطنية” لم يسبق أن اخترقت مخابرات وبضائع وسياسات الكيان الصهيوني بلادنا وترابنا الوطني وسوقنا وموقفنا في المنظمات الدولية كما تفعله الآن في ظل نظام يدّعي أن “التطبيع خيانة عظمى”. وفوق ذلك يمكن القول إن ما من أحد أضر بالسيادة الوطنية كما أضرّ بها قيس سعيد إذ أنّه أعطى فرصة لكل القوى الامبريالية والرجعية لكي تتدخل بشكل سافر في الشأن التونسي، فبعض قادة الاتحاد الأوروبي، (مكلف العلاقات الخارجية ومكلف الشؤون الاقتصادية…)، وقادة اليمين المتطرف الحاكم في إيطاليا والرئيس الفرنسي ووزير الخارجية الأمريكي وأعضاء الكنغرس والرئيس الجزائري وبابا الفاتيكان وغيرهم من ساسة العالم حشروا أنوفهم في الشأن التونسي كل من زاوية وفي اتجاه معين. وعلى امتداد أكثر من أسبوعين تصدرت تونس نشرات الأخبار الرئيسية في وسائل الإعلام العالمية كما تصدرت جدول أعمال اجتماعات الكثير من المؤسسات السياسية لبلدان أوروبا وأمريكا وغيرهما وعلقت بها وصمة البلد المفلس المهدّد بالانهيار الذي يدعو حاله للشفقة.
خاتمة
كل هذه المعطيات والوقائع تبيّن لنا بشكل دامغ أن السيادة الوطنيّة في قاموس الشعبوية اليمينية المتطرّفة في بلادنا هي مجرد شعار ديماغوجي يرفع للمغالطة وتغطية الفشل الذريع وإلقاء مسؤوليته على الآخرين. أمّا في الواقع فإن التبعية تتفاقم وانتهاك السيادة يتعمّق ويتوسّع في كافة المجالات. وهو ما يقتضي منّا ومن كل الثوريين والتقدميين في بلادنا فضح الدعاية الديماغوجية لقيس سعيّد ونظامه وتوضيح السبيل الحقيقية والجدية لتوفير شروط السيادة الوطنية. إن الاستبداد الشعبوي لا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال إطارا لتحقيق هذه السيادة وتوفير المناعة للوطن. إن الاستبداد هو الإطار الذي تتكرّس فيه التبعية الاقتصادية والمالية والتجارية والأمنية والسياسية وتفرض فيه تبعات ذلك المدمّرة على الطبقة العاملة وباقي الطبقات والفئات الكادحة والشعبيّة لحساب المنتفعين من هذه التبعية أي الأقليات العميلة في الداخل والدول والشركات والمؤسسات المالية في الخارج.
وبالمقابل فإن السيادة الشعبية بما تعنية من حكم ديمقراطي يعكس إرادة الغالبية من المجتمع هي الإطار الفعلي والحقيقي الذي تتحقق فيه السيادة الوطنية بما تعنيه من استقلالية القرار في كافة المجالات واختيار نمط الاقتصاد الوطني المتحرر من التبعية والذي يلبّي حاجيات الشعب المادية والمعنوية وإقامة علاقات مع الدول والتكتلات الأجنبية على قاعدة مبدأ المنفعلة المتبادلة دون خضوع للإملاءات. وهو ما لن يتحقق دون التخلص من نظام التبعية والعمالة الذي تمثل الشعبوية اليمينية المتطرّفة اليوم رأس حربته. لقد تعددت الحكومات منذ إسقاط الدكتاتورية يوم 14 جانفي 2011 ولكن الخيارات الاقتصادية اللاشعبية واللاوطنية بقيت نفسها وهي متواصلة إلى اليوم مع قيس سعيد وحكومته بشكل أتعس وأكثر فجاجة وهو ما يفسّر حالة الانهيار التي تهدد بلادنا وهو ما يتطلب أيضا التسريع بالإنقاذ إذ كلما كان الإنقاذ أسرع كانت الانعكاسات أقل خطورة على ظروف حياة الشعب ومصير الوطن.
جيلاني الهمامي