حزب العمال الشيوعي بفرنسا
ترجمة مرتضى العبيدي
منذ شهر جانفي/ يناير 2023، هزت بلادنا حركة عمالية وشعبية قوية تمثلت في جملة من الإضرابات والمظاهرات. وفي اليوم العاشر للتعبئة أي يوم الثلاثاء 28 مارس تم تحديد موعد جديد من قبل التنسيقية النقابية (intersyndicale) في 6 أفريل. فكيف نفسر هذا الرفض العميق والواسع لهذا الإصلاح المزعوم؟
حركة قادمة من بعيد
منذ نهاية وباء كوفيد، وبشكل أكثر تحديدًا منذ خريف عام 2021 واستئناف النشاط الاقتصادي، تطورت حركات الإضراب من أجل تحسين الأجور في جميع أنحاء البلاد؛ في مؤسسات كبيرة مثل Stellantis (السيارات، Psa سابقًا)، وExxonMobil و TotalEnergies، و RATP (النقل الباريسي)، و Sanofi (الأدوية)، وفي المؤسسات الكبرى للتوزيع … ولكن أيضًا في الشركات الأصغر وخاصة بين شركات المناولة. لقد أدى التضخم الذي تطور منذ العدوان الروسي على أوكرانيا والحرب التي تلت ذلك إلى تغذية حركات الإضراب هذه. لم يكن للمسلسل الانتخابي الطويل (الانتخابات الرئاسية والتشريعية) التي استمرت من جانفي/ يناير إلى جوان/ يونيو 2022 أي تأثير على هذه الإضرابات التي لم تشهد انقطاعًا. لكنها نُفِّذت بالتوازي مع بعضها البعض، فخلق بينها نوعا من التضامن المتبادل، دون أن يؤدي ذلك إلى حركة إضراب عامة. لقد أدت أيام الإضرابات والمظاهرات التي دعت إليها النقابات بالفعل إلى نزول الكثير من الناس إلى الشوارع للمطالبة بزيادة الأجور، كما كان الحال على وجه الخصوص في 29 سبتمبر 2022.
خلال نفس الفترة، نفذت الحكومة إصلاحًا جديدًا للتأمين ضد البطالة، مما أدى إلى تدهور كبير في شروط التعويض. هدفها: تقليص نصيب الثروة الاجتماعية المخصصة للباحثين عن شغل وفي نفس الوقت إجبار المعطلين عن العمل على قبول أي عمل تحت التهديد بإلغاء علاواتهم، وبالتالي ضمان قوة عاملة لقطاعات المهن “المتوترة” (المهن المتوترة هي التي تفوق عروض الشغل فيها الطلب مثل قطاع البناء والأشغال العامة، والمعينات المنزليات، وبعض مهن الصحة). في الوقت نفسه، تم الإعلان عن إصلاح المعاهد الثانوية المهنية، مما يجعل الشباب من أصول شعبية، لقمة سائغة لأرباب العمل. كما تم إجراء إصلاح لقواعد الإسكان لتعزيز حقوق الملاكين، ولا سيما استهداف الأسر الفقيرة التي تعيش حالة من الهشاشة الشديدة.
باختصار، سلسلة من الهجمات ضد جماهير الكادحين في سياق تضخم يؤدي بشكل متزايد إلى خفض الأجر الحقيقي، وبالتالي قدرتهم الشرائية، في حين شهدت أرباح الشركات المُدرجة في البورصة زيادات مذهلة (+ 52٪ في عام 2021).
جانفي/ يناير 2023: الإعلان الحكومي عن الإصلاح المزعوم للمعاشات
في العاشر من جانفي قدمت الحكومة الإصلاح الذي أعلنت عنه خلال حملتها الرئاسية 2022، وهو الإصلاح الثامن منذ 1993! ويهدف إلى تأخير سن التقاعد القانوني إلى 64 سنة (بدلاً من 62 حاليًا). وقد ردّت النقابات بالدعوة إلى الإضراب والتظاهر يوم 19 جانفي.
وحدة نقابية غير مسبوقة
اتحدت جميع نقابات العمال والموظفين (CFDT وCGT وFO وCFE-CGC وCFTC وUnsa و Solidaires وFSU) والمنظمات الشبابية (Fage و Unef و Voix Lycéenne و FIDL و MNL) وراء الدعوة الى رفض المشروع الحكومي وطالبت بسحبه. فكيف نفهم أن نقابة مثل CFDT، التي وافقت دوما على التفاوض وإيجاد حلول وسط مع الحكومة، كما تُقدم نفسها على موقعها الإلكتروني – “CFDT هي نقابة تفضل إيجاد الحلول من خلال الحوار والتفاوض (1) – كيف نفهم انخراطها في هذه الحركة؟
إذن فإن وجود جميع النقابات اليوم في موقع معارضة الإصلاح المزعوم ورفض تأخير سن التقاعد الى 64 سنة والمطالبة بسحبه فذلك لأن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أن 90٪ من الكادحين يعارضون رفع سن التقاعد إلى 64 وتمديد فترة الخصم من الأجور لفائدة صناديق التقاعد.
فإذا كانت الوحدة النقابية الواسعة للغاية التي تم تشكيلها هي انعكاس لرفض واسع النطاق للإصلاح، فإن وحدة المركزيات النقابية أثرت إيجابيا على الحركة.
كيف نفسر مثل هذا الرفض العميق والهائل؟
ذكرنا أعلاه تراكم الاعتداءات على العمال التي نفذتها الحكومات المتعاقبة منذ عدة سنوات، وبشكل أكثر تحديدًا في الفترة القليلة الماضية من قبل ماكرون، الذي يتم توصيفه كرئيس للأثرياء وأرباب العمل. فإذا تمّ اعتبار هذا الإصلاح على أنه الإصلاح الزائد، فذلك بسبب تدهور ظروف العمل والمعيشة للجماهير الكادحة بشكل كبير في السنوات الأخيرة. وإلا فكيف نفسر هذه الصرخة: “أن نعمل سنتان أخريان، سيؤدي بنا الى الموت!”، أو هذا الشعار الذي كُتب على اللافتات التي رفعها الكثير من المتظاهرين: “عمل، مترو، قبو، (أو قبر)، سنتان أخريان لا! “.
إن تعزيز الاستغلال الرأسمالي يتم بكل الوسائل، ليس أقلها تكثيف وتائر العمل. إن البلى الجسدي والنفسي الذي يتعرض له الكادحون يعني أنه في مرحلة ما يمثل تجاوزا لكل الحدود. فمعدل الإنتاجية في فرنسا (على الرغم من انخفاضه منذ كوفيد تحت تأثير عوامل مختلفة) يُعدّ من بين أعلى المعدلات في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE)، مما يؤدّي الى تعدد حوادث الشغل، بما في ذلك الحوادث القاتلة. لقد انخفض متوسط العمر المتوقع لدى العمّال وارتفعت الفجوة بين متوسط العمر المتوقع للكوادر والعمال من 7 إلى 10 سنوات. ربما لعب وباء كوفيد أيضًا دورًا في زيادة الشعور بأن الحياة يمكن أن تختفي فجأة.
إن تدهور الخدمات العامة (الصحة، والتعليم، والنقل، وما إلى ذلك) حيث يكون لدى الموظفين وسائل أقل لإنجاز مهامهم، فيفقدون المصداقية ويتعرضون للمعاملة السيئة من الحرفاء، يجعلهم يفقدون الرغبة في مواصلة العمل لأن الخدمات المقدمة للحرفاء في تدهور مستمر. فكيف يمكنهم إذن الموافقة على العمل سنتين أخريين!
يجب أن نضيف إلى ذلك حقيقة أن ماكرون أزال في عام 2017 أربعة من المعايير العشرة التي يتم اعتمادها لتصنيف خدمة ما على أنها شاقة، مثل رفع الأحمال الثقيلة، والوضعيات المهنية المؤلمة، والتعرض للاهتزازات الميكانيكية وكذلك التعرض للمواد الكيميائية والعوامل الخطرة (الغبار والأبخرة).
على أساس هذا التحليل، وبالاعتماد على ما عبرت عنه الحركة والاهتمام برفع مستوى الاحتجاج ضد النظام الرأسمالي، أنتج حزبنا ووزع آلاف النسخ من ملصق شعاره: “الرأسمالية تحطم الأرواح، لا لسنتين إضافيتين! “، الملصق الذي لاقى نجاحًا كبيرا.
الحجج المضللة والمتغيرة والكاذبة
عند تقديم مشروع الإصلاح هذا، استخدم وزراء الحكومة المختلفون الذين تداولوا على قنوات التلفزيون والإذاعات بدورهم حججًا مختلفة وقبل كل شيء أكاذيب مختلفة.
من ذلك تأكيد وزير العمل أنه بهذا الإصلاح سيحصل مئات الآلاف من المتقاعدين على معاش إجمالي يبلغ 1200 يورو. ومن خلال البحث عن تفاصيل الشروط المطلوبة، تبين أنهم لن يكونوا 1،800،000 كما أعلن في البداية، ولا حتى 200.000، الرقم المعلن لاحقًا، ولكن فقط 20،000 شخص! كان ذلك كافياً لإثارة الريبة والتشكيك في جميع الفوائد الأخرى المزعومة لهذا الإصلاح.
أظهر العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والمتخصصين في عالم العمل ظلم هذا الإصلاح، الذي سيعاقب في المقام الأول الفئات الاجتماعية والمهنية الأكثر تواضعًا (25 ٪ من أفقر الناس يموتون قبل التقاعد) وخاصة النساء. فالمسارات المهنية المبتورة، والعمل بوقت جزئي، والوظائف الهشة بأجور زهيدة، والوظائف المحفوفة بالمخاطر… لا تمكنهم من بلوغ العدد المطلوب من السنوات للحصول على معاشاتهم السنوية كاملة. وعندما يبلغون السن القانوني، تكون أوضاعهم الصحية متهالكة ومعاشاتهم هزيلة (2) (3).
وعندما أراد البعض أن يقنع الحكومة بوجود بدائل لضمان تمويل التقاعد ومنها الترفيع في مساهمات أرباب العمل، سارعت الحكومة في الرد عليهم بأنه “لا يجوز الترفيع في كلفة العمل”
لكن بالنسبة للغالبية العظمى من العمال، ليس هناك مجال لمحاولة إثبات للحكومة أنه توجد بدائل أخرى لهذا الإصلاح. وهذا ما جعل المعارضين له يتمسكون برفض الإصلاح المزعوم وسحبه.
تعطّل الاقتصاد
وأمام رفض الحكومة سماع غضب البلاد، أطلقت التنسيقية النقابية شعار “عرقلة الاقتصاد”. ومنذ ذلك الحين تضاعفت الإضرابات ليس فقط في أيام التعبئة الوطنية بل على مدى عدة أيام وفي قطاعات معينة لأسابيع. تم تعطيل قطاع الطاقة، بما في ذلك القطاع النووي، وخاصة المصافي ومستودعات الوقود من قِبل العمال. ضاعفت RTE (شبكة نقل الكهرباء)، التي توزع الطاقة على الشركات والإدارات والمنازل، عمليات القطع لبعض الشركات أو الإدارات، وعلى العكس من ذلك، أعادت الطاقة إلى المستخدمين الذين حُرموا منها.
كما قام العمال في الشركة الوطنية للسكك الحديدية بإضرابات استمرت عدة أيام. وسد عمال الرصيف الموانئ. كما بدأ عمال النظافة في باريس والمدن الإقليمية الأخرى وكذلك العمال في محطات حرق النفايات إضرابًا لعدة أسابيع. هذه قطاعات مستهدفة بشكل خاص من خلال إلغاء الأنظمة الخاصة التي تستفيد منها. وإذا لم يتم تعطيل شامل للبلاد، فقد تعطل النشاط بشدة في بعض الأحيان وبدأت الحكومة في استخدام التساخير(4). وهنا لا يمكن إنكار أن مستوى التضخم كان بمثابة كابح لتعميم الإضراب حتى لو كان التضامن المادي مع المضربين مهمًا للغاية.
المرور بقوة باستخدام المادة 49.3
أثناء مناقشة الإصلاح في البرلمان، استخدمت الحكومة، التي أرادت التحرك بسرعة، جميع السبل التي يسمح بها الدستور لتسريع المناقشات. لكن مع عدم وجود ضمانات بأن قانونها سيحصل على الأغلبية في التصويت في الجمعية الوطنية، وفي يوم 16 مارس، تولت رئيسة الوزراء إيليزابيت بورن طرح مسؤولية الحكومة باستخدام المادة 49.3 من الدستور (5) التي تسمح لها بتمرير قانون بدون تصويت. وأعقب هذا الاستخدام تقديم اقتراح بتوجيه اللوم قدمته إحدى الكتل البرلمانية. صوتت جميع المعارضة في اليسار واليمين المتطرف وكذلك ثلث النواب من اليمين (LR) لصالح سحب الثقة؛ ولم ينقصها سوى تسعة أصوات فقط لإسقاط الحكومة، مما يدل على حجم عزلتها.
أثار استخدام هذه المادة لتمرير قانون ضد رأي الغالبية العظمى من الجماهير العمالية غضبا عارما وعزز تصميم معارضي الإصلاح. بشكل عفوي، في مساء يوم التصويت، تم تنظيم العديد من المسيرات في جميع أنحاء البلاد. ودخل الشباب، الذي كان حاضرا بشكل محدود حتى ذلك الحين، الحركة بكثافة.
خصائص الحركة
أثارت هذه الحركة ضد إصلاح نظام التقاعد معارضة كبيرة في فرنسا، بدءًا من الطبقة العاملة. إذ أضربت قطاعات كبيرة من العمال، بعضها بطريقة قابلة للتجديد (يتم التصويت على الإضراب كل يوم على عين المكان) أو في المواعيد المحددة من قبل التنسيقية النقابية. ولعبت الاتحادات المحلية (6) دورًا مهمًا في المساعدة في الاعتصامات وتنظيم التضامن: تعطيل الممرات في مفترق الطرقات بالجرارات والآلات الزراعية أو غيرها في المناطق الصناعية والتجارية. ولتمكين أولئك الذين لا يستطيعون الإضراب لأسباب مالية أو لأسباب أخرى، تم تنظيم بعض التظاهرات في أيام السبت. فوجدت عائلات بأكملها نفسها في شوارع المدن في تلك الأيام.
من السمات المميزة لهذه الحركة أنها كانت قوية جدًا ليس فقط في المدن الكبيرة ولكن أيضًا في المدن المتوسطة الحجم وحتى البلدات الصغيرة حيث وجد أكثر من ربع السكان أنفسهم في بعض الأحيان في المظاهرات.
إذا كانت الطبقة العاملة هي العمود الفقري لهذه الحركة، فإن القطاعات الأخرى من الطبقات الشعبية وحتى قطاعات معينة من المديرين التنفيذيين والمهندسين وجدت نفسها في مواجهة هذا الإصلاح. فالمتقاعدون، الذين يدركون قيمة هذا الإنجاز المتمثل في التقاعد في سن الستين، والذي تعرض لهجوم أول سنة 2010 في عهد ساركوزي، ثم في عام 2014 من قبل الوزير الاشتراكي الديمقراطي في حكومة هولاند؛ والمدرسون، الذين لحقهم الإيذاء خلال عهدة ماكرون الأولى ووزير التعليم الرجعي، جي إم بلانكير؛ وكادر الصحة، المنهك أصلا من حالة المستشفى العمومي المتهاوي؛ والوسط الثقافي شديد التفاعل كلما تعلق الأمر بالتراجعات الاجتماعية؛ والنساء، وخاصة المتضررات من هذا الإصلاح، كنّ حاضرات بكثافة في المظاهرات.
أما الشباب، الذي شارك جزأه المناضل والمنظم في المظاهرات منذ البداية، فإنه التحق بالحركة بطريقة أكبر بكثير بعد استخدام الحكومة لـ 49.3. فاحتل الجامعات وعطل المعاهد الثانوية، ومنح طاقة وحيوية أكبر للمواكب والمسيرات. كما أن القمع البوليسي الذي أعقب التمرير القسري للإصلاح في البرلمان كان عنصرًا إضافيا دفع الشباب للانضمام إلى الحراك.
إنها حركة اجتماعية عمالية وشعبية انطلقت بالاحتجاج على إصلاح منظومة التقاعد لتصل الى رفض متزايد لنظام الاستغلال كما يتضح من الشعارات المكتوبة على اللافتات التي رفعها المتظاهرون.
اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي بفرنسا
2023 أبريل
الهوامش:
(1) ـ في عام 2021: مع 26.77٪، أصبحت CFDT المركزية الأولى في القطاع الخاص، متقدماً على CGT بنسبة 22.96٪.
(2) ـ بطالة، مرض، إعاقة، 19٪ فقط من النساء العاملات تستمر حتى سن 67 في الاستفادة من معاش تقاعدي كامل دون خصم.
(3) ـ وفقا لـ INSEE، في عام 2011، بالنسبة لجميع بلدان الاتحاد الأوروبي، كان متوسط مبلغ المعاشات التقاعدية التي تتلقاها جميع النساء اللاتي يبلغن من العمر 65 عامًا أو أكثر، سواء كن متقاعدات أم لا، أقل بنسبة 47 في المائة من نظرائهن الذكور.
(4) ـ التسخير: بموجب القانون الفرنسي، يمكن تسخير الموظفين المضربين عندما تشكل الاضطرابات الناتجة عن الإضراب تهديدًا للنظام العام وعندما يشكل التسخير حلاً ضروريًا لمنع المخاطر.
(5) ـ لاعتماد النص بدون تصويت من قبل الجمعية الوطنية، يمكن لرئيس الوزراء أن يرهن مسؤولية الحكومة من خلال تفعيل المادة 49.3 من الدستور. ثم يُعتبر مشروع القانون معتمدًا إذا لم يتم تمرير اقتراح بتوجيه اللوم إلى الحكومة من قبل الجمعية الوطنية. وعلى العكس من ذلك، إذا تم تمرير اقتراح بتوجيه اللوم، يتم إسقاط الحكومة ورفض النص.
(6) ـ الاتحادات المحلية هي منظمات نقابية شعبية تجمع بين النقابات العمالية أو الأقسام النقابية للشركات في قطاع جغرافي معين.