بقلم إبراهيم العثماني
مقــــــــــــــدّمة:
نجد من الكتّاب من ينذر حياته لخدمة الكلمة ويُفني عمره في عشق الحرف، ويصل أطراف النّهار بآناء اللّيل وهو منكبّ على الطّارف والتّالد في متون الأسفار وكتب الأخبار، ويوزّع وقته بين القراءة والإبداع، والبحث والتّنقيب ويجهد نفسه وهو يقاوم السّائد المتكلّس ويقوّض أسس الرّواسب المكبّلة لتنوير العقول والعائقة لنموّ الملكات الفكريّة.
والأديب الطاهر الهمامي (1947-2009) سليل هذه الجماعة الّتي آلت على نفسها خدمة الثّقافة أينما حلّت، وظلّت مهووسة بالكتابة والجدل والنّقد صباح مساء، وأفنت عمرها وهي مجنّدة لخدمة المبدعين ومناصرة المجدّدين في حلّها وترحالها. وقد تميّزت فترة تدريسه بالجامعة التّونسيّة بغزارة الأنشطة وتنوّعها، وخصوصيّة الإسهامات وتعدّدها، وطرافة المقاربات وتجدّدها. وفي استعراضنا لهذه الأنشطة سيتبيّن القارئ كم هي ثريّة حياته العلميّة في هذه المرحلة !، وماذا أضافت إليه الجامعة التّونسيّة، وماهي الآفاق الّتي انفتحت أمامه؟
ويمكن تقسيم أنشطته إلى قسمين كبيرين أوّلهما داخل أسوار الجامعة وثانيهما خارجها رغم أنّهما متشابكان متفاعلان.
I-الأنشطة داخل الجامعة:
1-التّـــــــدريس:
لن نتوقّف طويلا عند عنصر التدريس والمسائل الّتي تناولها الطّاهر الهمّامي مع طلبته أثناء الفترة الّتي قضّاها بكليّة الآداب بمنّوبة. ذلك أنّنا لا نمتلك وثيقة تستعرض هذه المسائل ونتّخذها منطلقا لدراستنا لكنّنا نتصوّر أنّ مدارها على الشعر وعمدتنا في ذلك ولعه بالشعر إبداعا وتنظيرا منذ فترة شبابه، وتحمّسه للتّجديد وتمرّده على القوالب الجاهزة والدّعوة إلى خلق بدائل تتجاوز السائد (حركة الطّليعة الأدبيّة في نهاية ستينات القرن العشرين وبداية سبعيناته، الواقعيّة في الأدب والفن في ثمانينات القرن العشرين). ومسيرته الحافلة تترجمها بحوثه الجامعيّة (دراسة عن الشابي، وحركة الطّليعة الأدبية، والشعر على الشر) ومجاميعه الشّعريّة وكتاباته النّظريّة. ولعلّ بحوث الطّلبة الّتي أشرف على تأطيرها تؤكّد، مرّة أخرى، هذا المنحى.
2- تأطـير بحــوث الطّـــلبة:
قضّى الطاهر الهمامي سبع عشرة سنة في الجامعة أشرف فيها على سبعة بحوث. ولعلّ هذه النّدرة تعود إلى الفترة الوجيزة الّتي تفرّغ فيها للإشراف على أعمال الطّلبة بعد أن ناقش أطروحة دكتورا الدّولة” الشعر على الشّعر مبحث في الشّعريّة العربيّة من منظور شعر الشّعراء على شعرهم إلى القرن 5ه/11م” يوم 8 جوان 1999 وأصبح القانون يخوّله تأطير مثل هذه الأطروحات. وهي فترة لا تتجاوز ثماني سنوات. وهذه البحوث تمحورت جميعها حول الشّعر:
1) آمنة البوسعيدي: علاقة الشّعر بالمسرح في “مجنون ليلى”- شهادة الماجستير7235 T/ سنة2007.
2) محمّد الطّاهر الجلاّلي: تجمّع “أبولو” الشّعري- شهادة الماجستير 7139 T سنة 2007.
3) سليمة الجوادين: الشّعر التّونسي والنّقد في المائة الأخيرة- شهادة الماجستير 7131 T سنة2007
4) ريم الحمدي: الزّهرات لسعيد أبي بكر- شهادة الماجستير 7163 T سنة 2007.
5) كريم العكرمي: نظريّة الشعر في منظور “شعر” شهادة ال ماجستير7130 T سنة2007.
6) إيناس عميري: التّجربة الرّومنسيّة في الشّعر التّونسي الحديث 1927-1955. –شهادة الماجستير 7252 T سنة2007.
7) عمارة حفيّظ: النصوص البيانية في الشعر العربي الحديث، شهادة الماجستير، سنة 2006
إنّ المتأمّل في عناوين هذه البحوث يخرج بجملة من الاستنتاجات:
أ مدار هذه الدّراسات على الشّعر التّونسي والشّعر العربي ممّا يؤكّد ولع الطاهر الهمامي بالشعر التّونسي من ناحية، وانفتاحه على الشّعر العربي من ناحية أخرى وتجاوز أطروحات الطّليعة الأدبيّة في تونس في بداياتها والمتقوقعة على الذّات التّونسيّة.
ب- أنّ الطّاهر الهمّامي الشّاعر ودارس الشّعر التّونسي ظلّ يوظّف معرفته بالمدوّنة الشّعريّة التّونسيّة لإفادة القارئ التّونسي والقارئ العربي والطّالب المقبل على البحث، والرّاغب في مزيد تعميق معرفته بهذه المدوّنة، والسّاعي إلى تبيّن خصائصها ومقوّماتها للوقوف على أهمّ مميّزاتها وإضافاتها إلى رصيد الشّعر العربي الغنيّ بمدارسه وأعلامه.
ج-نجد صدى لدراسات الأستاذ المشرف في بحوث الطّلبة. ولا نعرف أيّهما أسبق، والمتصفّح لكتابي “حفيف الكتابة فحيح القراءة- قضايا ونصوص تونسيّة (2006)، حفيف الكتابة فحيح القراءة- قضايا نظريّة ونصوص عربيّة (2007) يدرك دون عناء هذا الصّدى حيث نقرأ في الجزء الأوّل”حصاد القرن العشرين من الأدب التّونسي”(ص9-29)، و”سعيد أبو بكر في الزّهرات: قصائد قصيرة وقضايا كبيرة”(ص157-171)، وفي الجزء الثّاني “دوران الكلام على الكلام في “مجنون ليلى” لأحمد شوقي” (ص 111-132).
د-إلاّ أنّ الطّلبة البحّاثة لم يقصروا اهتمامهم على الشّعر التّونسي فحسب وقد يكون للأستاذ المشرف دور في توجيههم نحو مدارس شعريّة أحدثت منعرجا في مسار الشّعر العربي من نحو جماعة “أبولو” المصريّة و”شعر” اللّبنانيّة. ونحن لا نعتقد أنّ هذا الاختيار عفويّ. فجماعة “أبولو” حركة شعريّة تجديديّة رومنطيقية ظهرت بعد انفراط عقد مدرسة “الدّيوان ” لعبد الرحمان شكري وإبراهيم عبد القادر المازني والعقاد، واتّخذت من مجلّة “أبولو” الّتي أسّسها أحمد زكي أبو شادي سنة 1932 منبرا لدعم آرائها. ومن أهمّ أعلامها أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وأبو القاسم الشابي، وعلي محمود طه. أمّا مجلّة “شعر” اللّبنانيّة (1957-1964) فقد رفعت لواء التّجديد على أيدي الجماعة المؤسّسة من أمثال يوسف الخال، وأدونيس، وخليل حاوي، ونذير العظمة. وقد أرسى يوسف الخال الأسس النّظريّة لحركة الشعر الجديد في محاضرة موسومة بـ”مستقبل الشعر العربي في لبنان.” ويجد القارئ في العدد الثاني من مجلة” شعر” المبادئ التي تقوم عليها فلسفة هذه المجلة (شعر2 ربيع 1957 ص-96-99). وهكذا ظلّ الطاهر يزرع بذرة التّجديد أكان كاتبا أم مؤطّرا.
ه- وبما أنّ الطاهر الهمّامي عُرف بنزعته التّجديديّة فقد ظلّ يرصد مظاهر التّجديد في أيّ أثر يُكتب ولا يقف عند المدارس الكبرى. لذا اهتمّ بعلاقة الشّعر بالمسرح في “مجنون ليلى” لأحمد شوقي لأنّ تداخل الأجناس الأدبيّة في الأثر الواحد أصبح من المسائل الّتي تستقطب اهتمام نقاد الأدب في العقود الأخيرة.
نتبيّن إذن رغبة الطاهر الهمامي في حثّ الطلبة على تعميق معرفتهم بعالم الشّعر ومزيد تملّك آليّات البحث. لكنّه لم يعتكف على تدريس الشّعر وتأطير الطّلبة ولم يقصر اهتمامه على النّظريّة والتّنظير ولم يكتف بهذه الأنشطة فقد أبى إلاّ أن يحرّك سواكن الطّلبة ويصقل مواهبهم ويشجّعهم على المنافسة والتّميّز من خلال بعث مهرجان شعري سنوي سُمّي باسمهم يتبارى فيه الطّلبة/ شعراء المستقبل ويحضره، أحيانا، شعراء من تونس ومن المشرق العربي نحتوا أسماءهم بأحرف من ذهب وأصبحوا مراجع تُحتذى.
3-مهـــرجان الطّـــــلبة الشّــعراء:
ما إن التحق الطّاهر الهمّامي بكليّة الآداب بجامعة منّوبة حتّى أسّس مهرجانا للشّعر يلتقي فيه طلبة جامعات تونس لإلقاء قصائدهم وإخضاعها للنّقد والتّقويم من قبل أساتذة جامعيّين جمعوا بين قول الشّعر وتدريسه ودراسته…وقد كانت هذه الأيّام مهرجانا حقيقيّا تتلاقح فيه التّجارب وتتنافس فيه المواهب ويتوّج فيه المتميّزون.
وقد لا يكتفي الطّاهر الهمّامي بإلقاء كلمة الافتتاح وتنشيط الدورة بل نجده يبادر، أحيانا، إلى نقل فعاليّات إحدى دورات المهرجان ونشرها في الصّحف لإطلاع القارئ عليها كما فعل مع الدّورة الحادية عشرة المنعقدة في شهر مارس 2002 من خلال مقال موسوم بـ”فدوى طوقان بكلية الآداب منوبة-الكلمة الجميلة المقاتلة في أيّام شعريّة حافلة” (مجلّة حقائق-عدد846 من14 إلى20/3/2002 ص ص20/21). وتحدّث عن مداخلة الأستاذة رجاء بن سلامة في “المقاومة الشّعريّة” ورسالة فدوى طوقان الّتي حرمها المرض من حضور الأيّام الشّعريّة، وتوقّف عند القراءات الشّعريّة الطلاّبيّة “الّتي جمعت 30شاعرا وشاعرة من الكلية أساسا، فكشفت عن مشهد شعري متنوّع الأشكال والرّؤى والمضامين يبدأ من قلب الذّات الحميمة لينتهي إلى الهموم الوطنيّة والقوميّة وفي مقدّمتها انتفاضة الشّعب الفلسطيني” (ص21).
وكانت الجلسة الختاميّة متميّزة بدءا بالكلمة الّتي استهلّ بها الطّاهر الدّورة، مرورا بإلقاء الشّعراء قصائدهم وانتهاء بالشّاعرة الفلسطينيّة عائشة الخواجة وشاعرات تونس جميلة الماجري وفضيلة الشابي وآمال موسى والشّاعر حسين العوري.
وهكذا استمرّت هذه الأيّام على هذا المنوال وتوالت دوراتها بانتظام، ولمّا أحيل الطّاهر المؤسّس على التّقاعد (سنة2007) ارتأت هيئة تنظيم المهرجان تكريمه في الدّورة السّادسة عشرة (مارس 2008) اعترافا له بالجميل وتقديرا لما بذله من جهد لتطوير ملكات الطلبة ومزيد إشعاع الجامعة.
وقد اكتسى هذا التّكريم طابعا احتفاليّا: تسلّم باقة ورد من رفيق دربه الشّاعر محمد الحبيب الزناد، تقديم الأستاذ محمد الطيب قراءة في قصيدته” شعب بوّان أو فج نعسان”، وقراءة في قصيدة” شجن الزّهور الهاوية” من مجموعة “اسكني يا جراح” قدّمها الأستاذ حسين العوري (انظر: “الأيّام الشّعريّة بمنّوبة تكرّم مؤسّسها الأستاذ الطّاهر الهمّامي ” صحيفة” الموقف”/عدد1429-28 مارس2008 ص9).
كان الطّاهر الهمّامي مبادرا إلى تأسيس هذا المهرجان، عنصرا فاعلا في دوراته المتلاحقة وانتظام انعقادها، مساهما في تجاوز إشعاعه أسوار الجامعة وذلك بحضور نخبة من شعراء تونس والأقطار العربيّة.
لكنّ نشاطه لم يقتصر على التّدريس وتنشيط السّاحة الجامعيّة فقد مكّنته الجامعة من نسج علاقات وطيدة مع جامعيّين في الجزائر والمغرب وسوريا والأردن، وكانت له زيارات متواترة ومشاركات فعّالة وأنشطة حثيثة هنا وهناك تراوحت من المداخلات النّظريّة إلى إلقاء الشّعر في الأمسيات الشّعريّة.
II –الأنشطة خارج أسوار الجامعة :
1-المشاركة في النّدوات الأدبيّة والمهرجانات الشّعريّة:
دأبت الجامعات في مختلف أنحاء العالم على عقد النّدوات الأدبيّة والملتقيات النّقديّة والمؤتمرات الفكريّة لتطارح القضايا المستجدّة وتبادل التّجارب الخاصّة والاطّلاع على المناهج الحديثة. ولم تشذّ الجامعات العربيّة، مشرقا ومغربا، عن هذه القاعدة فكانت مثل هذه اللّقاءات مناسبة يتداعى فيها الأساتذة لتقديم المحاضرات وتبادل التّجارب. وقد كان للطّاهر الهمّامي حضور متميّز ذلك أنّه لم يكتف بالمشاركة والحديث عن الأدب التّونسي والتّعريف بجوانب منه بل كان يحاضر ويسجّل ما يدور بين المشاركين ويحاور، أحيانا، نقّادا مرموقين وينشر في الصّحف التّونسيّة عصارة هذه اللّقاءات.
ففي مدينة إربد بالأردن انعقد مؤتمر النّقد الأدبي الثّامن ليعالج موضوع “منطلقات التّفكير النّقدي العربي في القرن 20”. وقد كان الطّاهر من المشاركين فيه بمداخلة موسومة ب “النّقد الطّليعي ومحنة الانبهار” ( انظر الطاهر الهمّامي: “القمّة العربيّة” النّقديّة الأدبيّة الثّامنة- سؤال التّبعيّة: وعي متباعد، أجوبة متباعدة ! –مجلّة” حقائق” عدد765 من24 إلى 30/8/2000 ص ص18/19).
وفي كلية الآداب ظهر المهراز بجامعة سيدي محمد بن عبد اللّه بفاس بالمغرب حاضر عن” تخييل معنى سير الشّعر عند القدماء” (انظر الطّاهر الهمّامي: ندوة فاس- النصّ الأدبي بين الواقعي والمتخيّل- مجلّة “الحياة الثّقافيّة” س26/ العدد127/ سبتمبر2001/ ص107.)
وقد كانت للطاهر الهمامي علاقة متميّزة بالرّوائي الجزائري الطّاهر وطّار صاحب الجمعيّة الثّقافيّة” الجاحظيّة” الّتي اتّخذها منبرا مكرّسا لقضايا الأدب المغاربي وتطارح مشاغل الشّعراء ومعرفة خصوصيّة مختلف التّجارب الشّعريّة هنا وهناك. لذا لم يتخلّف الطّاهر عن الحضور والمشاركة وإطلاع النقّاد المغاربة على خصائص التّجربة الشّعريّة التّونسيّة من خلال مداخلة موسومة ب” القصيدة التّجريبيّة في تونس: أوهام التّحديث” (انظر الطّاهر الهمّامي: “الجاحظيّة” تنظّم ندوة راهن الشّعر المغاربي من الرّومنسيّة إلى التّجريب إلى الصّوفيّة!”- مجلّة “حقائق” عدد831 –من 29/11 إلى05/12/2001 ص 19.)
أمّا زياراته لسوريا فقد تواترت، وجلساته الأدبيّة مع كتّاب حلب الشّهباء فقد تكرّرت، وعلاقاته بأدباء حمص فقد توطّدت. لذا وجدناه ينشد الشّعر في المهرجانات الثّقافيّة ويزور المواقع الأثرية للوقوف على أطلال فطاحل الشّعر العربي ويعود محمّلا بالدّواوين الشّعريّة وكأنّه استطاب المقام هناك واستعذب اللّقاءات الشّعريّة واستمرأ الجلوس في الحدائق الغنّاء. وقد ظلّ يسجّل كلّ ذلك بالكلمة والصّورة أحيانا:
*أيّام في الشّام بين يقظة ومنام (حقائق عدد765- من 24 إلى 30/08/ 2000 ص 15).
*عائد من الشّام-مهرجان الشّعر23 في حمص: انتفاضة الأقصى هي القصيدة العربيّة الخالدة/ (حقائق عدد816- من 16 إلى 22/8/2001- ص16) مع صورة للأديب محمد ديب الزهر والأستاذ الأديب محمد غازي التّدمري.
*أشعار شجيّة من الأرض الخفيّة: مهرجان الشّعر بحمص – قراءة في مجموعة من النّصوص الشّعريّة الّتي عاد محمّلا بها من الشّام / حقائق عدد794 /من 15/ إلى 21/3/2001 ص18.
*الرحالة الصبّ في مغاني حلب- جريدة “الشّعب” (لسان الاتحاد العام التّونسي للشّغل) عدد924/ السبت30جوان2007 ص20 مع صورة للطّاهر وهو ينشد شعرا.
وقد كانت له حوارات أثناء هذه الزّيارات أو على هامش انعقاد ندوة أدبيّة في تونس أو بمناسبة زيارة شاعر مشرقي للبلاد. وسنقتصر في هذا المجال على عنوان الحوار وتاريخه حتّى لا نثقل كاهل المقال.
2-الحـــــــوارات:
*ساعة مع الباحث السّوري محمّد قُجّة مكتشف منزل المتنبّي في حلب، مجلّة “حقائق” عدد818، من 30/08/ إلى 04/09/ 2001 ص ص19/20.
*حوار مع الرّوائي الجزائري الطّاهر وطّار:استفدت استفادة عظيمة من بيرم والدّوعاجي والمسعدي- طبعت المرحلة التّونسيّة شخصيّتي- حقائق عدد834 /من 20 إلى 26/12/2001 ص ص20/21.
* ولمّا زار الأستاذ الجامعي محمّد خرماش كلية الآداب بمنّوبة استغلّ هذه المناسبة وأجرى معه حوارا اختار له من العناوين: “ساعة مع الباحث المغربي، الدّكتور محمّد خرماش: الثّقافات العربيّة قادرة على الصّمود والتّفاعل مع الثّقافات الأجنبيّة في زمن العولمة وفي غيره، حقائق عدد822- من 27/09/ إلى 03/10/2001 ص ص20/21.
*كما أجرى حوارا مع الشّاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد أثناء وجوده بتونس :” الشّاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد “لحقائق”: أضاف لنا الحصار معاناة ما كنّا نعرفها من قبل.
البيّاتي شاعر دون الوسط !- حقائق عدد785 من 11إلى 17/01/2001- ص ص16/17.
وانتهز حلول الشّاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي ضيفا على تونس ليكتب مقالا يستحضر فيه بداية علاقته بهذا الشّاعر ثمّ تحدّث عن الأمسية الشّعريّة الّتي قدّمها يوم الأربعاء 18 أفريل2001 بكلية الآداب بمنوبة وتفاعل الحضور مع قراءاته الشّعرية وختمها بقوله:” كانت ساعة كدقيقة، وأمسية لا ككلّ الأمسيات، وكان سماعا ومتاعا”(حقائق عدد800- من26/4/ إلى2/5/2001 ص19).
وفي حقيقة الأمر ليست هذه الحوارات والقراءات إلاّ تتمّة للنّدوات الّتي تعقدها مخابر البحث في هذه الجامعات وكشفا لوجهة نظر المحاور وإثارة لقضايا قد تكون مواضيع للنّقاش والحوار في ندوات لاحقة. وتكشف هذه الحوارات مشغلا آخر من مشاغل الطاهر الهمّامي وسعيه الدّؤوب إلى التّوثيق والإضافة والإفادة وربط الجسوربين أدباء المشرق وأدباء المغرب العربي.
لكنّ الحيويّة الّتي ميّز ت شاعرنا لا تعرف الكلل وإدمانه الكتابة لا يعرف الملل ، ونشاطه خارج حدود الوطن لم يلهه عن الردّ على مجادليه من كتّاب تونس.
3-المعـارك الأدبـــيّة:
ظلّت كتابات الطّاهر الهمّامي مثار جدل منذ تبنّيه “في غير العمودي والحرّ” و”كلماته البيانيّة” منذ 1969. وقد وجدنا شعراء ونقّادا يتجنّدون للردّ على ما يكتب ويختلفون معه في ما يطرح ، ونستحضر هنا الجدل الخصب الّذي أثارته الأيّام الشّعريّة في الحمّامات في بداية الثّمانينات، وعلاقة الواقعيّة بالأدب والفنّ، ومفهوم الحداثة الشّعريّة في منتصف الثّمانينات (انظر”نزعات شعريّة غائبة عن زمانها”/ جريدة “الصّباح” 06/02/،20/02،21/02/1987.
ويبدو أنّ “قدر” الطّاهر الهمّامي هو تحريك السّواكن وإثارة الجدل كلّما خمدت أصوات النّقد، وقد ظلّ متحفّزا للردّ على منتقديه كلّما أحسّ بضيم وشعر بظلم واقتنع بأنّه مستهدف من وراء قناع النّقد. وقد تصدّى في “ورقات ثقافيّة” في منتصف التّسعينات، لمن سخروا من قصائده الّتي نُشرت في هذا الملحق الأدبي متخفّين وراء أسماء مستعارة حسب رأيه. فكانت له ثلاثة ردود:”رغبة جامحة في الإلغاء متستّرة بالنّقد” (ورقات ثقافيّة عدد93/1996)، “حين تجني على نفسها براقش”(ع96/1996)، “ردّا على شوارد الوهايبي” أوقد نارك يا أخي” (عدد101/1996).
وقد تولّى نقد هذه القصائد ناقد يُسمّى “فتحي الرّابحي عمارة” اعتبره الطّاهر قناعا يتخفّى وراءه منصف الوهايبي ورأى في نقده تحاملا واستخفافا واتّهم منصف الوهايبي بالوقوف وراء هذا الصّنيع.
ورأى في مداخلة محمد لطفي اليوسفي في النّدوة الّتي نظّمتها مؤسّسة عبد العزيز سعود البابطين من 28 إلى 31أكتوبر1996 والموسومة ب “مرجعيّة القصيدة العربيّة المعاصرة في المغرب العربي” أحكاما جامحة وتغييبا لإضافة لحظة “الطّليعة” وطرافتها، كما عاب عليه مسخ الشّواهد الّتي اتّخذها سندا له وتشويهها وتحريفها وخلص إلى أنّ اليوسفي “يقدّم انطباعات خاصّة جدّا ولا يقدّم خلاصة بحث واستقراء”، ومن ثمّ صار “المقام مقام هزل”( انظر: الشّاعر الهمّامي يناقش النّاقد اليوسفي ويقول: “قراءتك غاشمة”، جريدة “الصّباح”-الثلاثاء 17 ديسمبر1996 ص11).
أمّا حركة الطّليعة الأدبيّة فقد ظلّت محور خلاف وتقاييم متباينة وهجومات وردود فعل. وقد اعتبر عزالدين المدني في “ورقات ثقافيّة 8/12/2000” تجربة الطّاهر الهمّامي “تجربة فضفاضة متباينة ومتناقضة” و”أسخف تطبيقات غير العمودي والحر ألفاظا” و”كان من المتسبّبين في عزوف المتحمّسين للتّجديد”. ورأى الطاهر الهمامي في كلامه تحاملا وعدّه “أحكاما عامّة أطلقها جزافا دون تفصيل أو تعليل، دون أدنى دليل، ولا يمكن أن تُحمل إلاّ محمل التّحامل، وتصفية الحسابات (الفكريّة) الشّخصيّة؟” وردّ على كلّ النّقاط الّتي تضمّنها مقال المدني مستعملا المنهجيّة الّتي استعملها هو ومفترضا الالتجاء إلى أسلوب السّخرية والتّهجين الّذي اعتمده (انظر: الطاهر الهمامي: عزالدين المدني كلام فضفاض في “تجربة فضفاضة” – مجلّة حقائق عدد785 من11 إلى17/01/2001 ص ص18/19).
4-الطاهرالهمّامي والكتابة في الصّحف:
تعود علاقة الطاهر الهمّامي بالصّحافة إلى مرحلة الشّباب ونشر بواكير إنتاجه ومقالاته النّقدية في المجلاّت والصّحف الّتي صدرت في نهاية الستينات وبداية السّبعينات من نحو مجلّتي “الفكر” و”ثقافة” و”العمل الثّقافي”(ملحق تصدره جريدة العمل) وصحف “المسيرة” و”الأيّام” و”النّاس” ، و”الرّأي” الّتي ظهرت في ثمانينات القرن العشرين
واحتضنت جريدة “الصّباح” في بداية الثّمانينات معركة الواقعيّة في الأدب والفن وردود الطّاهر على منتقديه، وعاد في منتصف الثّمانينات ليثير، على صفحات “الصّباح” علاقة الحداثة الشعريّة في تونس بزمنها وردّه على ردّ محمد أحمد القابسي.
ولمّا تحصّلت جريدة “البديل” (لسان حال حزب العمال الشيوعي التّونسي) على رخصة قانونيّة سنة 1990 تولّى الإشراف على الصّفحات الثّقافيّة وكتب الافتتاحيّة تلو الافتتاحيّة والمقالات الثّريّة.
وفي مفتتح الألفيّة الجديدة احتلّ موقعا متميّزا في مجلّة “حقائق”. فبالإضافة إلى كتابة المقالات وتقديم الكتب ونقل فعاليات النّدوات وإجراء الحوارات كان له ركن مخصوص سمّاه تارة “جمرة النّار”، وطورا “جمرة الماء”، ومرّة ثالثة “جمرة الصّقيع” أو “جمرة التّراب”. وكانت مضامين هذه الجمرات مستوحاة من الواقع المعيش أو من أحداث قوميّة أو كونيّة. والمتصفّح لأعداد هذه المجلّة في سنواتها الممتدّة من سنة 1999 إلى سنة 2002 يدرك عمق هذه الخواطر وتجاوزها اللّحظة الّتي كُتبت فيها وتعبيرها عن قضايا إنسانيّة عابرة للزّمان والمكان.
وتفرّد في جريدة “الشّعب” بكتابة سلسلة من المقالات ذات طابع فكري تراوحت من 21 ماي 2005 إلى سبتمبر2007 (انظر الطاهر الهمامي في شؤون الثّقافة والفكر دار سحر ط1/2019.)
5-إصدار الكتب:
إنّ هذه المقالات العديدة والمنشورة في مظانّ الصّحف (الصّباح / الشّعب) والمجلاّت(الحياة الثّقافيّة/ قصص/ حقائق) لم يجمع إلاّ بعضها في كتابين نقديّين هما “حفيف الكتابة فحيح القراءة”1/ تونس 2006، حفيف الكتابة فحيح القراءة2/ تونس 2007، بالإضافة إلى “بعل ولو بغل” تونس 2009. كما أنّه أنجز أثناء تدريسه بالجامعة أطروحة دكتورا دولة (سنة1999) عنوانها: “الشّعر على الشّعر-بحث في الشّعريّة العربيّة من منظور شعر الشّعراء على شعرهم إلى القرن 5ه/11م/ نشر جامعة منوبة 2003
وختم هذه المسيرة الطّويلة والثّرية بدراسة كان الشّابي حاضرا فيها، مرّة أخرى، سمّاها “في مصادر النّصّ الرومنسي العربي: ناي جلال الدّين الرّومي بين جبران والشابي” (الحياة الثقافيّة ع200/ فيفري 2009) وكأنّ الشابي هوس تلبّسه منذ أوّل بحث جامعي افتتح به مسيرته الأكاديميّة (كيف نعتبر الشابي مجدّدا- دراسة عروضيّة لديوان الشابي /شهادة الكفاءة في البحث 1972).فهل كانت هذه المسيرة خالية من الشوائب والمراجعات.؟
6-الطّاهر الهمّامي والنّقد الذّاتي:
عندما نتمعّن في تجربة الطاهر الهمّامي إبداعا ونقدا نتبيّن أنّ تحمّسه للتّجديد اقترن بانبهاره بالتيّارات الحداثيّة الوافدة، وأنّ الحدود بين الحمولة الإيديولوجيّة والقضايا الفنيّة لم تُرسم بدقّة أحيانا، وأنّ البديل الشّعري الّذي طرحه لتجاوز القصيدة العموديّة ظلّ غائما مرتبكا. لذا لم ير حرجا في الاعتراف بما شاب تجربته الشعريّة من هَنات ونقائص. وقد تحدّث، بـ”بيت الشّعر”، بمناسبة صدور كتابه “حركة الطّليعة الأدبيّة بتونس” الّذي قدّمه الدّكتور مبروك المنّاعي، عن عودته إلى القصيدة العموديّة قائلا” لقد أحسست إثر حرب الخليج باليتم فاستنجدت بالصّعاليك القدامى بطرفة، عنترة والمتنبّي…ويضيف: “أمّا عودتي للعمودي فهي رؤيتي الّتي أصحّحها باستمرار. لقد كنت جاهلا “وقتها” بالتّراث. أمّا الآن فأنا أغيّر نظرتي، وهي مختلفة تماما عن نظرة الحبيب الزناد” (انظر كمال الشّيحاوي: الطاهر الهمامي في بيت الشعر- كنت جاهلا بالتّراث…ورقات ثقافيّة عدد58/س2/ الجمعة 21/04/1995 ص8).
وقد ظلّ يؤكّد هذا الموقف كلّما سئل عن رأيه في شعر الطّليعة. فقد بيّن، في حوار أجرته معه آمال موسى، مسوّغات عودته إلى القصيدة العموديّة وكيفيّة هذه العودة. يقول:”لقد عدت إلى القصيدة العموديّة وابتعدت عن شعر الطّليعة. أنا لم أرتد إلى القصيدة العموديّة وإنّما هي شكل من الأشكال الفنيّة أوظّفه ضمن تجربتي. أنا أكتب في غير العمودي والحرّ بالقصيدة العموديّة”(الشّاعر الطّاهر الهمّامي لـ “الصّباح”: أنا أكتب في “غير العمودي والحر” بالقصيدة العموديّة- الصّباح، الأربعاء 26 سبتمبر2001، ص15).
والطّاهر الهمّامي لا يعرف الثّبات المرادف للجمود والتّحجّر والدّوغمائيّة. فقد اقترن كلّ عقد بتبنّي تجربة شعريّة مخصوصة مخالفة للسّابق.يقول:”إنّي تقلّبت بين أكثر من رؤية: تعاطيت العمودي والموزون ثمّ انتقلت إلى غير العمودي والحرّفي نطاق الرؤية الطّليعيّة ومن ذلك إلى الواقعيّة ثمّ بعد الواقعيّة النّبرة التّراثيّة المتجسّدة في الحوار النّصّي بين قصيدتي وبين الشّعر العربي. ويضيف عاملا آخر يبرّر به عودته إلى القصيدة العموديّة: “أنا أفسّر ذلك بفشل الحداثة المسقطة الّتي لا تنبع من داخل رحم المجتمعات العربيّة” (الشّاعر الطّاهر الهمّامي لـ “الصّباح: الشّعر التّونسي يخلو من تجارب ذات شأن- حاورته آمال موسى/ الصّباح- الثّلاثاء 10 ماي- 2005 ص22).
وهكذا ظلّ الطاهر الهمّامي مسكونا بالأسئلة، لا يرضى بالسّائد ولا يقنع بما حقّق، يجرّب ويتجاوز، يراجع ويتراجع. وتلك هي سمة المبدع الحق الّذي يعيش على قلق دائم ينشد عوالم مثلى فلا يدركها.
خاتـــــــــمة:
تلك هي جوانب من شخصيّة الطّاهر الهمّامي. مفرد في صيغة الجمع، التحق بالجامعة فلم ينعزل عن المجتمع، تمرّس بالبحث الأكاديمي فازداد إقبالا على الكتابة في الصّحافة، انفتح على الجامعات في المغرب والمشرق فتعمّق اهتمامه بشؤون الجامعة التّونسيّة. نصوص تتوالد وبحوث تتناسل، أركان تتواتر وافتتاحيّات تتعاقب، وآمال تخيب ومشاريع لا تُنفّذ (وعد الطّاهر بنشر “محاضرات ومناظرات” و”أيّامات”/ حواره مع آمال موسى/ ماي 2005 لكن…). وهكذا قضّى هذه الفترة من حياته بين حلّ وترحال يكتب وينقد ويجادل ويشجّع على البحث والكتابة إلى أن وافته المنيّة في غفلة من الجميع يوم 2ماي 2009 في إسبانيا. ولكن يبدو أنّ الأحبّة والأصدقاء عاهدوه، لمّا شيّعوه إلى مثواه الأخير بمقبرة بوعرادة يوم 9ماي 2009، على أن ينسوا أنّه كان بينهم، وأنّ له تراثا جديرا بالنّشر أو إعادة النّشر والقراءة والتّمحيص واستخلاص الدّروس. وقديما قال طرفة بن العبد في معلّقته:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّد.