نُشِر بالرّائد الرّسمي للجمهورية التونسية في عدده الـ60 المؤرّخ في 9 جوان 2023 جملة من القرارات والأوامر المتعلّقة بمجال التّشغيل ودعم “المبادرة الخاصّة” مُصادقٌ عليه من قبل رئيس الجمهورية ورئيسة الحكومة معًا.
وقد خلقت بعض فصوله موجة كبيرة من الغضب في صفوف متابعي الشّأن العام، والمعطّلين عن العمل أساسًا، ورافق كلّ ذلك موجة من التندّر في صفوف روّاد الفضاء الاجتماعي.
مرّة أخرى يتمّ التنكّر لمبدإ الحقّ في الشغل، كحق طبيعي وإنساني ومواطني مقدّس، وفي انتفائه تتهدّد كرامة المواطن واستقراره الاجتماعي والنّفسي، فعوضا عن البحث عن الآليات قانونيّة والإداريّة والسياسية لحماية فئة واسعة من التونسييّن، وهم المعطّلين عن العمل والعاملين بالآليات الهشّة، تواصل المنظومة الحالية، كحال من سبِقها، في التفصّي من مسؤوليتها وتحميل وِزْر هذه المعضلة وتبعاتها القاسية إلى المعطّل عن العمل (الفصل الثالث: تعوّض عبارة “طالب شغل” بعبارة “باحث عن شغل”)، وهذا هو الوجه الحقيقي لمنظومة تتفصّى وتتنصّل باستمرار من دورها الاجتماعي ومن مسؤوليتها “الأخلاقية” في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والأخذ بيد مئات الآلاف من المعطّلين الذين قوبلوا بالجحود والنّكران بعد سنواتٍ من البحث والمعرفة والكدّ على مقاعد الدّراسة ومدارجها.
كما تضمّنت هذه القرارات جملة من الإجراءات، تزعم كونها “داعمة لأصحاب المبادرة الخاصّة وللعاملين في القطاع الخاصّ”، ولكنّها في حقيقة الأمر داعمة لأصحاب المؤسسات الخاصة ولرؤوس الأموال، وذلك عبر مواصلة ضخّ أموال طائلة تحت عناوين “عقد إعادة الإدماج في الحياة المهنيّة” أو “برنامج جيل جديد من الباعثين” أو مواصلة إقحام “مشروع الشركات الأهلية” ومرسومه عدد 15 لسنة 2022 المنظِّم له تماهيا مع مشروع رئيس الدّولة “مشروع البناء القاعدي”.
لقد قيل الكثير عن هذه الآليات، التي ثبُتَ بالوقائع الملموسة أنّها لا تخلق أيّ قيمة مضافة وتكاد تنعدم فيها نسبة الإدماج الاقتصادي، بل هي مجرّد مسكِّنٍ وربحٍ للوقت، على حساب أحلام المعطّلين وأعمارهم وحاجياتهم الاجتماعية.
لقد كان بالإمكان أن تُوظَّف جملة الأموال التي قرّرت السّلطة ضخّها تحت عناوين ومسمّيات عديدة، في قطاعات حيويّة قادرة على خلق مواطن شغل فعليّة وقارّة وذات مردوديّة وجدوى هامّتين، حتّى تضمن الاستقرار والإنتاج. كان بالإمكان توفير هذه الاعتمادات للاستثمار في مشاريع تعاونيّة مربحة فعلا، قادرة على امتصاص جزء كبير من المعطّلين في إطار خطّة وطنية تشاركيّة فعلًا، بعيدا عن الانفراد بالرّأي وفرض الأمر الواقع.
كان بالإمكان الإصغاء إلى الأصوات المختلفة من المعنيّين بالملف الاجتماعي، نشطاءَ وخبراءَ وقِوى حيّة، للتوجّه نحو إجراء إصلاحات جذريّة في قطاع الفلاحة ومنْح مقاسم فلاحيّة من أراضي الدّولة وغيرها (آلاف من الهكتارات المُهملة) لأصحاب الشهائد ودعمهم ومرافقتهم للنّهوض بواقعهم وبهذا القطاع، الذي باتَ من أكثر القطاعات حيويّة وأهميّة وخطورة، بالنّظر للأزمة المطّردة للمواد الغذائيّة وقطاع الحبوب والخضر واللّحوم عموما.
كان بالإمكان إجراء إصلاحات حقيقيّة في مجال المعاملات التّجارية، والخارجيّة أساسا، من أجل حماية المنتوج المحلّي وتطويره ودفع المعطّلين عن العمل للانخراط فيه في إطار مبادرات خاصّة وتعزيز الموروث الثقافي والنهوض بقطاع الصناعات التقليديّة وحماية صغر الحرفييّن.
وتزداد الأمور تعقيدا إذا علمنا أنّ جملة القرارات الممضى عليها ستُموَّل عبر الاقتراض ومزيد رهن البلاد للدّوائر المالية العالمية، في وقت “اشتعلت فيه كلّ الأضواء الحمر” نتيجة الانكماش الاقتصادي الخطير والتّدهور المريع في قيمة العملة وانخرام الميزان التّجاري وعرض البلاد على المزاد العلني الخارجي لمزيد ابتزازها وإخضاعها لِنَهم الدّوائر المالية العالمية.
يُضاف إلى ذلك التعنّت في فرض مشروع هُلاميٍّ غير واقعي وغير قابل لمعالجة الأزمة العميقة للبطالة وفرض ما يسمى “الشّركات الأهليّة”، التي تمنح “للأنصار والمُرِيدين عديد التّسهيلات من قبل الإدارات المحلية والجهويّة، على خلاف الصّورة البيرقراطيّة التقليديّة التي يذهب ضحيّتها عموم المواطنين، وفي مقدّمتهم الباحثين عن الشغل والراغبين في الانتصاب للحساب الخاص.
إنّ المعطّلين عن العمل يجب أن يُنظر إليهم من منظور الأمن القومي لا كأرقام إحصائيّة أو “جمهور يقضّ مضجع الحاكم ويُقلِقه”.. بهؤلاء يمكن أن تنهض البلاد وتتخطّى المنزلقات التي تردّت فيها، وعبر آلاف الكفاءات، الذين أهانتهم السّلطة وشرّدتهم وحرمتهم من حقوقهم، بهؤلاء يمكن أن نخلق البديل التنموي المحلي “التّونسي” القادر على خلق الثّروة وتحقيق الرّفاه الاجتماعي وفسح المجال أمام الابتكار والإبداع، وما أكثرهم من مبدعين ومبتكرين وكفاءات.
مرّة أخرى نقف على حجم العبث بمستقبل البلاد وبُناتها، وحجم اللاّمبالاة بعمق الأزمة التي يعيشها شباب تونس، خاصّة أصحاب الشهادات، والذين يُعدّون بمئات الآلاف، رغم سياسة التضليل المعتمدة في “تعريف من هو المعطّل عن العمل؟”. ومرّة أخرى نشهد حلقة جديدة في مسار الهروب إلى الأمام وترك مصير الوطن للمجهول…
فمتى يعي أصحاب الحقّ أنّ لا أحد سيهِبهم حقوقهم دون نضالٍ ودون تضحيةٍ ودون طولَ نفسٍ ودون وحدة حقيقة: وحدة الهدف والبرنامج والميدان؟
شريف خرايفي
الأمين العام لاتّحاد أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل