إبراهيم العثماني
مقــــــــــدّمة:
سبّ وشتم، تشويه وتخوين، إدانة وتجريم، هرسلة وتهديد بقطع أرزاق آلاف المعلّمين، إعفاءات لمديرين بالجملة ولانعرف ماذا تخفي لنا الأيّام القادمة. تلك هي سمات الحملة الشّعواء الّتي يتعرّض لها قطاع التّعليم الأساسي على خلفيّة المطالب المشروعة الّتي طرحتها جامعته العامّة للتّفاوض والّتي لم تجد من جانب وزارة التّربية إلاّ المماطلة والتّسويف وإضاعة الوقت وعقد الجلسات العبثيّة الّتي ظلّت الوزارة، أثناء انعقادها، تمنّي الوفد المفاوض بحلّ المشاكل العالقة دون تقديم أيّ حلّ. ولمّا انتهت السّنة الدّراسيّة انكشفت الحقيقة وسقطت الأقنعة فلم يجد السيد الوزير ما يقدّم إلاّ لغة التّجريم والإيهام بأنّ الوزارة استجابت لمطالب القطاع.
وفي خضمّ هذه المعركة الّتي تدور رحاها في معمعان الصّيف سنتجاوز الكلام على مشروعية المطالب وأشكال النّضال المتوخّاة ونقف عند عبارة ظلّت تتردّد بشكل متواتر بموجب وبدون موجب وهي الوزير النّقابي، والوزير قادم من الاتّحاد، وهو ابن قطاع التّربية ويعرف مطالب المدرّسين. فكيف نتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟
1-فــي تحــديد المـــفاهيــم:
*عبارة وزير نقابي لاتصحّ وربّما يستعملها البعض لإثارة اللّبس أو دس السّم في العسل. ذلك أنّ الجمع بين صفتين تنتميان إلى مجالين مختلفين في شخص واحد غير ممكن. فالمسؤول يكون إمّا وزيرا وإمّا نقابيا. وعندما يكون نقابيا ثمّ يصبح وزيرا تنتفي الصّفة الأولى وتعوّضها الصّفة الثّانية، إذ يتغيّر المجال الّذي يتحرّك فيه وتختلف الأهداف والطّموحات وأساليب العمل.
*ينتمي النّقابي إلى منظّمة جماهيريّة لها آليات عملها المخصوصة وتدافع عن المطالب المادية والمعنويّة للعمّال بالفكر والسّاعد، ويواجه وزيرا ينتمي إلى سلطة حاكمة تسعى، بكلّ ما أوتيت من قوّة، إلى الحفاظ على مصالحها الطّبقيّة ولاتفرّط في الفتات للعمّال إلاّ بعد لأي.. وعندما تتباين الرّؤى ويحتدّ التّناقض ينحاز الوزير الجديد/ النّقابي القديم إلى خيارات السّلطة القائمة إذ أصبح جزءا منها وممثّلة لمصالحه الطّبقيّة الّتي أصبح العمال الّذين مثّلهم طبقيّا فيما مضى خطرا يهدّدها حسب رأيه.
وهكذا يبدي هذا النّقابي القديم، أحيانا، من الشّراسة والعدائيّة ما يثير الدّهشة والاستغراب ويدفع إلى التّساؤل كيف كان هذا السيّد، في يوم من الأيّام، نقابيّا؟
*إنّ طموح النّقابي النّزيه في حدّه الأدنى هوتلبية مطالب منظوريه وتحسين أوضاعهم المادية والمعنويّة وتوفير مناخ عمل ملائم في حين يتلكّأ الوزير في تلبية هذا الحدّ الأدنى من المطالب هذا إن لم يلجأ إلى اختراق صفوف النّقابييّن وإرشاء العناصر الانتهازيّة ومحاصرة العناصر المناضلة لإضعاف جذوة النّضال. وهكذا يُظهرهذا الوزير”حزما” لاحدّ له ليزداد تقرّبا من الدّوائر المتنفّذة لعلّه ينال المزيد من الحَظوة ويحقّق المزيد من الطّموحات الشّخصيّة.
*يوظّف الوزيروسائل الإعلام العامّة والخاصّة والأقلام المأجورة ويستعمل كلّ أساليب التّشويه والتّضليل لخلق رأي عام متعاطف معه ومعاد للنّقابيّين والعمل النّقابي. ومن ثمّ تبدو المعركة غير متكافئة وتحتاج إلى الكثير من التّوعية للتّخفيف من وسائل الضغط المسلّطة على النّقابييّن والأولياء والتّلاميذ.
وتتعقّد الأمورأكثر عندما يكون هذا الوزيرسليل مدرسة يساريّة لاتفرّخ إلاّ هذه النّوعيّة البائسة والتّعسة من المسؤولين.
2 نظريّة التّموقع وشيء من التّاريخ:
لانريد الاستفاضة في هذه المسألة و ذكرعدّة أمثلة لهذا”الرّهط” من المسؤولين. نريد فقط أن نقتصرعلى مثال لن ينساه نقابيّوجهة نابل على اختلاف رؤاهم النّقابيّة ومواقفهم الإيديولوجيّة. فسلوك سيّدنا الوزير يذكّرنا بسلوك زعيم وطني في الجامعة و”جهبذ ” من جهابذة الحركة الطلابيّة في سبعينات القرن العشرين التحق بالتّجمّع الدّستوري الدّيمقراطي وتحمّل صلبه عدّة مسؤوليّات إلى أن عيّن واليا على جهة نابل في منتصف التّسعينات. وفي سنة 1996أنجزأساتذة التّعليم الثّانوي إضرابا ناجحا دفاعا عن مطالب مشروعة. ويبدوأنّ نجاح الإضراب أغاظ السيد الوالي فأمرباعتقال خمسة نقابيّين بالتّمام والكمال هم محمد يمارن وشكري مامي (نابل)، ويوسف الوصلي والصّادق بوسلامة (الحمّامات)، وعزالدين لمين (سليمان).بل إنّ هذا المسؤول الفطحل ظلّ يهدّد الاتّحاد الجهوي بنابل بأنّ القائمة يمكن أن تتّسع إلى اثني عشر نقابيا أو ثمانية عشر نقابيا أو أكثر. فهل هناك وقاحة وصفاقة وخساسة ودناءة أكثر من هذا؟ أساتذة ينفّذون إضرابا قانونيّا وشرعيّا فيعتقل النّقابيّون بعد تنفيذ الإضراب بيوم أو يومين. والغريب في الأمر أن السيد الوالي هذا يتحمّل الآن مسؤوليّة في صلب اتحاد الكتّاب التّونسيّين .يالها من مفارقة عجيبة غريبة ! فهل يلتجئ السيد الوزيرإلى الخصم والطّرد وأشياء أخرى اقتداء بسلفه الصّالح؟
لقد وجد الوالي الموقّر سندا من سلطة سياسيّة قمعيّة كما يجد الوزير الحالي دعما من سلطة شعبويّة ولّى زمانها.
3 الانتهازيّة والشّعبويّة وجهان لعملة واحدة:
لعلّ ما يسّر رواج الحملة الشّعواء الّتي يشنّها الوزيرعلى قطاع التّعليم الأساسي هو عداء السّلطة الشّعبويّة للعمل النّقابي وتهجين دورالاتّحاد، والسّعي الحثيث إلى إنهاء دور الأحزاب والجمعيّات والمنظّمات. فالمجتمع السّياسي والمجتمع المدني يعيشان حالة وهن قصوى استغلّها وزير متسلّق تخلّى عن جملة من المبادئ كان يؤمن بها لمّا كان مسؤولا نقابيّا وارتمى في أحضان سلطة شعبويّة لعلّها قدّرت أنّها وجدت العصفور النّادر القادر على التّشفي من قيادة الاتّحاد الّتي اختلفت معه. ولكن يبدو أنّ حساب البيدر يختلف عن حساب الحقل وأنّ المحصول سيكون هزيلا جدّا.وهكذا أوصلت الحسابات الخاطئة السّلطة الحاكمة إلى مأزق وأوقعتها في فخّ ليس من اليسير الخروج منه. فتواتر جلسات التّفاوض والتّأجيل تلو التّأجيل ثمّ التّلويح باستعمال العصا الغليظة أساليب بالية كلّما جُرّبت أعطت نتائج عكسيّة. ولكنّ قصير النّظر لايعتبر من التّاريخ الّذي لايرحم والّذي لايتسامح مع من يعاديه.
تلك هي جملة من الخواطرأوحى بها وضع قطاع التعليم الأساسي في هذه اللّحظة العصيبة.ولكن هل يكمن جوهرالموضوع في صراع القطاع مع الوزير؟
4 “مـخ الهـــدرة”:
حصرنا كلامنا في الحديث عن دور الوزيرفي توتير الأجواء لأسباب منهجيّة. ذلك أنّ الموضوع مركّب وأكثر تعقيدا وما ظهر منه هو”غيض من فيض”. فالمعركة تتجاوز قطاع التّعليم الأساسي والصّراع يدور بين تصوّر شعبويّ هجين لايؤمن بالعمل النّقابي أصلا وتصوّر نقابي يسعى إلى الحفاظ على “الشقف” لتحقيق بعض المطالب من حين لآخر. ورغم وصول قيادة الاتّحاد إلى هذا الحدّ فإنّ السّلطة الحاكمة لم تعد راضية حتّى بهذا”السميغ” وتريد التّخلّص من كلّ الأجسام الوسيطة وفي مقدّمتها الاتحاد العام التونسي للشّغل لتركيز مشروعها القاعدي البائس.
ولكن السّؤال الّذي يُطرح هوكيف وجد قطاع التّعليم الأساسي نفسه محشورا في زاوية ولامغيث.؟ وأين التّضامن النّقابي طيلة هذه المدّة؟ ولماذا لازمت المركزيّة النقابيّة الصّمت منذ بداية الأزمة؟
إذا أردنا أن نشخّص الوضعيّة تشخيصا موضوعيّا ونحمّل كلّ الأطراف المتداخلة مسؤوليّاتها علينا أن نتوقّف طويلا عندعلاقة قيادة الاتحاد بالدّيمقراطيّة النّقابية وتجاوزاتها المتكرّرة والأضرارالّتي ألحقتها بالمنظّمة وعلاقة كل ذلك باستقلاليّة المنظّمة عن السلطة الحاكمة وانعكاس ذلك على نضاليّة القطاعات. وهذا موضوع يحتاج إلى الشّرح والتّحليل بعد انتهاء هذه الأزمة.
خــــــــــاتمة:
لقد “وقع الفأس في الرّأس” و”حُصّل ما في الصّدور” وعلى قيادة الاتّحاد أن”تحفظ ماء الوجه” وتستعد للمعركة إن جنحت الوزارة للمكابرة والتّعنّت. ونتقدّم، في هذا الصّدد، بجملة من المقترحات:
ضرورة إصدار بيانات مساندة من الجامعات النقابيّة والفروع الجامعيّة والهيئات الإداريّة الجهويّة وتحويل المعركة إلى معركة عامة وليست خاصّة بقطاع
دعم الاعتصامات في الإدارات الجهويّة بنقابيّين من قطاع التّعليم أ ومن قطاعات أخرى.
تبنّي الأحزاب التقدّميّة ومنظمات المجتمع المدني قضيّة التعليم الأساسي باعتبار التعليم مشغلا يعني الجميع مهما كان موقعهم.
إن نفّذت الوزارة إجراءها المتمثّل في اقتطاع أجورالمعلّمين فما على الجامعة العامّة للتّعليم الأساسي إلاّ الاقتداء بجامعة التعليم العالي الّتي فعّلت مبدأ التضامن بين الأساتذة الذين حرموا من مرتّب شهر كامل سنة 2005 لمّا اضطرّوا إلى تنفيذ الإضراب الإداري.
الشّروع في تقييم واقع الاتحاد وتحمّل النقابيين المناضلين مسؤوليّة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وقد تكون البداية مع مؤتمر الجامعة العامة للتعليم الثانوي في الخريف القادم.