ممّا لا شكّ فيه أنّ عامّة الشعب التونسي على اختلاف شرائحه عاش طوال هذه السنة على وقع وضع مضطرب داخل معاهدنا ومدارسنا الإبتدائية بسبب تمسّك القطاعين الشقيقين (الأساسي والثانوي) بحقهما في التفاوض وفي ممارسة الحق النقابي والسّعي لتحسين الوضع المادي والقدرة الشرائية التي تراجعت إلى حدٍّ لم يعد في مقدور المربّين تحمّله. وبعد كرّ وفرّ واخذ وردّ وتمسّك من هذا وتراجع من ذاك انتهى المطاف باتّفاق أبرمته نقابة التعليم الثانوي يبدو أنه، حسب القاعدة الأستاذية، لم يكن يلبّي طموحاتهم، وقد تداخل في ذلك السياسي بالنقابي؛ فالموالين من النقابيّين لحراك الخامس والعشرين من جويلية والمنتمين لأطراف سياسية داعمة للرئيس كانت لهم الكلمة الفصل وتمكّنوا من فرض القبول بالاتّفاق كما هو على أعضاء الهيئة بمنطق الأغلبية والأقلية، وتلك هي قوانين المنظمة وقوانين اللعبة، فأمضت الجامعة العامة الاتفاق غير مُبالية بغضب قواعدها وردّة فعل الأغلبية الساحقة، ولأن وحدهم أعضاء الهيئة الإدارية من يحق لهم القبول أو الرفض.
فقد قرّروا عوضا عن القاعدة الأستاذية التي لا يمكنها الرفض ولم تجرأ على التمرّد على هياكلها النقابية ورضخت ورضيت بالأمر الواقع.
في المقابل واصل التعليم الأساسي المعركة ولم يقبل بالعرض المُهين الذي قدًمته وزارة الإشراف وتمسًك بمواصلة النضال كلفه ذلك ما كلّفه غير مبالٍ بحجم الهرسلة والسبّ والشتم والتشويه والتهديد بقطع الأرزاق.
في الجانب الآخر صعّدت وزارة التربية من لهجة التهديد والوعيد ثم مرّت إلى السّرعة القصوى عندما لم يعد لها من خيار، وشعرت بإحراج كبير لو يُفرض عليها الأمر الواقع وتضطرّ إلى الموافقة على مطالب المعلّمات والمعلمين فسارعت إلى الإعلان عن إجراءات تصعيديّة.
وفي سابقة خطيرة أعلنت عن حجز مرتّبات سلعة عشر ألف معلمة ومعلم وإعفاء ثلاثمائة وخمسين مديرا.
ولأن المسؤول الأول بوزارة التربية نقابي سابق و”يعرف من أين تُؤكل الكتف”، ولأنه يعلم جيدا أن نقطة الضعف الكبرى للمربين هي أجورهم ونقطة ضعف أغلبية المديرين هي إداراتهم فإذا اُنتُزعت منهم فكأنّما اُنتزِعت أحد ضلوعهم، فقد ذهب في هذا الخيار. وكما كان متوقّعا، تمكن من ضرب القطاع في مقتلٍ لينهار المعلمون والمعلمات والمديرون والمديرات فسارع المعلمون بتنزيل الأعداد وهرع المكلفين بالإدارة إلى المعالجة والمصادقة على الأعداد، وتتالت التهديدات بالتوازي مع تتالى التنازلات وحصل الانهيار الحقيقي عندما سلّم نقابيون في مواقع متقدّمة وأنزلوا الأعداد ووزّعوا الدفاتر ممّا جعل البقية المتماسكة تسقط سقوطا مدوّيا ولم يبق سوى قلّة قليلة من العناصر النوعية الذين ظلوا متماسكين إلى أن انعقدت الهيئة الإدارية الوطنية اضطرارًا بعد موجة الخذلان والخيانة وتم الإعلان عن رفع الحجب .
صحيح ان القطاع حاول التماسك، ولكن الفشل الحاصل يعود إلى فشل الجامعة العامة في كيفية إدارة الصّراع وظهر بالكاشف ان أغلبية أعضاء الجامعة العامة الحالية غير جديرين بعضوية نقابة أساسية وجدوا أنفسهم أعضاء جامعة عامة بحكم حسابات البيروقراطية النقابية وسعيها إلى إقصاء مناضلين عرفتهم السّاحات ومكانهم بقي شاغرا وواضحا للعيان، لا لشيء سوى لأنهم يختلفون معهم. والنتيجة أن غابت الحكمة والخبرة في إدارة الصراع وطبيعي جدا أن يكون الفشل هو سيّد الموقف.
وفي غمرة هذه الأحداث تعود بنا الذاكرة إلى التاريخ، تاريخ قطاع التعليم الثانوي حيث عاش أزمة مشابهة في مناسبتين :
_ الأولى سنة 1975 في عهد الحبيب عاشور وهو، أمينا عاما وعلى إثر إضرابٌ أقرّته الهيئة الإدارية دون موافقة المكتب التنفيذي قام حينها بتجريد الهيئة الإدارية وبتواطئ مع نظام الحكم تمّ تشريدهم وتجويعهم والتنكيل بهم.
وتكرّر نفس السيناريو سنة 1984 والحبيب عاشور أمينا عاما كذلك بعد إقرار الإضراب وقع تجريد أعضاء الهيئة الإدارية وبذلك فإن النقابيّين نكل بهم المسؤول النقابي الأول بالمنظمة ونفس السيناريو أُعيد مع التعليم الأساسي جويلية 2023 مع اختلافٍ وهو أن الذي نكّل بهم هذه المرة نقابي سابق كان قد تحمّل عضوية المكتب التنفيذي وهو اليوم مسؤولًا حكوميا.
ولكن، رغم كل المؤامرات وكل الخذلان، يبدو أن قدر القطاعين الشقيقين أن تنكّل بهما منظومة الحكم بتواطئ مع الأمين العام ومع قيادة جامعة الثانوي ومع مسؤول نقابي سابق مع الأساسي.
ويستمر النضال والتاريخ يسجل .
عبدالباسط زقية