عبدالباسط زقية
ما تعلمناه و يعرفه حتى البسطاء فإن أي تغيير في صلب فريق حكمٍ يكون، إما نتيجة الفشل أو لمزيد الارتقاء والتحسين لما فيه مصلحة البلاد والعباد.
وتاريخ تونس منذ عهد البايات هو تاريخ التغييرات حسب الولاءات والمصلحة الضيقة. وقد بلغت أحيانا حدّ القرف مثلما وقع في عهدي بورقيبة آخر أيام حكمه وبن علي أيضا، فكثيرا ما بقيت التسميات خاضعة لدرجة الولاء والزبونية، إذ وصل إلى حد التسمية في الصباح والعزل في مساء نفس اليوم وهي قمة الاستهتار والتلاعب بمصير البلاد سياسيا.
وكنا نخال أنفسنا قد قطعنا، بعد الثورة، مع مثل هذه التصرفات ومع التلاعب بسمعة البلاد سياسيا على الاقل لتصبح التعيينيات حسب الكفاءة وحسن التخطيط وبُعد النظر والقدرة على خدمة مصلحة الشعب، ولكن للأسف الشديد شهدنا أتعس فترة، إذ تحوّلت جلّ التسميات والتعيينات مرتبطة بأحزاب الحكم وحسب ولاءات هذا الشخص أو ذاك من جهة، ومن جهة ثانية تحوّلت المواقع والمسؤوليات، في الحكم وفي الإدارة، إلى كعكة، يتصارع على اقتسامها الحلفاء “الألدّاء”.
وفي المدّة الأخيرة، بلغت الأوضاع أشد انواع الابتذال السياسي، ممّا دفع قسم كبير من الشعب التونسي إلى العزوف عن الاهتمام بالشأن العام و”التقاعس” في اختيار من يحكم البلاد، وشهدنا، تزامنا مع ذلك، تراجعا ملحوظا في الحراك الإجتماعي (دون القول أنه لم بعد هناك حراك احتجاجي) وحالة جزر ساعدت قيس سعيد من الانقضاض على الحكم أمام بهتة غالبية الطيف السياسي.
وقد باشر، منذ 25 جويلية 2021، في تنفيذ رؤيته للحكم (مشروع البناء القاعدي) دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الشعب التونسي والوضع الاقتصادي والاجتماعي المنهار.
ومنذ اعتلائه سدّة الحكم واستئثاره بكلّ السلطات بان للعيان تطابقه وتماثله مع سابقيه في “عادة” الإعفاء والتعيبن حسب الولاءات وحسب حساباته الضيقة؛ فمنذ الخامس والعشرين من جويلية، وحسب رصدٍ لموقع إعلامي (“بزنس نيوز”)، شملت الاعفاءات :
17 واليا، 13 وزيرا، 57 قاضيا، وعدد من العمد. وفي 2022 تم إعفاء 15 مسؤولا وفي 2023 تم إعفاء 21 مسؤولا. وقد.شملت الاعفاءات مستشارين بالقصر وسفراء وقناصل دون أن ننسى حلّ البرلمان وحل المجلس الأعلى للقضاء والمجالس البلدية وتجميد نشاط الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وطرد أعوانها وموظفيها.
ومنذ اسبوع تقريبا، تفاجأ الرأي العام بتغيير “ليليٌ” من الحجم الثقيل بإعفاء رئيسة الحكومة نجلاء بودن دون سابق إعلام ودون تمهيد ودون أدنى تفسير لذلك. كيف ذلك والحاكم بأمره قد أخذ قراره وانتهى الأمر؛ فقراراته غير قابلة للنقاش ولا دخل لأيٍّ كان فيها.
وبما أننا لسنا “طراطيرا” ولنا اهتمام بالشأن العام، فإننا نسعى دوما للفهم والتفسير المستقل، بعيدا عن مغالطات الإعلام “الرسمي” وعن قصف العقول الذي تمارسه صفحات المفسّرين.
آخر مهمّة لنجلاء بودن قبل تعيينها رئيسة حكومة حسب ما رشح من معلومات، هي رئاسة وحدة برنامج يهدف إلى تطوير الإدارة بالتعليم العالي، وما تكليفها برئاسة الحكومة سوى للعمل على كسب الإدارة وضمان ولائها، وهو ما أكده دون مواربة أثناء إشرافه على موكب تسلّم رئيس الحكومة الجديد لمهامه، إذ دعى كل من يتحمّل مسؤولية داخل الإدارة إلى تحملها دون تعطيل. كما أشار إلى ضرورة مراجعة التعيينات التي تمّت في السنوات الاخيرة بناء على “الولاءات والشهائد المدلسة” حسب قوله، ثم أكد على ضرورة “تطهير الإدارة”، وهي لعمري لا تعدو سوى رسالة أخرى للسيطرة على الإدارة نهائيا.
وبالنسبة للحرشاني المعيّن مكانها، فهو ابن البنك المركزي، ومهمّته، بعد “استقرار الإدارة”، هو العمل على جلب الأموال أو البحث عن تسهيلات للحصول على قروض؛ وهي مهمّة لم ينجح فيها إلى حد الآن، لا الرئيس ولا اي فرد من طاقمه الحكومي، وهو بذلك مثله مثل سابقيه يركّز على تغيير السّاسة (الأشخاص) لا السياسة (البرامج)؛ فالتغيير المنشود لا يقتصر على تغيير الأشخاص بل تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تغييرا جذريا بما يخدم مصلحة الشعب ، والقطع مع الارتجال والشعبوية. وليس أدلّ على ذلك من ظهور الرئيس بمظهر المعارض للحكومة في بعض خياراتها، في حين هو المتحكّم فيها، وذلك للتضليل وللضحك على الذقون في تقاسم مفضوح للأدوار .
إن النجاح في هذه المهمّة (التضليل والإلهاء) بات أكثر من ضروري لتجنيب البلاد أي انتفاضة في الأفق، فمن حين لآخر تلوح بعض مظاهر التململ في عامة الشعب، بل إن الغضب والاحتقان الاجتماعي لم يعد خافٍ على أحد، خاصة في المدة الأخيرة في علاقة بندرة المواد الأساسية وبقضية قطع الماء والكهرباء المتواتر.
ولعل هذا ما يفسّر بأن أول نشاط للرئيس بعد.التحوير في رئاسة الحكومة استدعاء وزيرة العدل ودعوتها إلى لعب دورها باعتبارها رئيسة النيابة العمومية ومن صلاحيتها إثارة “الدعوى العمومية” خاصة في علاقة بالحراك الإجتماعي، وهو ما يُفهم من قوله : الوقفات الاحتجاجية القطاعية لا تؤدّي إلى شيء!!
ولضمان النجاح يجب أن “يرهّب” الإعلام حتى لا يقوم بدوره باعتبار أن متابعة الأحداث وتغطيتها بشكل موضوعي قد يساهم في “تأجيج الوضع”، وهو ما قام به أخيرا باستدعائه للرئيس المدير العام للتلفزة التونسية لوضعها أمامه وكأنها طالبة في حضرة أستاذها ويمارس عليها عنفا معنويا لتمرير رسائل التهديد والوعيد ولإرضاخ الإعلام وتركيعه.
وقد سبق هذا الترهيب الترغيب، والمتمثل في زيارته لدار الصباح وصرح بأنه لا مجال للتفريط فيها ولا بدّ من وجود حلّ جذري (وقع دمج دار الصباح ب”السنيب”)، وكالعادة لا يترك الفرصة تمرّ دون الترهيب، إذ تطرق إلى أحد الصحفيين الذي في حديثه عن أزمة دار الصباح استحضر بيت شعر فيه عبارة “لا حياة لمن تنادي …” وطلب من أحد المسؤولين بالجريدة الذي كان يرافقه بأن يقول للصحفي راجع نفسك وقال له بصريح العبارة : “يبدو أنه هو من ينفخ في رماد” وهي قمّة الهرسلة للصحافة والصّحفيين، وخاصة عندما قال: “الإعلام ليس بريئا”، ثم يناقض نفسه ويصرح بأن “حرية الصحافة مكفولة”.
بعد أن بدأ في إضعاف الأجسام الوسيطة وآخرها ما حصل مع الإتحاد العام التونسي للشغل ومحاولة وضعه في الركن وتجاهله، ويتّضح ذلك أكثر حين قال: “الدولة لا تُدار بمحاضر الجلسات “، وهو ما يفسّر التنكيل الذي تمارسه وزارة التربية، بعلمٌ من رئيس البلاد، بقطاع التعليم الأساسي بحجز رواتب آلاف المعلمين وفرض إعفاءات جبانة لمئات المديرين في محاولة استعراضية لقوة الدولة، متناسيا أن قوة الدولة تبرز في ضمان العيش الكريم لشعبها.
وفي النهاية لا يسعنا سوى أن نقول ان ما قام به الرئيس هي تكريس لثقافة الإعفاء في حكومة رعناء.