علي البعزاوي
يردّد الخطاب الرسمي منذ 1956 إلى يوم الناس هذا أن تونس دولة مستقلة ذات سيادة، متعلّلا برحيل المستعمر الفرنسي وجيوشه عن البلاد، وبكوْن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وكلّ المسؤولين في الدولة تونسيّون لحمًا ودمًا… فهل هذا كافٍ للادّعاء بأن تونس دولة ذات سيادة؟ وهل هي فعلا كذلك؟
إن “الاستقلال” المُعلن عنه في 20 مارس 1956 شكليّ، لأن فرنسا خرجت من الباب وأنهت حضورها المباشر لتعود وباقي القوى الاستعمارية من بوّابة الإقراض النقدي والاستثمارات الانتقائية والمساعدات المشروطة وعقود الاستغلال اللامتكافئة. وتونس منذ 1956 إلى اليوم مُستعمرة جديدة خاضعة للهيمنة الامبريالية والبورجوازية الكمبرادورية التي ظلّت متربّعة على عرش الحكم طيلة هذه الفترة، بما في ذلك بعد 2011؛ هي وكيلُ هذه الهيمنة وأداتها المحلية، دورها الأساسي التّفويت في مقدّرات البلاد وثرواتها لصالح كبرى الشركات والمؤسّسات والدول الاستعمارية وتكريس الاستغلال ورهْن البلاد مقابل امتيازاتٍ. وقد راكمت من خلال هذا الدّور الثروات الطائلة بما في ذلك زمن الأزمات ولاقت الدّعم السياسي والعسكري أحيانا للحفاظ على هيمنتها عبر أحزاب وحكومات ورؤساء ومسؤولين مارسوا الدكتاتورية والاستغلال وعاثوا في البلاد فسادًا، وآخرون فرضت عليهم ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي تنازلات تتعلّق بشكل السلطة (شكل ديمقراطي بدلا عن الشكل الدكتاتوري). لكن البورجوازية المحلية تأقلمت مع الوضع الجديد وحافظت على هيمتها عبر أحزاب جديدة (النهضة- النداء- تحيا تونس- قلب تونس…) ورؤساء دولة وحكومات جدد بفضل الدعم الخارجي والمال السياسي الفاسد والدّور التخريبي للدولة العميقة حيث لم يقع إصلاح وتطهير المؤسّسات الإدارية والإعلامية والقضائية وغيرها حتى تستطيع الانسجام مع المسار الثوري.
إن الاستقلال الكامل والفعلي لتونس يقتضي فكّ هذه التبعيّة ومصادرة أملاك البورجوزية الكمبرادورية وتأميم الشّركات والمؤسّسات الاستعمارية لتصبح ملكا للشعب التونسي والانطلاق في بناء اقتصاد وطني مستقل موجّه لخدمة الحاجيات الأساسية للشعب والبلاد؛ فلا سيادة وطنية دون قطيعةٍ فعليّة مع القوى والمؤسّسات الاستعمارية وعملائها المحلّيين ودون اعتمادٍ على القدرات الذاتية، مع نسٍج علاقات جديدة مع الدول مبنيّة على التّعاون والمصالح المتبادلة دون وصاية أو تدخّلٍ في الشؤون الداخلية.
هناك علاقة جدلية بين الاقتصاد الوطني المستقل المتحرّر من كلّ أشكال التبعية والاستغلال، وبين السيادة الوطنية التي تمكّن الشعب التونسي من أن يكون سيّدًا على ثروات بلاده وعلى قراره الوطني المستقل. عدا هذا، يصبح الحديث عن السيادة الوطنية لغْوًا وشكلًا من أشكال المغالطة.
على السلطة الحاكمة التي تُطنب في الحديث هذه الأيام عن الاستقلال والسيادة أن تجيب: لماذا لم تتّخذ قرارات المصادرة والتأميم التي تمكّنها من قدراتٍ مالية هامة يمكن أن تبني عليها لتركيز نواة اقتصاد وطني مستقل؟ لماذا لم تراجع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي رغم أنها أضرّت بالمؤسسات المحلية وساهمت في تسريح آلاف العمال وإلغائها؟ ولماذا لم ترفض المساعدات العسكرية التي تقدّمها الولايات المتحدة الأمريكية لتونس، وهي مساعدات ملغومة ومدخل للتدخل في الشأن المحلي والإخضاع؟ ولماذا لم تُنْه علاقتها بالناتو كشريك غير عضو في هذا الحلف الاستعماري؟ ولماذا لم تصدر مرسوما يجرّم كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني؟
لم تكتف السلطة القائمة بعدم مراجعة هذه الاتفاقيات، بل أصرّت على المواصلة في نفس النهج بالإمضاء على مذكّرة تفاهم مع الاتحاد الأوروبي جوهرها لعب دور حارس الحدود للضفة الشمالية للمتوسّط ومنع تسلّل المهاجرين غير النظاميين مقابل مساعدات مالية ولوجستية متواضعة ووعود بالتدخّل لدى صندوق النقد الدولي لصرف القرض المعلّق.
السيادة الوطنية تقتضي أيضا تكريس الحقوق والحريات في دولة مؤسسات ديمقراطية تعود السلطة الحقيقية فيها للشعب بكل طبقاته وفئاته باعتباره صاحب المصلحة في الاستقلال والسيادة. وهي تقتضي أيضا المساواة التامة والفعلية بين النساء والرجال وبين جميع المواطنات والمواطنين لأن المرأة نصف المجتمع وبدون دور فعّالٍ ومتقدّم لنساء تونس باعتبارهنّ نصف المجتمع لا يمكن الحديث عن سيادة وطنية فعليّة.
إن الاستقلال والسّيادة الوطنية لا يمكن تحقيقهما في ظلّ أنظمة الاستبداد والعمالة، ولا بالتنسيق والتعاون معها، بل على أنقاضها وبالنضال ضدّها. وما على القوى الثوريّة والتقدميّة سوى العمل والنضال مع الشعب التونسي من أجل تحقيقها على أرض الواقع.