شريف الخرايفي
دعت اللجنة الوطنية بدعم المقاومة في فلسطين إلى وقفة احتجاجيّة اليوم الخميس 02 نوفمبر 2023 أمام سفارة بريطانيا بتونس وذلك احتجاجا على الدّعم الفجّ والمشبوه للحكومة الانجليزيّة لجرائم الكيان الصهيوني الفاشيّ في حقّ الفلسطينيّين. وكانت اللّجنة قد دعت ونظّمت منذ بدء الاعتداءات البربريّة على غزّة وعلى بقيّة الأراضي الفلسطينيّة وقفات وتجمّعات أمام سفارات دول أخرى انخرطت أيضا وبقوّة في دعم العربدة الصهيونيّة، وخاصّة كلّ من فرنسا وألمانيا وبشكل أرعن وأكثر عنجهيّة الولايات المتحدة الأمريكيّة.
ولكن، اختيار يوم 02 نوفمبر لتنفيذ وقفة أمام سفارة المملكة البريطانيّة له دواعٍ أخرى.
1/ وعد بلفور المشؤوم
أثناء الحرب العالميّة الأولى بين “الحلفاء” و”المحور”، وقبل أن تلقي الحرب بمصير المحتربين، كانت بريطانيا تعدّ العدّة لاقتسام الغنائم وإعادة توزيعها. ومن بينها الدّول التابعة للعثمانيّين.
وفي غمرة الاقتتال، توجّه وزير خارجيّة بريطانيا آنذاك آرثر بلفور برسالة إلى أحد كبار المصرفيّين الانجليز المتنفّذين، وأحد زعماء اليهود، اللّورد روتشيلد، يعلمه فيها اقتراح الملك منح فلسطين لليهود، أي للحركة الصهيونيّة، التي بدأت تنشط منذ بضع عقود لتنفيذ مخطّط بنو صهيون بتملّك “وطن خاصّ بهم”.
وقد كان لهذه الرّسالة (“الوعد”) دور محوريّا في بعث الكيان الصهيوني بعد قرابة ثلاثة عقود (1948)، وذلك ليس فقط لأنّ صهاينة العالم قد وجدوا دعما واضحا من كبريات الدّول الامبرياليّة (بريطانيا)، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي ستبدأ منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى في لعب دور جيو- سياسي كبير، وحيث للجالية اليهوديّة تأثير ونفوذ قويّين في الإدارة الأمريكية، ممّا أكسب هذا “الوعد” دعمًا أكبر، ولكن لأنّه سيشجّع أيضا موجات الهجرة للجاليات اليهوديّة من كلّ أصقاع العالم. وهذا ما سيعطي لهذه الجالية نفوذا يشهد اطّرادا مع تزايد اقتناء الأراضي أو الاستيلاء عليها عبر تنفيذ أعمال إرهابية لدفع متساكني بعض القرى إلى الفرار والرّحيل.
وطيلة فترة الانتداب (الفترة التي استعمرت فيها بريطانيا فلسطين بين 1917 و1948) عملت هذه الامبريالية على دفع نسق التغيير الديمغرافي داخل أراضي فلسطين بتشجيع واستقطاب اليهود من العالم لهذا “الوطن الموعود”.
2/ “وطن لليهود”: حلم للصهاينة وللغرب الامبريالي معا
منذ أن تمّ تنفيذ مشروع السكة الحديديّة يافا – القدس سنة 1890 بدأ نفوذ اليهود يزداد من خلال بناء مجموعة من المستوطنات على طول الخطّ وسيطروا على قطاع نقل البضائع. ولعب تيودور هرتزل، مؤسّس الصهيونية العالمية، دورا كبيرا في بناء شبكة معقّدة من العلاقات مع رجال سياسة وأعمال أوربيّين وعثمانييّن من أجل ظروف مناسبة للتقدّم بمشروعهم “الحلم”.
ورغم أنّ الحرب لم تضع أوزارها بعدُ سنة 1916، إلّا أنّ معاهدة سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا سنتها قد وضّحت مناب كلّ منهما من المستعمرات، وبدأت بريطانيا بوضع استراتيجيّة خلافة تركة الدّولة العثمانيّة، ومنها فلسطين، التي ستعِد بها بنو صهيون كعربون “اعتراف” لما قدّمه “يهود” أوروبا من دعم لمتطلّبات الحرب وكذلك للضّغط على الولايات المتّحد للدّخول فيها، بعد أن كانت تتوخّى سياسة “الحياد” و”العزلة”…
وبينما “ملك” اليهود قرابة 2% من الأراضي الفلسطينيّة سنة 1918 أصبح يستوطنون قرابة 8 % سنة 1948, وهذا يفسّره الدّعم الذي لقيه الصهاينة من بريطانيا طيلة فترة “الانتداب” (وهي تسمية خبيثة للاحتلال كما هو شأن “الحماية” بتونس).
منذ أكثر من 75 سنة، نفّذ هذا الكيان الفاشي عشرات المجازر الدّمويّة، منذ مجزرة دير ياسين وحيفا ومذبحة اللد ومجزرة كفر قاسم وخان يونس (1956) ثمّ مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) ومذبحة الأقصى (1990) والحرم الابراهيمي (1994) ومجزرة جينين (2002) وصولا إلى اليوم وما نعايشه من عربدة غير مسبوقة في مناطق أخرى في الضفّة وفي غزّة أساسا حيث ألقت طائرات العدوّ أطنانا من القنابل على مستشفيات وملاجئ وسوّت عديد الأحياء بالأرض بشكل مروّع، أمام دعم قوى غربيّة استعماريّة وصمت عربي رسميٍّ مخزي.
إنّ ما يبرّر هذا الدّعم الغربي اللاّمشروط لكيان الاحتلال هو الحاجة الحيوية لتواجد هذا الجسم الغريب في قلب الوطن العربي. فلا أحد يجهل الأدوار التي تلعبها إسرائيل بالوكالة عن الولايات المتّحدة ولصالحها في الشّرق، فهي عينها وأداتها الاستخباراتيّة ضدّ دول الشّرق (للحيلولة دون نهوضه ودون تملّك سيادته الكاملة على مقدّراته وثرواته ومصائره) ولكن أساسا عينٌ لها على مكوّنات القطب الآخر: الصّين وروسيا وإيران. إنّ مصير هذا الكيان مرتبط عضويّا بمصالح الغرب الامبريالي في هذه المنطقة. وليس أدلّ على ذلك تصريح الرّئيس “جو بايدن” منذ ايّام قائلا: “حتّى لو لم تكن هناك “دولة إسرائيل” لأوجدناها”.
أيّ موقف نتّخذه إزاء هذه الذّكرى اليوم؟
ككلّ عام، ومنذ أن فرضت الامبريالية الغربية وهيئاتها الهيمنيّة (الأمم المتحدة وغيرها) زائدة دوديّة في قلب الأوطان العربية ذات 1948، تحوّلت ذكرى “وعد بلفور” إلى مناسبة تحتشد فيه القوى المحبّة للسلام وكل القوى التوّاقة إلى التحرّر والانعتاق للتعبير عن إدانتها السّاخطة لهذه الجريمة، جريمة منح بريطانيا أرضا لا تملكها (فلسطين) لمن لا يستحقّها (الكيان الغاصب)، ويتمّ التذكير بحجم المظلمة التي ارتكبتها بريطانيا الاستعماريّة عبر تجريد شعب من وطنه وتشريد أبنائه في المخيّمات والحكم على من تشبّث منهم بالأرض بالقمع السّافر وبجرائم الإبادة والتّصفية.
وإلى اليوم، لم تعترف بريطانيا مطلقا بالجريمة التي ارتكبتها، بل تؤكّد دوما على اعترافها بحقّ هذا الكيان بالسّيطرة على قسم من أرض فلسطين، وهو موقف يحمل من الرّياء والمناورة الشيء الكثير. فقط أثبتت الوقائع والتجربة الملموسة تهافت حلّ الدّولتين، أي تواجد دولتين متجاورتين على أرض فلسطين، أحدهما للـ”يهود” (اقرأ: الصهانية)، وأخرى للـ”عرب”، بل إنّ الحلّ السليم والمنطقي والمبدئي يتمثّل في خيار الدّولة الفلسطينية العلمانية التي تتعايش فيها كلّ الأديان والثقافات وعاصمتها القدس.
منذ بضع سنواتٍ رفعت مجموعة من الشخصيات الحقوقية الفلسطينيّة دعوى قضائيّة ضدّ الحكومة البريطانيّة لدى القضاء الفلسطيني لإبطال ما ترتّب عن “وعد بلفور”. واعتبر القائمون بهذه الدّعوى أنّ الشعب التونسي لن ينسى هذه الجريمة التي ارتكبتها بريطانيا وبدعم أمريكي وفرنسي وقتها وأنّه يتصدّى بكل بسالة الآن (2020) لـ”صفقة القرن” التي ينفّذها الشعبوي الدّموي دونالد ترامب.
اليوم، ونحن نتابع الأحداث المأساوية والجرائم البشعة التي ترتكبها قوّات الاحتلال، مقابل دروس بليغة تقدّمها المقاومة الباسلة، علينا أن ندين بقوّة وبعمق بريطانيا الاستعمارية المسؤولة رأسا عن تسليم فلسطين لعصابات الصهاينة، وأن نترجم إدانتنا هذه في المطالبة برحيل سفير هذه الدّولة المجرمة، كما أدنّا في الأيام السابقة، ومازلنا، حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وكندا وإيطاليا، وطالبنا، ومازلنا نطالب، بطرد سفرائهم ووقف كلّ الاتفاقات العسكرية مع حلف النّاتو الاستعماري ومراجعة المعاهدات المهينة التي زجّتنا فيها الحكومات العميلة المتعاقبة.