جيلاني الهمامي
أصدر البنك العالمي مؤخرا تقريره الدوري لفصل الخريف الخاص بالوضع الاقتصادي في تونس تحت عنوان “الهجرة في سياق اقتصادي معقّد” خريف 2023. يقع هذا التقرير في 54 صفحة ويحتوي على قسمين اثنين الأول بعنوان “التطورات الاقتصادية الأخيرة” والثاني بعنوان “جعل الهجرة محرك تنمية وتقدم في تونس”.
يتضمن هذا التقرير معطيات محيّنة ومهمّة تمسح جميع أوجه الحياة الاقتصادية للسنة الجارية ومقارنات مع المواسم السابقة ومع سنة 2022 بالخصوص مصحوبة برسوم بيانية.
وقف التقرير على جوانب التحسّن للاقتصاد التونسي مثل تحسّن معدّلات التّبادل التجاري وانتعاش قطاع السياحة بما يسمح بتوقع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للعام الجاري بـ1.2% ولكنه – أي التقرير – أكّد في ذات الوقت على المصاعب التي يواجهها الاقتصاد التونسي نتيجة عوامل مناخية (الجفاف) ومالية (مصاعب الولوج إلى تمويلات خارجية ومحلية) وارتفاع نسب التداين.
مؤشرات سلبية وآفاق غير مطمئنة
وفي رصده لأهم المؤشرات الاقتصادية أوعز التقرير تباطؤ النمو وتعافي الاقتصاد التونسي لمؤثرات خمس سنوات من الجفاف الذي كان من جرّائه تراجع إنتاج الحبوب بنسبة الثلثين مقارنة بإنتاج سنة 2022 بحيث تراجعت القيمة المضافة لقطاع الفلاح بنسبة 11.2 ما بين 2019 و2023. وبشكل عام توقع التقرير أن تبقى نسبة النموّ للسنة الجارية في حدود 1.2% وهي نسبة تمثل نصف نسبة 2022 وربع نسبة 2021 وأضعف نسبة مقارنة بالبلدان المجاورة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهو ما نجم عنه تراجع نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام إلى أقل بـ4.7% ممّا كان عليه قبل جائحة الكوفيد نتيجة تراجع الناتج الداخلي (PIB) نفسه بنسبة بـ1.3 مقارنة بالثلاثي الأول من العام الجاري من جهة أخرى.
تحسّن غير ذي معنى
أدّت أسعار التبادل التجاري المواتية وانتعاش السياحة إلى تحسين عجز الحساب الجاري، حيث انخفض العجز التجاري لتونس بنسبة 39% الأشهر الثمانية الأولى من عام 2023 إلى 12.2 مليار دينار تونسي (7.5% من الناتج الداخلي الخام لعام 2023). يضاف إلى ذلك المنحى التنازلي الذي أخذته أسعار الطاقة والغذاء في الأسواق العالمية وهو أكثر ملاءمة للاقتصاد التونسي. من جانب آخر أدّى استقرار التحويلات المالية (التونسيون بالخارج…) أدّى إلى خفض عجز الحساب الجاري في السداسي الأول من سنة 2023. ومن أهم المؤشرات على التحسّن النسبي هو تحسّن عائدات السياحة التي ساعدت على تخفيف الضغط من الاحتياجات للعملة الصعبة. لكن وإلى ذلك كان لتقلّص عجز الحساب الجاري والتمويل الخارجي الإضافي الذي حصلت عليه تونس من السعودية أثر مهم أيضا في تخفيف هذا الضغط.
مجمل عناصر التحسّن هذه لا تُغني عن الحاجات الكبيرة للتمويل الخارجي التي ما تزال كبيرة في ظل انخفاض مستوى التمويل الخارجي السنة الماضية وعلى الأرجح طوال السنة القادمة. هذا دون أن ننسى أنّ العجز في الطاقة قد زاد واتّسع بسبب تراجع الإنتاج المحلي رغم تحسّن الأسعار في الأسواق العالمية. وبالتوازي مع ذلك استمرّت الضغوط على الواردات خاصة بالنسبة إلى بعض المؤسسات العمومية التي تختصّ في استيراد مواد معيّنة أساسية ومصنّعة أو شبه مصنّعة. مثال ذلك ديوان الحبوب: أمام الحاجة للزيادة في الواردات للتعويض عن النقص الحاصل في الإنتاج المحلي من مادة الحبوب وجد صعوبات في تمويل وارداته والنتيجة : نقص بنسبة 18% من القمح الصلب في السوق المحلية الأمر الذي خلّف أزمة اجتماعية حادة غير مسبوقة في تاريخ تونس (أزمة المخابز).
على الصعيد الاجتماعي عرفت المقدرة الشرائية للمواطنين تراجعا ذلك أنّ نسبة التضخّم عرفت ذروتها في شهر فيفري الماضي (10.4%) ورغم أنها سجّلت تراجعا طفيفا في شهر سبتمبر (9%) فإنّها ظلت مرتفعة وخاصة بالنسبة للمواد الغذائية (13.9%) وهي على كلّ حال أعلى بكثير من سعر الفائدة.
تمويل الميزانيّة والاختلالات الاقتصاديّة الكليّة (macroéconomiques)
لقد أمكن احتواء عجز الميزانية خلال النصف الأول من عام 2023 بفضل التحكّم في الزيادة في الأجور في القطاع العام وضعف الاستثمار العام. ولكن التحكّم في عجز الميزانية لم يكن كافيا لمنع تباطؤ النمو الذي أدّى إلى انخفاض أداء الضرائب غير المباشرة وخاصة الضريبة على القيمة المضافة والرسوم القمرقية. وكان متوقعا في الميزانية أن ترتفع مداخيل الضريبة بشكل عام بنسبة 15.3%، ولكنّ هذا الهدف لم يتحقق حيث لم ترتفع هذه المداخيل إلا بنسبة 8.3% وهي نسبة أقل من نسبة التضخم المسجل ما يعني أنّ القيمة الحقيقية للمداخيل الضريبية قد تقلصت أكثر فأكثر.
على صعيد آخر بلغت نسبة الدّين العمومي حوالي 80% من الناتج المحلي الخام، وبلغت نسبة تكلفة خدمات الدّين 3% من الناتج المحلي الخام، خلال النصف الأول من سنة 2023. وكان من الممكن أن تكون هذه النسبة أرفع من هذا بكثير لولا محدودية التوصل إلى تمويلات خارجية. ومعلوم أنّ الحكومة كانت في غياب ذلك عوّلت على الاقتراض المحلي. ومن المتوقع أن تكون حاجات الحكومة لتمويلات خارجية أكبر لمواجهة عجز الميزانية من جهة وللاستجابة لجدول سداد الديون الثقيل.
ويجزم التقرير أنّ آفاق النمو تعتمد بشكل كبير على تحسّن العوامل المناخية وعلى انفتاح أبواب التمويل الخارجي في وجه الحكومة. ومع ذلك يتوقع البنك الدولي أن يكون نمو الناتج الداخلي الخام بنسبة 1.2% في موفى عام 2023 – وهو تباطؤ كبير مقارنة بالفترة 2022-2021 – مع ارتفاع طفيف إلى 3.0 % في عام 2024.
الهجرة عامل تعقيد إضافي
أصبحت الهجرة – بما في ذلك عبر القنوات غير النظامية – استراتيجية ذات أهمية متزايدة لدى التونسيين للتعامل مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب في البلاد. ومع بلوغ أكثر من 54000 شخص (19 %)، يمثل التونسيون الجنسية الرئيسية للمهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى إيطاليا عبر طريق وسط البحر الأبيض المتوسط بين جانفي 2019 وجوان 2023. لكن وفي الاتجاه المعاكس تُعدّ تونس أيضا وجهة لحوالي 60 ألف مهاجر قادم من الخارج، وأساسا من بلدان جنوب الصحراء الافريقية اعتبارا من عام 2020. والذين استقرّوا بتونس يمثلون اليوم حوالي 0.5% من مجموع السكان. ومنذ نهاية عام 2022، أصبحت تونس أيضا دولة عبور مهمة للهجرة غير النظامية إلى أوروبا. وتمثل هذه التدفقات حوالي 44% من جميع المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا وثلثي المهاجرين غير النظاميين إلى إيطاليا.
بالنظر إلى أهمية كل هذه المعطيات يمكن لتونس أن تعمل (أيضًا مع الدول الشريكة) على تحقيق أقصى قدر من فوائد الهجرة. ولكن الواقع أثبت انها عامل تعقيد إضافي لا فقط بسبب ما تجلبه من مشاكل جانبية مادية واجتماعية وإنما أيضا بسبب تخبّط السلط التونسية في إيجاد المقاربة السليمة للتعاطي مع هذا المستجد.
نكتفي بهذا العرض لأهم ما جاء في تقرير البنك الدولي على أن نعود لقراءته من زاوية نقدية وبالاعتماد لا فقط على الأرقام والمعطيات الإحصائية وإنما أيضا إلى جانب ذلك بالاعتماد على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الملموسة.