علي بنجدو
لم تمثّل عملية طوفان الأقصى على الأرض الفلسطينية المحتلة في تاريخ 7 أكتوبر 2023 مجرد حادثة سياسية عرضية في تاريخ المقاومة الفلسطينية ضدّ الاحتلال الصهيوني الاستيطاني. بل جسّدت بكل معاني ودلالات المقاومة والاستتباعات السياسية الحينية والاستراتيجية حدثا غير مسبوق في كلّ ما راكمته النضالات الفلسطينية على امتداد تاريخها المعاصر بدءً من تأسيس دولة الكيان سنة 1948 ومرورا بكل المحطات المفصلية التي كانت فيها المقاومة المدنية والمسلحة في وضعية ردّ الفعل أو المبادرة. ورغم أنّ هذه الحرب مازالت متواصلة بما يزيد عن الشهر فإنّ هذه المقاومة حققت كمّا هائلا من الانتصارات على الأرض يتجاوز بكثير ما حقّقته الآلة الصهيونية الإجرامية وخلقت مزاجا وحالة نفسية وقابلية لمزيد التضحية لدى الشعب الفلسطيني. ورغم ما لحق سكان غزة من أذى مادي ونفسي وعمليات انتقامية -إجرامية مدروسة وممنهجة للترهيب وضرب كلّ مقوّمات الحياة على الأرض والتهجير واستهداف المباني والمدراس والمستشفيات والعاملين فيها والملاجئ والصحافيين فإنّ حالة الصمود في صفوف المقاومة وأهالينا المدنيين في فلسطين مازالت على ثباتها تتحدّى آلة الإجرام الصهيوني وكلّ القوى المتآمرة من داخل غزة وخارجها أنظمة ومواقف سياسية.
العالم ينتفض دعما للحقوق الفلسطينيّة
ما يميّز المساندة العالمية للحقوق الفلسطينية في هذه الفترة تخطّى كلّ التوقعات كمّا وكيفا. وجسّد تحوّلا نوعيا في حجم المساندة ودلالاتها وأبعادها وأبان عن حالة غير مسبوقة من تعاطف شعوب العالم، في وقت خال فيه العالم أنّ مسارات التسوية وتطبيع جزء من الأنظمة العربية الرسمية والأجنبية مع الكيان الغاصب وأنّ اتفاقية كامب ديفيد، واتفاق وادي عربة واتفاقيات أوسلو شكّلت نهاية الصراع العربي الصهيوني وبوادر حلّ أوّل مسمّياته في السياسة الدولية والإقليمية الاعتراف النهائي بـ”دولة إسرائيل” وفرض حلّ الدولتين المتجاورتين على الأرض التاريخية لفلسطين.
ما طبع هذه المساندة الكونية للحقوق الفلسطينية مباشرة بعد عملية طوفان الأقصى أنها جسّدت يقظة غير مسبوقة للضمير الإنساني وتحدٍّ لكل أسباب التضييق الأمني والسياسي والتلاعب الدعائي المضاد بمعطيات الحرب والتضليل الإعلامي في أغلب الدول الزاعمة للديمقراطية وضمان حقّ التظاهر وحرية التعبير بما فيها أقدم الديمقراطيات البرجوازية في أوروبا وآسيا كفرنسا وألمانيا وبلجيكا واليابان فضلا عن حكومة ورئيس وأغلبية الكونغرس في الولايات المتحدة… حيث منعت في البدء تجمّعات التضامن والمسيرات في أغلب العواصم والمدن وتمّ التضييق على النشر في المواقع الافتراضية ووُجّهت تهم معاداة السامية. ولكن شعوب العالم ونشطاء القوى اليسارية والتقدمية والحقوقيون ونشطاء البيئة والحركات النسوية والشبابية والمهاجرون تحدّوا كلّ مظاهر التضييق والهرسلة والملاحقات القضائية والأمنية لينجزوا مسارا تضامنيا تصاعديا أثبت أنّ القضية الفلسطينية لن تسقط بالتقادم وأنّ صوت الحرية لدى أحرار العالم أقوى من لوبيات الصهاينة وكلّ من يدعمهم ويوليهم أو يأتمر بأمرهم من أنظمة الحكم ودول التطبيع.
إنّ ما يميّز حركة التضامن الواسعة مع الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والعسكرية المقاومة ليس فقط تلك الأنظمة الوطنية الرسمية التي أعلنت وقوفها المبدئي إلى جانب الحقوق الفلسطينية أو التي طردت سفراء الصهاينة وأغلقت أو أنهت التمثيل الديبلوماسي مثل الشيلي وفينيزويلا والبيرو وكوبا… وإنما ما يميّز هذه الديناميكية للتضامن، إضافة إلى ما سبق، هو اتّساع حيّزها الجغرافي ودوامها في الزمن وتنوّع أشكالها التعبيرية والتجسيدية وسياقاتها وفضاءاتها بين شوارع المدن وأمام سفارات الدول الداعمة للصهاينة وملاعب كرة القدم وتراوحها بين رفع الشعارات السياسية المكثفة المندّدة بالحرب الإجرامية والإبادة الجامعية وتشريد السكان الفلسطينيين والمطالبة بإيقافها وإمداد سكان غزة بالدعم الغذائي والطاقي والطبي والدعوة إلى مقاطعة البضائع “الإسرائيلية” من جهة، وبين الانتصار الواضح للحق الفلسطيني أرضا ومصيرا بشكل مناقض تماما لدعاوي التطبيع وتزييف الوقائع والتاريخ وخطاب المظلومية الصهيونية.
هذه الحرب التي جسّدت فيها الصهيونية شكلا آخر/جديدا للنازية حيث تُعدم الأخلاق ويستباح الحق في الحياة على مذابح جرائم قتل النساء والأطفال والشيوخ. هذه الحرب لم تُؤدّ فحسب إلى يقظة الضمير الإنساني وتنامي الوعي الإنساني الكوني بالمغالطات الصهيونية وتورّط الإعلام الموجّه في قلب الحقائق وحياكة الأكاذيب والاستنفار المتزايد للوبيات الصهيونية المتحكّمة في جزء كبير من اقتصاديات الدول ومخابر صناعة قرارها السياسي الداخلي والخارجي. لم تُؤدّ الحرب إلى ذلك فحسب بل تجاوزت هذا المدى لتخلق حالة من التعاطف المركّب حيث تتزامن مناصرة شعوب العالم للحق الفلسطيني مع مراجعة بيّنة لمدى صدقية هذا الكيان الغاصب في ادّعاء الحق على أرض فلسطين نفسها.
وإذا شئنا تنزيل ديناميكية التضامن مع الشعب الفلسطيني ومقاومته في السياق العربي أمكننا القول إنّ الأمر يبدو أكثر تركيبا وتعقيدا حيث تغلب اعتبارات متعددة، منها ما هو متصل بثقل القضية الفلسطينية ورمزيتها الطاغية على دلالات المقاومة والتحرر والأرض والمصير المشترك، ومنها ما هو سياسي يومي وتاريخي مرتبط بأنظمة سياسية (ملكية، بيروقراطية عسكرية، جمهورية…) أقرب في هوية ومناحي حكمها إلى منظومات الحكم الاستبدادي حيث تعتبر الحرية والحق في التعبير ضدّان أصيلان لهذه الأنظمة حتى لو اتّصل الأمر بالتضامن مع الحقوق الفلسطينية ذاتها… يضاف إلى ذلك اعتبار آخر هو الهوية الإيديولوجية للمقاومة الفسطينية ذاتها. فأنظمة العرب وجزء من القوى السياسية الخارجة عن دائرة الحكم تتناسى أنّ المحدد في مواجهة الصهيونية هو الأولوية على جدول أعمال التحرر الوطني بقطع النظر عمّن يخوض هذه المواجهة ويحدّد أهدافها الآنية والبعيدة حيث تصل هذه الجهات السياسية إلى حدّ تجريم مكونات المقاومة الفلسطينية على قاعدة الهوية الأيديولوجية وتتآمر مع أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي ومحمود عباس لتحجيم حضورها وحتى إنهائها خدمة لأجندة التطبيع ولفرض حل الدولتين، معتبرة أنّ خطر حماس والجبهة الشعبية وغيرهما من فصائل المقاومة المسلّحة ليس أقلّ من خطر الحركات والتنظيمات الإسلامية الأصولية وكلّ التشكيلات السياسية الوطنية والتقدمية والثورية في البلدان العربية.
ورغم التضييقات المتكررة على حقّ التظاهر والتجمعات أمام سفارات الدول الداعمة للكيان الصهيوني للمطالبة بإغلاق السفارات وطرد السفراء الممثلون لها في بعض عواصم ومدن الدول العربية ولتجريم التطبيع أو إنهاء العمل به في جميع مناحيه وأبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، رغم كل ذلك فإنّ حركة التضامن الشعبي مازالت تحافظ على وتيرة فعلها ومدى اتساعها وإحراجها للأنظمة السياسية. وليس أدلّ على ذلك ما يحدث في عواصم ومدن تونس ومصر والمغرب والأردن والجزائر وإن بدرجات متفاوتة.
وإذا شئنا التخصيص أكثر في تعاطي الأنظمة الرسمية العربية مع واقع الحرب الدائرة على أرض فلسطين وأخذنا تونس مثالا شاهدا أمكننا القول إنّ تونس لم تكن بالمعنى السياسي الدقيق حالة استثناء إيجابي. فبغضّ النظر عن الدعوة إلى التبرع وإسناد الشعب الفلسطيني غذائيا وطبيّا ولوجستيا والتشهير بجرائم الصهيونية فإنّ منظومة الحكم في تونس لم تستجب لنداء التونسيات والتونسيين شعبا ونخبا لسنّ قانون يجرّم التطبيع ويقاضي كلّ من يتورّط فيها موقفا وممارسة. فمجلس نواب الشعب ومؤسسات الدولة الأخرى رئاسة وحكومة عملت جميعها على إسقاط مشروع قانون تجريم التطبيع وعارضته بشكل علني وصريح بحجة الضغط الخارجي وحماية مصلحة تونس من جهة وبادّعاء أنّ هذا القانون لا يرقى إلى مستوى المطلوب والاستعاضة عنه بقانون ينظر إلى التطبيع باعتباره “خيانة عظمى”… وفي هذا اللغط المتواصل وبين هذا الموقف وذاك تُفتعل الخلافات وتتباعد زوايا النظر حتى يتمّ في النهاية الالتفاف على مشروع قانون تجريم التطبيع وتناسيه تماما كما وقع في سنتي 2013 و2016.