عاد الحديث بقوة في الأيام الأخيرة حول مقاطعة الكيان الصهيوني الذي يخوض حرب إبادة رهيبة ضد الشعب الفلسطيني وخاصة منذ تنظيم المقاومة في غزة لعملية “طوفان الأقصى”. عاد الحديث في تونس وفي الوطن العربي والعالم حول أهمية هذا السلاح الفعال والناجع في شدّ أزر نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية الباسلة التي ترسم أروع ملاحم الصمود في معركة غير متكافئة مع جيش مدجّج بأفتك الأسلحة وأكثرها تطورا ومسنودا من كل الدول الامبريالية الغربية ومن لفيف واسع من أنظمة العمالة والخيانة في المنطقة. إنّ الحرب الدائرة الآن على أرض فلسطين إنما تقابل بين آلة حربية ضخمة وشعب أعزل ومحاصر ومشتّت بين أماكن متعددة من الأرض المحتلة التي تتوزع على كنتونات الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي المحتلة سنة 1948، وبين بلدان اللجوء والشتات في مخيمات بلدان الطوق (لبنان، سوريا، الأردن) ومشارق الأرض ومغاربها. لكن هذا الشعب ظل وما يزال مسنودا من حلفائه الطبيعيين وهم شعوب العالم ومضطهديه من عمال وكادحين ومثقفين ثوريين ونساء وشباب، كل هؤلاء ينخرطون في المعركة والصراع من مواقع مختلفة وبأدوار متنوعة قد تصل المشاركة المباشرة في النضال الوطني التحرري وهو ما فعله ثوار من مناطق عديدة من العالم لعل أشهرهم “أوكاموتو” والكتيبة الثورية المسلحة من الجيش الأحمر الياباني التي التحقت بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وقادت عمليات مسلحة ضد العدو من أشهرها عملية اللدّ سنة 1972 التي كبّدت العدو خسائر هامة لعلّ أهمها تأكيد الطبيعة الأممية للصراع الذي يقابل بين الكيان المحتل من جهة، وكل الأحرار في العالم من الجهة المقابلة. ولم تقف مساهمة قوى الحرية في مختلف القارات والبلدان على شكل واحد من المساندة بل تنوّعت الأساليب ومن أهمها حركة المقاطعة التي تنهل من رصيد مهم وثري مارسته الشعوب والحركات الثورية ضد المحتلين والغزاة.
المقاطعة آليّة من آليّات النضال الوطني
تعتبر المقاطعة من أهم الآليات التي تمّ إبداعها من قبل حركات النضال الوطني والديمقراطي، فقد استهدفت أنظمة الاحتلال كما استهدفت أنظمة الاستبداد. وهي آليّة فعّالة من جهة أنها تخلق محاور جديدة ومساعدة لإضعاف دولة الاحتلال أو النظام الدكتاتوري.
لقد شهدت حركة المقاطعة بداياتها منذ أواسط الستينات بمناسبة الحرب الفيتنامية، لقد ولدت حركة رمزية سرعان ما توسّعت تدريجيا لمساندة الشعب الفيتنامي وثورته ضد الاستعمار وذلك بالدعوة إلى مقاطعة كل ما يرمز للدولة الأمريكية سياسيا واقتصاديا وثقافيا من أجل تعميق الإدانة والسخط في أوساط جماهيرية وشعبية واسعة، وقد استقطبت حركة المقاطعة أوساط سياسية ونقابية وجمعوية، كما استقطبت مثقفين وفلاسفة وفنانين كبار لعبوا دورا حيويا في تنشيط حركة المساندة والتضامن، ويمكن هنا الإشارة إلى الدور الطليعي الذي لعبه الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر مثلا في دعم كل القضايا العادلة ومنها الثورة الجزائرية والفيتنامية. وقد عرفت حركة المقاطعة ذروتها في إطار مساندة الكفاح الذي خاضه شعب جنوب إفريقيا ضد نظام الميز العنصري. لقد انخرط في ديناميكية مقاطعة نظام “الابرتايد” جمهور واسع على المستوى العالمي أمام المغازات والمتاجر لدعوة الناس كي لا يشتروا البضائع القادمة من جنوب إفريقيا، كان النشطاء من أنصار الحرية يتوجهون إلى المواطنين بالقول إنّ هذه البضاعة التي يريدون شراءها مغمّسة بدماء الأبرياء السود في جنوب إفريقيا التي احتلها البيض العنصريون القادمون من أقصى شمال الكرة الأرضية، وإنّ ثمن هذه البضاعة سيشتري به النظام العنصري رصاصا كي يقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ. ولم تقف الحركة في حدود المقاطعة التجارية، بل اتجهت إلى كل ما يرمز للنظام العنصري مثل مقابلات كرة القدم ومختلف الرياضات والأنشطة العلمية والأكاديمية والثقافية والسياسية. لقد شهدت قاعات كبرى في مختلف العواصم خاصة الأوروبية انسحاب أغلب الحضور حين يأتـي الدور في الكلمة لطبيب أو جامعي أو مسؤول من دولة جنوب إفريقيا. وكان النشطاء ينظّمون الحملات أمام سفارات النظام العنصري لدعوة الناس إلى عدم التوجه إلى ذلك البلد الجميل الذي احتله الغزاة العنصريون. لقد حققت تلك الحملات وتلك الحركة العالمية لمقاطعة نظام “الأبرتايد” مكاسب هامة خاصة فيما يهم فضح الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي يريد النظام إخفائها. لقد أصبح حلفاء نظام بريتوريا العنصري يجدون حرجا في استقبال “دي كلارك” الذي أصبح منبوذا فيما تحوّل “نيلسون مانديلا” إلى زعيم عالمي ورمز للكفاح ضد العنصرية. وحين انتصر شعب جنوب إفريقيا على جلاديه كانت القناعة واسعة صلبه أنّ حركة المساندة العالمية التي تمحورت حول المقاطعة النشيطة لنظام الميز العنصري لعبت دورا مهما ومحوريا في هذا النصر. إنّ هذا الانتصار كان منطلقا لبلورة تيار عالمي للمقاطعة أصبح يستهدف الشركات العابرة للقارّات والرموز التجارية والمالية في العواصم الكبرى بمقتضى مسؤوليتها فيما تعرفه المجتمعات والبلدان من تبعية وتفقير وتهميش ومجاعات. وأصبحت حركة المقاطعة حركة لها فكرها الذي أصبح ينهل من الأفكار اللاعنفية للمهاتما غاندي صاحب نظرية “الكفاح السّلبي” أي النضال السلمي الرافض للعنف والذي يعتمد سلاح المقاطعة كسلاح فعّال وناجع مثل الذي مارسته الشعوب الهندية بدعوة من غاندي ضد الاحتلال البريطاني إذ كان الناس لا يركبون القطار ولا يشترون السلع الإنجليزية حتى تضررت وأفلست المؤسسات الاقتصادية الاستعمارية. وأيضا أفكار نيلسون مانديلا الذي دافع تقريبا عن نفس أفكار غاندي.
مقاطعة الكيان الصهيوني بين المشروعية والمحدودية
كانت الدعوة لمقاطعة الكيان المحتل ورفض إقامة أيّة علاقة معه أحد مرتكزات الحركة الوطنية الفلسطينية وأنصارها في العالم، ولئن ظلت مناسباتية وممارسة نضالية تميّز أصدقاء القضية، فإن بروز حركة منظمة للمقاطعة لم يتحقق إلا سنة 2005 حين تم بعث “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” (BDS) بعد إصدار نداء من طرف 171 منظمة فلسطينية، علما وأنّ هذه الحركة كانت مسبوقة بحملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لدولة الاحتلال. إنّ حركة المقاطعة اليوم هي حركة عالمية ولها فروعها وأنصارها في عديد البلدان في الشمال والجنوب، وتعرف نشاطاتها زخما كبيرا خاصة في العواصم الغربية ممّا أزعج الأنظمة والأجهزة القمعية، ففي الولايات المتحدة عبّر أكثر من وزير عن انزعاجه من أنشطة هذه الحركة، كما تقدم نواب في الكونغرس بمشاريع قوانين لتجريم هذه الحركة بداعي إضرارها بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وتعرف أنشطة المقاطعة للكيان الصهيوني في المدة الأخيرة تناميا بالتوازي مع الأوضاع في الأراضي المحتلة، وتستهدف الدعوات لا فقط مقاطعة كل ما يرمز للكيان المحتل، بل تستهدف كل شركائه وحلفائه من أوساط اقتصادية وتجارية وإعلامية وسياسية وجمعوية وعلمية وثقافية، وهي بصدد تحقيق انجازات مهمة دعائية ونضالية. لكن هذه الحركة تعرف ضعفا في أغلب البلدان العربية ومنها تونس نظرا لضعف ثقافة المقاطعة خاصة لكل ما هو استهلاكي. إنّ الوعي بأهمية سلاح المقاطعة محدود وغير متبلور ولا شائع حتى داخل الوسط المناصر للقضايا العادلة وهذا خلل وجب الوعي به.
لقد خيضت تجربة مهمة في المدة الفارطة في بلادنا وحققت مكاسب نوعية وهي التي استهدفت سلسلة مغازات “كارفور” التي نجحت بعض الأنشطة المحدودة أمام مقراتها في تحقيق فراغ رهيب حول مبيعاتها ممّا حدا بمسؤوليها إلى تنظيم حملات مغالطة للادعاء بمناصرة فلسطين وفي نفس الوقت تنظيم حملات تخفيض كبير جدا في الأسعار لاستعادة الحرفاء. لقد استلهمت عديد الحركات في العالم من هذه التجربة الناجحة فكرة تعميمها عالميا بحثا عن النجاعة من خلال النماذج الناجحة.
إنّ المطلوب من الحركات المناضلة والجماهير المنخرطة فعليا في معركة فلسطين أن تعطي لسلاح المقاطعة ما يستحق. إنّ المقاطعة هي الوجه المكمّل للمقاومة، وهي جميعها معارك ميدانية تستهدف العدو في مقتل. لقد أثبتت التجربة التاريخية أهمية هذا السلاح، فلنرفع المقاطعة في وجه كل ما له علاقة بالصهيونية والامبريالية وأنظمة العمالة والخيانة، إن إضعافها هو تقوية للمقاومة والعكس صحيح.
علي الجلولي