علي بنجدو / مناضل يساري مستقل
استئنافا لما ورد في مقالي السابق حول مستجدات القضية الفلسطينية منذ 7 أكتوبر 2023 وحجم المساندة الكونية للشعب الفلسطيني في صموده أمام الآلة الإجرامية الصهيونية بعد عملية طوفان الأقصى وما ارتبط بذلك من مواقف سياسية داعمة للكيان الصهيوني بدء من الولايات المتحدة مرورا بأعتى أنظمة أوروبا و”ديمقراطياتها العريقة” وانتهاء إلى أغلب الأنظمة العربية الرسمية، استئنافا لما سبق وارتباطا به وعلى اعتبار أنّ التحليل السياسي لأيّ حدث أو مسار من الأحداث الوازنة والمؤثّرة يظل في النهاية منقوصا في جدواه ومغزاه وأقرب إلى سردية الوقائع والاستغراق في نوع من التاريخانية الشكلية المفككة والمعالجة القائمة على المسايرة الانفعالية ما لم تكن هذه الوقائع ذاتها منطلقا للتحليل وفق خيط ناظم يلتقي فيه السياسي بالايديولوجي والفكرة بالمنهج وطريق بناء التحليل. في هذا السياق تبدو ديناميكية الحدث السياسي في فلسطين ووقائع الحرب المستمرة لما يتجاوز الشهر ونصف بين عدوّ مغتصب للحق ومقاومة شعبية تبادر بإمكانات بسيطة بكتابة فصل جديد في تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني وفي القطع مع كل مسارات التسوية السياسية السلمية وأجندة التطبيع. ورغم تفاوت موازين القوى العسكرية ودعم قوى الهيمنة الامبريالية وتورّط مراكز ولوبيات صناعة الخبر السياسي الكاذب/الزائف ومحدودية الإعلام البديل في نقل الحقيقة إلى العالم من واقع الحرب الدائرة وحجم الإجرام النازي لآلة الحرب الصهيونية فإنّ استمرار المقاومة وتنوّع أدواتها وأساليبها وعناصر المباغتة فيها أعاد صياغة خارطة سياسية أخرى لموازين القوة على الأرض المحتلة خاصة بعد تورّط الجيش الصهيوني في الاجتياح البرّي الجزئي لأحياء من مدينة غزة في ما يشبه العملية الانتحارية بدعاوٍ مختلفة منها ما هو متصل باستعادة أسرى الاحتلال ومنها ما هو على صلة برهان القضاء على حركة حماس على صورة عملية جراحية استئصالية لكل مقاومة ممكنة تستهدف دولة الكيان الصهيوني وتقلّص نفوذها الاستيطاني والعسكري على المدن والمناطق الخارجة على السيطرة وعلى التنسيق الأمني المشترك بين أجهزة الأمن الصهيوني والسلطة الفلسطينية. ورغم ما تميّزت به عمليات القصف العشوائي واستهداف المدنيّين في الملاجئ والأحياء والوحدات السكنية والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس على كل شبر من أرض غزة في ما يشبه مجازر نازية فإنّ المقاومة الشعبية الفلسطينية سطّرت ومازالت ملاحم صمود وبطولات غير مسبوقة في التاريخ.
المقاومة الفلسطينية: بين المنجز على الأرض والمآلات السياسيّة الممكنة.
ليس من الممكن الحديث عن مآلات سياسية لما تنجزه المقاومة الفلسطينية بشكل دقيق وجازم إلاّ ضمن حدود المتوقّع الممكن لا سيّما وأنّ الحرب مازالت مستمرة ومفتوحة على احتمالات مختلفة من ناحية مداها الجغرافي والزمني وتنوّع أهدافها وديناميكية وتغيّر موازين قواها السياسية وتغيّر معطياتها الحينية (من جهة الربح والخسارة) إلى جانب تأثير المواقف السياسية الخارجية وحجم تأثيرها على المقاومة الفلسطينية من جهة وحكومة الكيان وجيشها وأجهزتها الأمنية من جهة ثانية، يضاف إلى ذلك كل ما يتعلّق بمسألة التفاوض على الأسرى وتفعيل مطلب الهدنة وإيقاف الحرب ولو بشكل مؤقت…
كلّ هذه المعطيات وإن كانت تتشابك وتترابط موضوعيا في تأكيد أنّ هذه الحرب ستستمرّ في المستقبل وتعيد إحياء الحق الفسطيني ورمزيته السياسية والوجدانية ومزيد تجذيره في وعي واستراتيجية المقاومة فإنها تؤكد من جهة أخرى أنّ المقاومة الفلسطينية مازالت تحتفظ باحتياطي مهم من القدرات البشرية والقدرة على المبادرة والتكيّف مع مستجدات وتغيّرات السياسة الإقليمية والعالمية. فالمقاومة التي تصدّت لآلة القهر الصهيوني الإجرامي ودفعت كثيرا من تكلفة الدم وعانت كثيرا وطويلا من مسارات الخيانة الرسمية لبعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة السلطة الفلسطينية مازالت تقدّم الدرس تلو الآخر والمبادرة تلو الأخرى في تنشيط ذاكرة الفلسطينيّين وكل أحرار العالم بأنّ الدولة الصهيونية أضعف من أن تقدر على تثبيت وتوسيع سطوها على الأرض واستكمال بنائها كدولة ضمن شروط سلمية مسنودة من شرعية دولية فاقدة لكلّ أسباب شرعيتها السياسية والأخلاقية.
المآلات السياسية لهذه المقاومة ولواقع الحرب الدائرة الآن على أرض فلسطين ليست بالمطلق محددة بسقف زمني آني أو قريب لا لأنّ المقاومة الفلسطينية عاجزة عن تحديد أهدافها بل لأنّ القضية الفلسطينية برمّتها محور تقاطع وتباين في آن بين جهات مختلفة منها من هي حاملة للهمّ الفلسطيني بدء من الفلسطينيين أنفسهم، مرورا بشعوب المنطقة ودول الجوار الإقليمي وانتهاء إلى كلّ شعوب العالم المناصرة للحق الفلسطيني ومنها من زاوية مناقضة كل القوى السياسية (دولا وأحزابا ومنظمات…) الداعمة للكيان الصهيوني دولا ولوبيات إسناد إيديولوجي، مالي، إعلامي وسياسي خاصة تلك التي لها نفوذ سياسي مباشر على السياسة الأمريكية الرسمية ودول أوروبا الغربية وجزء من دول أوروبا الشرقية…
استمرار هذه المقاومة الفلسطينية وثباتها وديموتها على محاور مختلفة للمقاومة من مقاومة الاستيطان والتوسع والتصدي لحلّ الدولتين ومحاولة جعل القدس عاصمة أبدية لدولة الكيان إلى جانب ضمان عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي/الديمغرافي للوافدين الصهاينة إلى الأراضي المحتلة، كل هذه الأشكال/العناصر للمقاومة مسنودة بتوسيع التصدي لحالة التطبيع الرسمي تظل بالنهاية الشروط الموضوعية المتاحة لتغذية هذه المقاومة وضمان استمراريتها رغم كل المؤامرات الاقليمية والدولية التي تدعم الكيان الصهيوني في مقابل محاولات وأد المقاومة الفلسطينية.