الرئيسية / صوت الوطن / قيس سعيّد واتّفاق الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي: ابتزاز وخضوع ومزايدات باسم السّيادة الوطنيّة
قيس سعيّد واتّفاق الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي: ابتزاز وخضوع ومزايدات باسم السّيادة الوطنيّة

قيس سعيّد واتّفاق الشّراكة مع الاتّحاد الأوروبي: ابتزاز وخضوع ومزايدات باسم السّيادة الوطنيّة

 

جيلاني الهمامي

أعلن رئيس الدولة قيس سعيد يوم الثلاثاء 2 أكتوبر 2023 الماضي في لقاء مع وزيره للخارجية رفض ما أعلنته المفوضية الأوروبية قبل أيام من مساعدات مالية لتونس. وجاء على صفحة رئاسة الجمهورية “أكّد رئيس الجمهورية على أنّ تونس التي تقبل بالتعاون لا تقبل بما يشبه المنّة أو الصدقة فبلادنا وشعبنا لا يريد التعاطف بل لا يقبل به إذا كان دون احترام” وتضيف صفحة رئاسة الجمهورية، “فإنّ تونس ترفض ما تمّ الإعلان عنه في الأيام القليلة الماضية من قبل الاتحاد الأوروبي، لا لزُهد المبلغ فخزائن الدنيا كلها لا تساوي عند شعبنا ذرة واحدة من سيادتنا، بل لأنّ هذا المقترح يتعارض مع مذكرة التفاهم التي تمّ توقيعها في تونس ومع الروح التي سادت أثناء مؤتمر روما في جويلية الفارط”.
وفيما فوجئت العاصمة الأوروبية بروكسيل بهذا التصريح، فقد حاول ممثل الاتحاد الأوروبي في تونس التخفيف من الأمر راجيا أن لا يكون في الأمر سوء تفاهم. ولكن أكد من جانبه ما معناه أن لا مبرر لتصريحات قيس سعيد بالنظر كما قال إلى “أنّ كلّ الأمور على ما يُرام، واتّخذت المسار الذي يعكس مصداقية الشراكة بين تونس والاتّحاد الأوروبي”. ورمى بالكرة في ملعب قيس سعيد حيث قال في حديث لراديو محلي “إنّ تصريحات الرئيس قيس سعيّد تتعارض مع ما كان متّفقا عليه”.
وقد ذهب المراقبون اتجاهات مختلفة لتفسير هذا الموقف المفاجئ من الرئيس التونسي الذي بذل جهودا كبيرة قبل شهرين من أجل إبرام اتفاقية تفاهم مع الجانب الأوروبي بخصوص ملف الهجرة ختمه بحضور ما سمي “مؤتمر روما” حول هذا الموضوع. فأتباع الرئيس هبوا، وهو شيء متوقع منهم، لينفخوا في حجم هذه التصريحات ومدلولاتها وليعطوها أبعادا ربما لم يقصدها صاحبها نفسه. وقدموا الأمر على أنه بطولة غير مسبوقة وآية من آيات الوطنية الخ…
ولكن بعيدا عن مديح “القوادة” وتحامل المتحاملين لنحاول البحث في الدوافع التي دفعت قيس سعيد إلى الإدلاء بهذا التصريح ومقاصدها وأهدافه من وراء ذلك.
للتذكير فإنّ مذكرة التفاهم التي وقعت عليها تونس والاتحاد الأوروبي بتاريخ 16 جويلية الماضي والمسماة Mémorandum d’entente sur un partenariat stratégique et global “مذكرة تفاهم حول الشراكة الاستراتيجية والشاملة” هي كما يدل عليها اسمها “مذكرة تفاهم” عارية عن الصفة القانونية الملزمة للأطراف الموقعة عليها تضمنت سلسلة من البرامج التي تتعلق بخمسة ميادين مختلفة سنأتي إلى تفصيلها لاحقا. ويأتي هذا الاتفاق كتتويج لمسار من الاتصالات والمشاورات كان لقاء 11 جوان الماضي محطته الأبرز. وكانت رئيسة الحكومة الإيطالية يوم التوقيع على اتفاقية التفاهم نوّهت “أنّ هذا الاتفاق هو تتويج لعمل ديبلوماسي جبار”

ممهّدات اتفاقية التفاهم
انطلقت المساعي من الجانبين منذ مدة. وكان لكل من الطرفين منطلقاته ودواعيه وحساباته. وبدأ كل منهما العمل على هذا الملف. فسعيد الذي تعثرت كل مساعيه للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي ويئس من وعود “الإخوة الخليجيين” كان في حاجة ماسة إلى مصادر تسليف بديلة ويرى في أوروبا الفرصة الممكنة لاقتلاع ما أمكن لتمويل الميزانية وتخفيف وطأة الأزمة المالية التي تمرّ بها البلاد. أما أوروبا فقد كانت، من جهتها، في حاجة إلى حلّ سريع لمجابهة تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين غير النظامين والذين يتخذون من تونس مرفأ للإبحار نحو لمبادوزا ومنها إلى كل أوروبا. وتفاعلا مع تصريحات سعيد شهر فيفري الماضي بخصوص الأفارقة من جنوب الصحراء، والتي اعتبرتها الأمم المتحدة تحريضا عنصريا فيما ذهب البنك العالمي حدّ تعليق المساعدات لتونس، استغل الرئيس الفرنسي ورئيسة الحكومة الإيطالية الوضع ليشيرا إلى انطلاق مسار من الاتصالات والمشاورات بخصوص الموضوع. وتواترت الاتصالات على مستوى عال (مكلف السياسة الخارجية الأوروبي والمكلف بالاقتصاد مثلا) والتي أفضت يوم 11 جوان الماضي إلى عقد لقاء قمة في قصر قرطاج مع رئيسة الاتحاد الأوروبي مصحوبة برؤساء حكومتي إيطاليا وهولندا. هذه القمة التي عرض فيها الوفد الأوروبي تتويج كل المشاورات السابقة باتفاق شراكة حول خمسة محاور تهم التعاون الاقتصادي والتجاري والتعاون في مجالات الانتقال الطّاقي والرقمي وغيرها من التفاصيل. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية التي ترأست الوفد وتولّت بنفسها تقديم العرض الأوروبي أعلنت على هامش اللقاء/القمة تمكين تونس من مساعدات مالية قد تصل مبلغ 900 مليون يورو إذا توصلت تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. رئيسة الوزراء الإيطالية تولت من جانبها شرح العرض الأوروبي بخصوص معالجة ملف الهجرة. وبصرف النظر عن التفاصيل الكثيرة المتصلة بهذا اللقاء/القمة فقد تواعد الطرفان، سعيد ووفد الاتحاد الأوروبي، على قمة موالية انعقدت يوم 16 جويلية شهدت توقيع “اتفاقية تفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي حول الشراكة الاستراتيجية والشاملة”.

مضمون الاتفاقية
تضمنت الاتفاقية خمسة ميادين مختلفة هي الاستقرار الاقتصادي الكلي stabilité macroéconomique)، التبادل التجاري، الانتقال الطاقي الأخضر والتقارب بين الشعوب والهجرة. وتكتسي الاتفاقية كما جاء في مقدمتها “طابعا استراتيجيا” ينبني على طموح الطرفين، تونس والاتحاد الأوروبي، إلى الدفع بالعلاقات بينهما إلى مستوى أرقى وذلك بتعزيز الشراكة الاقتصادية والتجارية وبغاية دعم الإصلاحات الاقتصادية التي أقرتها تونس لإعادة التوازن لمالية للدولة. والمتمعن في مضمون هذه الاتفاقية يدرك أنها جاءت لتعوض اتفاقية “الأليكا” التي تعثرت المفاوضات بشأنها بما أنها تضمنت اتفاقات بخصوص قطاع الفلاحة والبيئة والطاقة والنقل والاستثمارات والتجارة. وبطبيعة الحال بالنظر إلى مستجد ظاهرة الهجرة والهجرة غير النظامية فاتفاقية الأليكا التي لم يكتب لها أن ترى النور على الصورة التي وضعها الاتحاد الأوروبي في مستهل التفاوض بخصوصها جاءت لتتمة “اتفاقية الشراكة الصناعية” لسنة 1996 وكانت تهدف إلى ربط الاقتصاد التونسي بالفضاء الأوروبي في بقية المجالات (غير الصناعية) وخاصة الفلاحة والخدمات والبحث العلمي الخ…
“مذكرة التفاهم حول الشراكة الاستراتيجية والشاملة” هي بمثابة البديل عن “الأليكا” وبنفس المضامين والأغراض والأهداف. وإذا كانت الأولى قد تعطلت ثم تعثرت وكادت تٌقبر فإنّ قيس سعيد قطع كل المسافات في وقت قياسي للتوقيع على اتفاقية من هذا الحجم وبهذا البعد الاستراتيجي الخطير دون العودة إلى أية هيئة من مؤسسات الدولة ومن غير اعتبار لرأي الشعب التونسي الذي سبق وأن عبر بواسطة عديد القنوات عن احترازات كثيرة حيال هكذا اتفاقيات والحال أنّ اتفاقية الشراكة الصناعية التي فككت النسيج الصناعي التونسي ولم تثمر تنمية ولا نموا لم تخضع بالمرة لأبسط تقييم.
نحاول في ما يلي التوقف عند بعض تفاصيل اتفاقية التفاهم أوّلا بأوّل كما جاء في نص الاتفاقية في نسخته الفرنسية المنشورة على موقع الاتحاد الأوروبي.
ففي الفقرة الأولى المتعلقة بـ”استقرار الاقتصاد الكلي” جاء فيها حرفيا “سيرافق الاتحاد الأوروبي الإصلاحات وبصفة خاصة بواسطة مساعدة ميزانية سنة 2023 وسيقع تحويل كامل مبلغ المساعدة”.
كما جاء في الفقرة الموالية بعنوان “الاقتصاد والتجارة” ما يلي “يسعى الطرفان إلى تحديد فرص الاستثمار العام والشراكات بين القطاعين العام والخاص والمشاريع الخاصة، بما في ذلك في إطار الصندوق الأوروبي للتنمية المستدامة(EFSD +) ، في مجالات القدرة التنافسية وتنمية القطاع الخاص، وتحديث قنوات التوزيع ومراقبة السوق، والحصول على التمويل، والمياه والزراعة المستدامة، والتكنولوجيات النظيفة و/ أو في سياق الاقتصاد الدائري، والطاقة المتجددة، والتحضير لإنتاج الهيدروجين المتجدد والاندماج في القطاعات الاستراتيجية لسلاسل القيمة في الاتحاد الأوروبي، في القطاعات الاستراتيجية ذات الإمكانات التصديرية العالية”. وكما هو ملاحظ فإنّ الاتفاقية منحت الاتحاد الأوروبي فرص الاستثمار في مجالات اقتصادية متعددة ومتنوعة تماما كما كان مبرمجا من قبل في اتفاقية “الأليكا” التي لم يكتب لها أن تتم.
وقد خصصت اتفاقية التفاهم خمس فقرات تفصيلية للمسائل التالية: الفلاحة والاقتصاد الدائري والانتقال الرقمي والنقل الجوي والاستثمارات لتدقيق المبادئ الواردة بالفقرة السابقة.
أما في ما يخص الطاقة فقد جاء في الاتفاقية “تعمل تونس والاتحاد الأوروبي من أجل شراكة استراتيجية في مجال الطاقة” ومن جهة أخرى تم الاتفاق على أن “يعمل الطرفان على تعزيز إنتاج الهيدروجين القابل للتجديد ومشتقاته ومنها الأمونيا (l’ammoniaque) في تونس، لتلبية حاجيات سوقها الداخلية والطلب الخارجي الدولي، أخذا بعين الاعتبار ضرورة حماية مواردها المائية”.
ومن أهم ما ورد في هذا الجانب هو الاتفاق على “اتخاذ الإجراءات اللازمة، بما في ذلك وضع اللمسات الأخيرة على خطة التمويل، بهدف التوقيع على اتفاقية خاصة بالمنحة المرصودة بعنوان “آلية الترابط في أوروبا” بقيمة 307 مليون يورو”. وللإشارة فإنّ هذا الرقم هو الوحيد المنصوص عليه في الاتفاقية وليس هناك أيّ رقم آخر في كامل نص الاتفاق. وكل بقية الأرقام المتداولة فهي إما مرتبطة ببرامج تمويل سابقة وقديمة أو هي أعلن عنها من قبل المسؤولين الأوروبيين الذين وقعوا الاتفاقية في الندوة الصحفية التي أعقبت حفل التوقيع.
وبطبيعة الحال اختتمت الاتفاقية بفقرتين الأولى بعنوان “التقارب بين الشعوب”، الثانية وهي الأخيرة “الهجرة والتنقل” وقد أعرب الطرفان عن نيتهما “مواصلة التعاون لتعزيز المجتمع المدني وتنمية الحوار بين الشعوب وتعزيز المبادلات الثقافية والعلمية والتقنية، بما في ذلك من خلال تنفيذ الشراكة بشأن الشباب لعام 2016 وبرامج الاتحاد الأوروبي الأخرى في مجالات البحث والتعليم والثقافة والشباب، بما في ذلك تنمية المهارات والتنقل” كما جاء في الفقرة المتعلقة بالتقارب بين الشعوب. وتعهد الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد بـ”تقديم مساعدة إضافية في هذه المجالات” علاوة على أنه (أي الاتحاد الأوروبي) “سيستمر في جهوده من أجل تنسيق ممارسات الدول الأعضاء في مجال إصدار تأشيرات “شنقن” للإقامة القصيرة للمواطنين التونسيين من خلال آلية تنسيق “شنقن المحلية” مشيرا إلى دعم محتمل للمشاركة في البرامج الأوروبية في مجالات التربية والبحث والإبداع مثل برنامج “أفق أوروبا” Horizon Europe وبرنامج Erasmus وبرنامج “أوروبا المجددة” Europe créative.
أخيرا وفي مجال الهجرة اتفق الطرفان على “تصور شامل للهجرة” une approche holistique de la migration. ومن منظور هذا التصور ينبغي العمل على “معالجة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية”. وقد أكد الطرفان أنهما “يتقاسمان أولوية مكافحة الهجرة غير النظامية”. وشددت تونس على أنها “ليست بلدا لتوطين المهاجرين غير الشرعيين” وبأنها “لن تحرس إلا حدودها”.
لكن وعملا بالاتفاق الحاصل في أفريل الماضي الذي تضمن وضع أسس شراكة عملياتية معززة لمكافحة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر مازال يجري بشأنها النقاش، نصت اتفاقية التفاهم على تطوير نظام للتصرف في الحدود البحرية ووضع منظومة التعرف على المهاجرين غير النظاميين المتسللين أو المتواجدين على التراب التونسي وبلدانهم الأصلية. وبعد الإشادة بالجهود التونسية لاعتراض عمليات الهجرة غير النظامية تعهد الاتحاد الأوروبي بمنح تونس مساعدات مالية إضافية لاقتناء التجهيزات الضرورية وتغطية مصاريف التكوين وكل الجوانب التقنية من أجل تحسين قدراتها على تأمين حدودها من جهة ولتشجيع التونسيين المتواجدين في أوروبا بشكل غير قانوني على العودة مقابل مساعدتهم على بعث مشاريع خاصة وإعادة إدماجهم اقتصاديا واجتماعيا من جهة ثانية.
هذه عموما أهم نقاط التفاهم المضمنة بالاتفاقية المسماة “استراتيجية وشاملة” والتي تمنح الاتحاد الأوروبي فرصا متعددة كي يجعل من تونس حديقة خلفية وفضاء ملحقا واحتياطيا لخدمة مصالحه الاقتصادية والتجارية والتقنية ومعالجة جملة من المشاكل التي يواجهها وخاصة مشكلة الهجرة غير النظامية. فروح الاتفاقية تتمثل في فتح الباب لأوروبا كي “تغزو” تونس مجتمعا وسوقا واقتصادا باعتماد آلية “المساعدات المالية” وبرامج الشراكة.

السخاء الأوروبي الكاذب
كما رأينا أعلاه لم تتضمن اتفاقية التفاهم التزامات مالية محددة عدا مبلغ 307 مليون يورو كمنحة بعنوان “آلية الترابط في أوروبا” المنتظر توقيع اتفاقية بشأنها في المستقبل. ففيما عدا ذلك جاءت كل الالتزامات والتعهدات والنوايا في شكل مبادئ اتفاق عامة سيقع تحويلها لاحقا إلى خطط عمل قطاعية واتفاقيات ذات قيمة قانونية ملزمة. لكن ذلك لم يمنع من أن يعلن المسؤولون الأوروبيون الذي وقعوا الاتفاقية، رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسة الوزراء الإيطالية وزميلها رئيس الحكومة الهولندي، في الندوة الصحفية التي أعقبت حفل توقيع الاتفاقية جملة من الالتزامات المالية. فقد أعلنت اورسولا فان در لاين رئيسة المفوضية الاوروبية منح تونس “105 مليون يورو من تمويلات الاتحاد الأوروبي للعمل على تعميق الشراكة والتعاون في مجالات البحث والنجدة وإدارة الحدود ومجابهة تهريب المواطنين وإنفاذ القانون”. كما أعلنت في ذات التصريح “تقديم 150 مليون يورو لمساعدة الميزانية” وفي إطار فتح نافذة للشباب في برنامج إيراسموس + وعدت بـ10 ملايين يورو لدفع المبادلات” علاوة على توفير فرص للدراسة والعمل والتدرب الخ…”. كما وعدت بـ”تعصير المدارس من خلال دعم 80 مدرسة بما يؤهلها للانتقال الرقمي والأخضر، وذلك بتمويلات تبلغ 6.5 مليون يورو”. ومن جهة أخرى استعرضت عددا من المشاريع على غرار الكابل البحري “ميدوزا” الذي سيربط تونس بالاتحاد الأوروبي وسيربط 11 بلدا حول المتوسط مع حلول سنة 2025، وللغرض سيتمّ رصد 350 مليون يورو. وشددت على أهمية العمل المشترك من أجل تحسين مناخ الأعمال وجلب المزيد من الاستثمارات مؤكّدة انّه يجرى التخطيط لتنظيم منتدى للاستثمار في الخريف القادم لتجميع المستثمرين والمؤسسات المالية المانحة.
وفي مجمل الوعود أشارت إلى أنّ مجموع ما يمكن أن يخصصه الاتحاد الأوروبي لتمويل مختلف جوانب الاتفاق ومشاريعه يمكن أن تصل إلى 900 مليون يورو سيعمل الاتحاد الأوروبي على توفيرها شرط أن تتوصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول القرض موضوع المفاوضات منذ مدة.
وكان قيس سعيد نوّه في الندوة الصحفية بهذا “الإنجاز الديبلوماسي” وعلق على الاتفاقية بالقول إنّ “أفضل ما تم التنصيص عليه في مذكرة التفاهم التي تم توقيعها اليوم ضرورة التقارب بين الشعوب”. وأكد على ضرورة أن تكون المذكرة “مشفوعة في أقرب الأوقات بجملة من الاتفاقات الملزمة انطلاقا من المبادئ التي وردت فيها”.

خلافات حول الجوانب المالية: لكل حساباته
بعد أسبوع من إمضاء مذكرة التفاهم انعقد مؤتمر روما بمشاركة 20 دولة منهم تونس وبحضور 16 رئيس دولة وحكومة إلى جانب مسؤولين من الاتحاد الأوروبي وممثلين عنه تتقدمهم رئيسة المفوضية اورسولا فان در لاين ورئيس المجلس الأوروبي وممثلين عن بعض المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي. ويهدف هذا المؤتمر على حد تعبير المسؤولين الأوروبيين إلى “الحد من الهجرة غير النظامية عبر مساعدة دول أفريقيا، وبناء شراكات لمشاريع في قطاعات الزراعة والبنية التحتية والصحة”. وربما أريد لهذا المؤتمر أن يكون مناسبة لتسويق الاتفاق الذي حصل قبل أسبوع بين تونس والاتحاد الأوروبي كمنوذج للتعميم على البلدان المطلة على جنوب المتوسط. ولم يخف المسؤولون الايطاليون خاصة نيتهم في استدراج بلدان أخرى مثل ليبيا إلى صفقة مماثلة. أما قيس سعيد فقد أثنى على مجهودات رئيسة الحكومة الإيطالية، اليمينية المتطرفة، التي “استجابت للمبادرة التونسية لعقد هذا المؤتمر” على حد قوله.
يمكن القول منذ البداية إنّ هذا المؤتمر لم يحقق شيئا كبيرا من الناحية العملية ذلك أنه رغم أهمية الأطراف التي حضرته (تركيا وبلدان جنوب المتوسط والإمارات وصندوق النقد الدولي وقادة الاتحاد الأوروبي الخ…) لم يترتب عنه شيئا غير المبادئ الكبرى التي حفلت بها خطب من حضروا. وقد يكون للخلافات التي تشق أوروبا بخصوص هذا الملف تأثير في أشغاله وفي مخرجاته. قيس سعيد نفسه (صاحب المبادرة في عقد هذا المؤتمر حسبما تردد في الخطاب الرسمي التونسي) لم يحقق “مكاسب” إضافية كما كان في الحسبان. حتى الجانب الإيطالي والأوروبي بشكل عام لم يتقدم بعد هذا المؤتمر خطوات جديدة أو إضافية وكان عليه انتظار سلسلة من الاجتماعات المهمة والحاسمة في مالطا وقرطبة بإسبانيا في محاولة لفض الخلافات الحادة التي تشق الاتحاد الأوروبي في هذا الملف، ملف الهجرة.
وكانت المفوضية الأوروبية قررت في أحد الاجتماعات التمهيدية لهذه المواعيد المهمة يوم 22 سبتمبر الماضي منح تونس مساعدة تبلغ قيمتها 60 مليون يورو مخصصة لدعم الميزانية (تسبقة عن المبلغ الذي أشرنا إليه أعلاه بـ150 مليون يويو) وبمساعدة تشغيلية للهجرة تبلغ قيمتها 67 مليون يورو (تسبقة عن مبلغ 105 مليون يورو المشار إليه أعلاه) مخصص لمكافحة الهجرة غير النظامية في إطار دعم تنفيذ مذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي. وقد أوضحت آنا بيزونيرو (Anna Pisonero Hernandez) المتحدثة باسم مفوضية الاتحاد الأوروبي للجوار وسياسة التوسع والشراكات الدولية، خلال نقطة إعلامية في بروكسيل أنّ “هذه الحزمة الأولى تأتي بناءً على التعاون الوثيق بين الاتحاد الأوروبي وتونس فيما يتعلق بقمع شبكات التهريب غير المشروعة. وتعمل المفوضية على تسريع كل من البرامج والإجراءات الجارية في إطار المساعدة الجديدة المرتبطة باتفاقية مذكرة التفاهم، والتي ستساعدنا على معالجة المشكلة الملحة”.
اللافت للانتباه أنّ الأيام التي تلت مؤتمر روما وبالتحديد شهر سبتمبر وبداية شهر أكتوبر عرفت حركة الهجرة غير النظامية من تونس إلى إيطاليا تدفقا غير مسبوق حيث بلغ عدد الذين وصلوا الشواطئ الإيطالية بشكل غير نظامي ما بين 11 و13 سبتمبر الماضي 8500 مهاجر غير نظامي. وقد يكون هذا الرقم القياسي الذي خلف صدمة لدى الأوروبيين ولدى الايطاليين على وجه الخصوص، وراء تعجيل المفوضية الأوروبية بصرف المبلغين المذكورين (60 و67 مليون يورو). ويذكر أنّ الحكومة الإيطالية التي اكتوت أكثر من أيّ حكومة أخرى في أوروبا بمشكل الهجرة غير النظامية قد ضاقت ذرعا بهذه الوضعية وصرحت جورجيا ميلوني يوم 19 سبتمبر على هامش اجتماعات الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة “لن أسمح بأن تصبح إيطاليا مخيما للاجئين في أوروبا”. ويذهب البعض إلى القول إنّ النظام التونسي الذي كان مستاء من الموقف الأوروبي (وخاصة الموقف الفرنسي والألماني) غض الطرف عن هذه التدفقات لمزيد الضغط عسى أن يقتلع استعدادات أفضل من قبل أوروبا لمساعدته على مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد والمرشحة لمزيد الاشتداد في ظل الموقف “المناوئ” لصندوق النقد الدولي. ويمكن القول أيضا إنّ تصريحات سعيد النارية بخصوص عدم استعداد نظامه لعب دور الشرطي لحماية الحدود الجنوبية لأوروبا هي من أدوات الضغط التي استعملها لزحزحة موقف بعض البلدان الأوروبية وخاصة فرنسا وألمانيا. وهي في ذات الوقت تصريحات موجهة للداخل في إطار الحملة الانتخابية المبكرة التي انطلق فيها قيس سعيد منذ مدة. ثم وفي وقت لاحق وجد قيس سعيد في رفض مساعدة أوروبية بقيمة 60 مليون يورو مادة لافتعال “بطولة جديدة” والتبجح بـ”رفض الصدقة” الأوروبية. وتناقلت وسائل الإعلام أوامره لوزيره للخارجية يوم 3 أكتوبر حيث قال “نرفض ما تمّ الإعلان عنه في الأيام القليلة الماضية من قبل الاتحاد الأوروبي، لا لزُهد المبلغ فخزائن الدنيا كلها لا تساوي عند شعبنا ذرة واحدة من سيادتنا، بل لأنّ هذا المقترح يتعارض مع مذكرة التفاهم التي تمّ توقيعها في تونس ومع الروح التي سادت أثناء مؤتمر روما في جويلية الفارط الذي كان بمبادرة تونسية إيطالية”.
هنا ينبغي الإشارة إلى أنّ مسؤولا ساميا من المفوضية الأوروبية كان أدلى بتصريحات بعد قرار المفوضية بمنح تونس ما مجموعه 127 مليون يورو (60 و67 مليون يورو المشار إليهما أعلاه) رأى فيها النظام التونسي استفزازا له ومخالفة للأعراف الديبلوماسية. فقد قال “سيتم توفير الأموال للسلطات التونسية في شكل قوارب بحث وإنقاذ وسيارات رباعية الدفع ورادارات وطائرات دون طيار وأنواع أخرى من معدات الدوريات، وكذلك للمنظمات الدولية العاملة على الأرض، مثل المنظمة الدولية للهجرة والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”. وأضاف “نحن لا نعطي المال للسلطات لتفعل ما تريد” إذ “لا يتعلق الأمر مطلقا بصك على بياض”.
وردا على ما اعتبره قيس سعيد استفزازا له واستهتارا به وجد، كما سبق قوله، في قرار المفوضية الأوروبية بصرف منحة 60 مليون يورو في إطار برنامج دعم الإجراءات للتخفيف من آثار الكوفيد – 19 وهو برنامج قديم، الفرصة المناسبة للعودة لممارسة الضغط على الطرف الأوروبي. والحقيقة أنّ المفوضية الأوروبية كانت وافقت على صرف هذا المبلغ استجابة لمذكرة وزير الاقتصاد التونسي الذي كان راسل السفير رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي في تونس بتاريخ 23 أوت الماضي، هذا نص المكتوب “معالي السفير: في إطار تنفيذ اتفاقية تمويل “برنامج دعم تدابير التخفيف من آثار كوفيد 19 والانتعاش الاقتصادي”، وتحسبا لصرف الدفعة الثانية البالغة 60 مليون يورو، يشرفني أن أرسل إليكم طيه الملف المتعلق بعملية الصرف هذه.
وسأكون، بالتالي، ممتنا لكم أن تأذنوا باتخاذ الخطوات من أجل صرف الدفعة المذكورة إلى حساب الخزينة التونسية المفتوح لدى البنك المركزي التونسي تحت رقم …” ( **).
فكما هو ملاحظ لا علاقة لهذا المبلغ الذي قرر قيس سعيد رفض تسلمه بمذكرة التفاهم الاستراتيجي والشامل. وواضح أنّ هذا الرفض إنما هو عملية ضغط من أجل تحسين شروط التعاطي مع نص مذكرة التفاهم والحصول على مساعدات أو قروض في مستوى انتظاراته. وقد ردّ المسؤولون الأوروبيون الذي تفطنوا للعملية بتسريب هذه الرسالة على شبكات التواصل الاجتماعي لدحض ادعاءات قيس سعيد بل وأكثر من ذلك لفضح الاتفاقيات السرية التي عقدها معهم بخصوص موافقته على ترحيل التونسيين المقيمين بأوروبا بشكل غير قانوني.

هل تنجح مناورات قيس سعيد
من الواضح أنّ توجه قيس سعيد إلى أوروبا يأتي ضمن مسعاه لإيجاد بديل عن صندوق النقد الدولي للحصول على تمويلات تحتاجها الميزانية بشكل ملح وأكيد. واعتبر أنّ الورقة الرابحة في هذا التوجه هو ملف الهجرة الذي يقضّ مضاجع بعض البلدان الأوروبية. لذلك بدأ منذ شهر فيفري الماضي يشتغل على هذا الملف. فانطلقت اتصالاته ومشاوراته مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي، وتعددت الزيارات لمسؤولي الاتحاد الأوروبي وبدأت فكرة عقد اتفاقية في الموضوع تتبلور منذ شهر مارس الماضي وأصبحت مشروعا للإنجاز في شهر جويلية حتى تم إبرامها يوم 16 من هذا الشهر. لكن هذه الاتفاقية لم تدر عليه التمويلات المرجوة واتضح مرة أخرى أنّ الحصول على ما هو في حاجة إليه لا بد أن يمر وجوبا عبر اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي بات شبه ميؤوس منه. ومرة أخرى يجد قيس سعيد نفسه في وضع على درجة من التعقيد إذ يتعين عليه التوفيق بين متناقضات غير قابلة للتوفيق. فهو من جهة مطالب وبشكل ملح وضاغط بإيجاد التمويلات اللازمة لمعالجة الازمة المالية والاقتصادية التي تنذر بالانهيار. وهو في هذا الصدد مطالب أيضا بالإذعان لطلبات صندوق النقد الدولي وفي مقدمتها توقيع إمضائه الشخصي على أي اتفاق من الصندوق. وهو من الجهة المقابلة سجين سياسته الشعبوية وشعاراته التي كلما وضعتها الظروف موضع اختبار أجبر على الهروب إلى الأمام غير عابئ بانعكاسات ذلك على البلاد. إنّ الاحتفاظ بكرسي الحكم، تماما كما كان الطريق إليه، اقتضى ويقتضي منه، من وجهة نظره كشعبوي، أن يعتني بصورته وألا يعرض شعبيته للاهتراء بل عليه أن يتعهدها كل مرة بافتعال “طلعة” جديدة وأن يوظف في سبيل ذلك كل الملفات والقضايا.
في هذا الملف، أي ملف الهجرة والهجرة غير النظامية الذي وجد فيه قيس سعيد مادة ثمينة، أو هكذا خيل إليه في البداية، للتوظيف والاستغلال في عدة اتجاهات: العثور على التمويلات اللازمة أو بعضها، تحقيق إنجاز ديبلوماسي وتحسين صورته خارجيا، الحد من تراجع شعبيته في الداخل الخ… وقد أيقن على ما يبدو أنه سيواجه في هذا الملف كما في قضايا أخرى إكراهات ستتطلب منه الاستنجاد بمهاراته في المناورة واللعب ما أمكن على التناقضات. وهو ما يفسر تقلبات الموقف الرسمي التونسي، وموقف قيس سعيد شخصيا، من اتفاق الشراكة الذي أمضاه مع الاتحاد الأوروبي. فحينما أيقن أنّ “العائدات” المالية لهذا الاتفاق لن تكون على الأرجح بالحجم المرجو ولن يكون الحصول عليها بالسهولة والسرعة المطلوبة انتقل مباشرة إلى ممارسة الضغط والتهديد بما يمكن أن يفهم منه إمكانية تنصله من الاتفاقية.
ونحاول في ما يأتي رصد أهم العناصر التي يعتمدها قيس سعيد في عملية الضغط هذه.
لقد اختار قيس سعيد التوقيت المناسب، حسب اعتقاده، لممارسة هذه الضغوط علما منه وأنّ الخلافات التي تشق الاتحاد الأوروبي ستكون محل جدل وصراع في الاجتماعات القادمة وخاصة في قمة مدينة غرناطة (6 أكتوبر 2023) التي يعول عليها الأوروبيون للتوصل إلى اتفاق على موقف أوروبي موحد بخصوص ملف الهجرة واللجوء قبل قمة شهر ديسمبر القادم. وهو يدرك هشاشة الاتفاق المبرم في جويلية الماضي مادام يلقى معارضة من أكثر من طرف من بين البلدان السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. كما يدرك أنّ البلد الوحيد المتحمس لمساعدته هو إيطاليا بالنظر إلى كونه الأكثر تضررا من تدفقات الهجرة غير النظامية ولكنه لا يتمتع بوزن كبير في الجدل الجاري في كل مؤسسات الاتحاد الأوروبي بخصوص ملف الهجرة. في المقابل فإنّ ألمانيا التي تتمتع بوزن سياسي واقتصادي مهم في التكتل الأوروبي كانت عبرت على لسان وزيرة خارجيتها عن انتقادات قوية للاتفاق المبرم بين تونس والاتحاد الأوروبي واعتبرت أنّ “حقوق الإنسان والأخطاء الإجرائية” تجعل هذا الاتفاق “لا يصلح كخطة للمستقبل”. وفي مكان آخر قالت “مذكرة التفاهم مع تونس لا يمكن أن تصبح نموذجاً لمزيد من الاتفاقات”. السبب في ذلك هو كما قالت الوزيرة الألمانية “يجب أن نسترشد بالديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون في تعاوننا، وهو أمر لم يحظ بالاعتبار المناسب في الاتفاق مع تونس”.

أما رئيسة لجنة تلقي الشكاوي الأوروبية في الاتحاد الأوروبي، أمينة المظالم، إميلي أورايلي فقد أعربت يوم 15 سبتمبر 2023 عن تحفظها بشأن اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي حول ملف الهجرة المبرم في 16 جويلية الماضي وطلبت من المفوضية ما إذا كان لديها ضمانات لاحترام حقوق الإنسان من قبل النظام التونسي. وقد فتحت بحثا تحقيقيا في موضوع مذكرة الاتفاق متسائلة “هل أجرت اللجنة تقييما لأثر مذكرة التفاهم على حقوق الإنسان قبل إبرامها ونظرت في التدابير الممكنة للتخفيف من مخاطر انتهاكات حقوق الإنسان؟”.
وفوق كل ذلك فقد حذا عدد آخر من البلدان الأعضاء حذو الموقف الألماني الرافض للاتفاق. ومن بينهم بولونيا والمجر. بينما أبدت بعض البلدان الأخرى نوعا من الشك في جدوى هذه الاتفاقية. وكان من المتوقع، في صورة ما عرض هذا الاتفاق على النقاش أو التصويت، أن تصوت ضده أو ربما تحتفظ بصوتها ومن بين هذه البلدان النمسا وسلوفاكيا والجمهورية التشيكية. ومعلوم أنّ فرنسا لم تبد حماسا كبيرا للاتفاق التونسي الأوروبي الذي “فاجأها” فذهب ماكرون إلى المناداة ببعث قوة اعتراض في عمق البحر المتوسط. هذا علاوة على عديد منظمات المجتمع المدني وخاصة المنظمات الحقوقية التي رفعت تحفظات كبرى في وجه هذا الاتفاق. فقد قالت إيف غيدي، مديرة مكتب المؤسسات الأوروبية في منظمة العفو الدولية ” هذا الاتفاق غير الحكيم، الذي تم توقيعه، على الرغم من الأدلة المتزايدة على ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان على أيدي السلطات، سيؤدي إلى توسع خطير في سياسات الهجرة الفاشلة أصلًا، ويشير إلى قبول الاتحاد الأوروبي بالسلوك القمعي المتزايد للرئيس والحكومة في تونس”.

وكان عدد كبير من الباحثين والنشطاء المعروفين في المجتمع المدني من عشرة بلدان (حوالي 380 باحثا/ة وناشطا/ة) وقعوا على عريضة عبروا فيها عن موقف مناهض “لمذكرة التفاهم المتعلقة بعقد شراكة استراتيجية وشاملة بين الاتحاد الأوروبي وتونس، وأيضا لسياسات تصدير الحدود الخارجية للاتحاد”. وقد نشرت العريضة في شكل رسالة مفتوحة في أربع لغات مختلفة راجت بشكل واسع في وسائل الإعلام الأوروبية.
في خضم هذه الخلافات يحاول قيس سعيد استغلال انشغالات البعض وخاصة إيطاليا، أكثر البلدان الأوروبية تحمسا للشراكة مع تونس لاعتبارات كثيرة، ويعمل في الإطار نفسه على تهميش موقف “المناوئين” و”تتفيه” حججهم في معارضة الاتفاقية بدعوى حقوق الإنسان ومعارضة عودة الاستبداد إلى تونس. فقد وجد في علاقته مع الحكومة الإيطالية منفذا للخروج من العزلة الديبلوماسية ووجد في الحسابات الخاصة بزعيمة هذه الحكومة ومن ورائها حزبها اليميني المتطرف وعموم اليمين المتطرف الأوروبي الدافع لكي يقوم بسلسة من الابتزازات ما زالت لم تؤت أكلها بعد. فقيس سعيد يدرك أنّ رئيسة الحكومة الإيطالية في حاجة إلى إنجاز سياسي أولا لتمتين أركان حكمها حاليا في إيطاليا وثانيا لتوفير مناخات مناسبة لخوض غمار الانتخابات الأوروبية موفى السنة القادمة 2024. وهو على شبه يقين أنها، من أجل ذلك، ستكون مستعدة بهذا القدر أو ذاك لتقديم تنازلات بما في ذلك الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل التعجيل بتمكينه من المبالغ المالية الموعود بها. لهذا السبب ذهب في اعتقاده أنّ قراره بعدم قبول تحويل 60 مليون يورو سيتقبله الأوروبيون على أنه تهديد جدي بالتفصي من الاتفاقية مما قد يثير فزعهم وفزع الايطاليين على وجه التحديد. لكن شيئا من ذلك لم يحصل وسنرى وسنأتي على ذلك لاحقا.

ومن مرامي قيس سعيد من وراء هذا الموقف أيضا الضغط على الاتحاد الأوروبي كي يتدخل لدى صندوق النقد الدولي لتليين موقفه من الملف التونسي وتسريح القرض موضوع المفاوضات الجارية بينه وبين تونس منذ أكثر من عام. وفي حساباته أنه حتى إن لم يبادر الاتحاد الأوروبي بالتدخل في هذا الاتجاه فعلى الأقل يتدخل بعض من بلدانه وخاصة إيطاليا. وهو ما حصل فعلا ذلك أنّ وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني سعى خلال زيارته إلى واشنطن إلى إقناع مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا بأنّ تونس بحاجة إلى مساعدات وينبغي التعامل مع حالة الطوارئ الاقتصادية التي تعيشها بكثير من المرونة والبراغماتية.
ويبدو أنّ في الأمر خفايا أخرى كان وزير الخارجية التونسي كشف عن بعضها حين صرح في حديث صحفي في بروكسيل “ردَدْنا إليهم أموالهم وقلنا لهم حذار من مواصلة التمويه ونشر الوثائق المسربة فإننا إذا عدتم عدنا لكم بكشف المزيد من الحقائق التي ليست في مصلحتكم”. ويتضح من هذا أنّ ثمة نقاط خلاف تتصل بأسلوب تعامل اعتبرته السلطات التونسية غير لائق. ويبدو أنّ بلدان من الاتحاد الأوروبي كانت كشفت عن اتفاقات يود نظام قيس سعيد الحفاظ على سريتها وعدم الكشف عنها منها مثلا اتفاقات تتعلق بموافقة تونس على ترحيل المهاجرين التونسيين المتواجدين في أوروبا والذين هم في وضعية إقامة غير قانونية. وهو ما أثار غضب حكومة قيس سعيد وحدا بوزير خارجيته إلى مهاجمة الاتحاد الأوروبي واتهامه بـ”مواصلة التمويه والتضليل”. والأكيد أيضا أنّ تسريب وثيقة طلب المساعدة المالية التي أشرنا إليها أعلاه هي المقصود بها “تسريب الوثائق”. ومن جانب آخر فإنّ قيس سعيد وفريقه الحكومي لم يتقبل تصريحات أحد أعضاء الوفد الأوروبي الذين كان سيزور تونس وتم منعه، باعتزامه (أي الوفد) ملاقاة أحزاب سياسية ونقابات ومكونات مجتمع مدني ورأى فيه تدخلا في الشأن الداخلي لتونس بينما اعتبره الوفد الأوروبي يدخل ضمن اتفاق الشراكة الذي تم توقيعه بين تونس والاتحاد الأوروبي.
فقرار رفض قبول مبلغ الـ 60 مليون يورو المقصود من ورائه أيضا الضغط على الأوروبيين من أجل أن يحجموا عن الكشف عن هذه الاتفاقات السرية وعدم إحراجه أمام ناخبيه والرأي العام الداخلي في تونس.
وهنا نأتي إلى واحد من أهم الأهداف المرسومة من وراء كل هذه المزايدات وهو سعي قيس سعيد إلى الظهور أمام الرأي العام التونسي بمظهر “الوطني” الذي لا يخضع للضغوط الأوروبية حتى وإن تعلق الأمر بأمور حيوية مثل تمويل الميزانية التي تئن تحت وطأة أزمة خانقة.
لكن المفوضية الأوروبية لم تنتظر كثيرا للرد على مناورات قيس سعيد حيث جاء الرد على لسان كبار مسؤوليها سواء في بروكسيل أو سفيرها في تونس الذي صرح لراديو موزاييك يوم 3 أكتوبر “أرجو أن لا نكون إزاء سوء تفاهم بين تونس والاتّحاد الأوروبي … إلاّ أنّ تصريحات الرئيس قيس سعيّد تتعارض مع ما كان متّفقا عليه”. وأكد ما كنا بيناه أعلاه حيث قال إنّ “مذكرة التفاهم لم تتضمّن أيّ مبلغ، وجميع الأرقام تمّ الإعلان عنها في تصريحات إعلامية تلت إمضاء المذكرة”. ومثله مثل بقية المسؤولين الأوروبيين فقد قلل من حجم الخلاف وأكد كما أكدته آنا بيزونيرو، المتحدثة باسم مفوضية الاتحاد الأوروبي للجوار وسياسة التوسع والشراكات الدولية، “نحن على اتصال مع السلطات التونسية بشأن تنفيذ مذكرة التفاهم” لقناعة منهم بأن لا قدرة لتونس على وضع العراقيل في وجه الاتفاقية أو تعطيلها ناهيك عن إلغائها لأنه لا مصلحة لها في ذلك مهما حاول سعيد اللعب على الخلافات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي ومهما حاول إيهام الأوروبيين بأنه ليس في حاجة إلى مساعداتهم.
وقد اتضح في الأيام الموالية أنّ خطاب “التعويل على الذات” لم يكن حائلا دون استئناف المساعي مع إيطاليا من أجل “اقتلاع” القليل مما كان منتظرا من الاتحاد الأوروبي. وبالفعل فقد زار تونس وفد وزاري بقيادة وزير الخارجية (ووزير الفلاحة ووزير التشغيل) وألح قيس سعيد خلال لقائه به على ضرورة “استكمال مسار تونس روما الذي انطلق في شهر جويلية الماضي في العاصمة الإيطالية”. وفي محاولة منه لتفعيل اتفاقية الشراكة حرص قيس سعيد على إقناع الوفد الإيطالي ومن ورائه الاتحاد الأوروبي بأنّ “تونس حريصة على الوفاء بالتزاماتها، فقد قامت القوات الأمنية التونسية في الأسابيع الماضية بتفكيك عدد كبير من هذه الشبكات فضلا عن إحاطة مؤسسات الدولة بكل ما تقتضيه القيم الإنسانية من رعاية بمن تقطعت بهم السبل” وفي ذلك رسالة طمأنة أيضا للأطراف الأوروبية المعارضة للاتفاقية (المانيا وغيرها) لتبديد مخاوفها مما يمكن أن يعتبر “مس بحقوق الإنسان”. وفي طيات هذه التصريحات نستشف الخطوات التي قطعها قيس سعيد للتراجع عن نبرة التصعيد التي اتسم بها خطابه قبل أسابيع.
في نهاية المطاف عدنا إلى النقطة الصفر: اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي سيتمكن بمقتضاها هذا الأخير من التغلغل في نسيج اقتصادنا واستثمار ما يدر عليه المنافع مقابل بضعة حفنة “يوروات” بعضها في شكل تجهيزات وبعضها الآخر في شكل منح وهبات وبعضها الثالث في شكل وعود مرتبطة بمشيئة صندوق النقد الدولي. والأهم من كل هذا هو أنّ تونس باسم مكافحة “الاتجار بالبشر” ستلعب، شاءت أم أبت، دور حارس الحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×