جيلاني الهمامي
رفع قيس سعيد في المدة الأخيرة شعار “التعويل على أنفسنا” في ردة فعل انفعالية على سلوك الاتحاد الأوروبي حيال تونس رغم الهدايا التي قدمتها له بلادنا وآخرها اتفاق الشراكة الاستراتيجي والشامل (اتفاق 16 جويلية الماضي). فبعد أكثر من شهرين من الانتظار لم يمنّ علينا الاتحاد الأوروبي الا بمبالغ زهيدة لا تغني ولا تسمن من جوع. لذلك ثارت ثائرة الرئيس قيس سعيد فرفض قبول مبلغ ستين ألف يورو لأنه كان يعول على الاتفاقية المذكورة في ان تغدق عليه مبالغ كافية لمعالجة الفجوة المالية الكبيرة التي تعاني منها الميزانية.
ولا اظنه قد “حسب” حسابه جيدا عندئذ. لكن الأكيد انه كان منقادا بحساباته الانتخابية التي بناها على استعمال بعض المفاهيم وتوظيف بعض الشعارات ذات الحساسية لدى عموم الجماهير الشعبية وبعض أوساط النخبة لكسب تعاطفهم والحفاظ عليهم كمؤيدين له اليوم وغدا وفي المناسبات الانتخابية وعلى وجه اخص في الانتخابات الرئاسية القادمة.
في هذا الباب بالذات اشتغل على شعار “السيادة الوطنية” هذا الشعار العزيز على الكثير من التونسيين الذين ظلوا يرفعونه لعقود طويلة في ظل نظام الحكم العميل للغرب.
ولا أظنه كان يدرك ان التعاطي مع المسألة حصرا من الزاوية السياسية على الطريقة الشعبوية تعرضه لمصاعب مالية أكثر تعقيد. فكما قال الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي فإن تونس بقيادة قيس سعيد تعيش اليوم حصارا ماليا عالميا بقيادة صندوق النقد الدولي.
لا شك ان قيس سعيد ومؤسسات منظومته السياسية والاستخباراتية تعرف هذه الحقيقة تماما كما يعرف جيد المعرفة أن رفع شعار “التعويل على الذات” ستكون له كلفة. لكن من سيدفع ثمن هذا الشعار؟ بالتأكيد ليس قيس سعيد لأن ميزانية رئاسة الجمهورية لن تتأثر بذلك بل بالعكس ستحضى بتأييد النواب ومصادقة البرلمان رغم انه تم الترفيع في اعتماداتها.
الشعب الكريم هو من سيدفع ثمن ميزانية التقشف التي وضعتها حكومة قيس سعيد في الوقت الذي يرفع فيه شعار “التعويل على الذات”. كيف ذلك؟
عبر العديد من التوجهات والإجراءات منها أساسا:
– تخصيص نسبة ضعيفة جديدة للاستثمارات ما يعني عدم خلق الثورة وعدم خلق مواطن شغل لاستيعاب العاطلين القدامى عن العمل (أكثر من 800 ألف) والوافدين الجدد على سوق الشغل (أكثر من 80 ألف شاب طالب شغل جديد).
– التخفيض في كتلة الأجور ما يعني التخلص من جزء من الموظفين باي طريقة كانت علاوة على الضغط على مكتسبات تاريخية مثل الغاء ثمن الساعات الزائدة وبعض المنح الأخرى والتضييق على حق التدرج في السلم المهني والترقيات والحق في الخطط الوظيفية وبالتالي دهورة نسبة التأطير في المؤسسات والإدارات وبالتالي تدهور نوعية الخدمات والمنتوجات
– غلق باب الانتداب (دون تعليق).
– التكثيف في الضغط الجبائي على الافراد وعلى المؤسسات الصغرى والمتوسطة والشركات علما وان بلادنا تحتل موقعا متقدما في مصاف البلدان التي تعاني من ضغط جبائي وهي الأولى في حوض البحر الأبيض المتوسط
– الاستمرار في نفس السياسة النقدية القائمة على مجابهة التضخم المالي بالترفيع في نسبة الفائدة ما ينجر عنه ارتفاع كلفة الإنتاج وبالتالي ارتفاع الأسعار الامر الذي ينعكس سلبا على المقدرة الشرائية للمواطنين
– وفي ظل غيابات الاستثمارات وعدم بعض مشاريع يشهد نسق تطور الناتج الداخلي الخام تباطؤا كبيرا وهو ما يعكس التفكك التدريجي للنسيج الإنتاجي في البلاد وبالتالي تراجع انتاج الخيرات والخدمات الامر الذي يجعل البلاد تعيش على التوريد من الخارج في كل المواد الاستهلاكية والتصنيعية (الحبوب والمحرقات والمواد الأولية والمصنعة ونصف المصنعة الخ…) وهذا له أثر سيء جدا على حياة المواطنين باعتبار ان كل زيادة في عجز ميزان الدفوعات ينجم عنها ارتفاع في نسبة التضخم أي في الأسعار
هذه بعض التداعيات لسياسة التقشف المعتمدة في ميزانية سنة 2024 التي ستكون ميزانية تكريس شعار “التعويل على الذات” الذي يرفعه الرئيس قيس سعيد من منطلق وطني وسيادي.
نسيت ان اشير الى ان هذه الميزانية، ميزانية 2024، ميزانية “التعويل على الذات” ستكون في حاجة الى 26 مليار دينار في باب المداخيل منهم 16 مليار كقروض من الخارج وهي أعلى نسبة اقتراض في التاريخ تبرمج في ميزانية الدولة ولم يسبق ان بلغت حاجات الميزانية الى هذا الرقم المهول.
بلغة أخرى فإن ميزانية 2024، ميزانية “التعويل على الذات” هي أكبر ميزانية تسول تعول على دوائر التسليف الخارجي لا على الذات. ما ابعد الخطاب عن الحقيقة.
وعاش “التعويل على الذات”.