علي البعزاوي
لقد أتاحت ثورة الشعب التونسي إمكانية اختيار ممثلي الشعب في الهيئات التمثيلية من برلمان وبلديات إلى جانب اختيار رئيس الدولة من خلال انتخابات ديمقراطية بالمعنى البورجوازي للكلمة، انتخابات يُسمح فيها بحق الترشّح لجميع التونسيات والتونسيّين وحقّ الدعاية والتّصويت والمراقبة تحت إشراف هيئة مستقلة للانتخابات رغم بعض الهنات ونقاط الضعف هنا وهناك. وجرت الأمور في البداية بشيء من الشّفافية والمصداقية وتوفّرت بهذا القدر أو ذاك فرص متساوية أمام المتنافسين السياسيّين. وقد أشادت عديد الأطراف المحلية والأجنبية بهذا التغيير الذي مكّن أحزابا يسارية وقومية وتقدّمية وغير منتظمين من تحقيق انتصارات لأوّل مرة تقريبا في تاريخ البلاد. وظن العديدون أنّ هذا المكسب ثابت لن يقع الالتفاف عليه. لكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن وتسرّب الفساد عبر المال السياسي والإعلام الموجّه إلى هذه الانتخابات وتوّج ذلك بالتزوير المفضوح لانتخابات 2019. وهو ما فتح الطريق إلى جانب عوامل أخرى، ليس هنا مجال ذكرها، أمام انقلاب 25 جويلية الذي استغلّ حالة النقمة الشعبية واستفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لكن الانقلاب، وبدل معالجة الأزمة بمختلف جوانبها ووضع حدّ للتجاوزات الحاصلة، مارس بدوره سياسة الهروب إلى الأمام في محاولة واضحة للانفراد بالسلطة، فتمّ تعيين هيئة انتخابات طيّعة ووضع قانون انتخابي على القياس ودستور خطه الرئيس بنفسه ولنفسه وتنظيم استشارة الكترونية واستفتاء “شعبي” قاطعهما أغلب المواطنين تعبيرا منهم عن رفض هذا الأسلوب الانفرادي في محاولة إعادة تنظيم ورسم المشهد السياسي.
في هذا الإطار نظمت الانتخابات البرلمانية التي قاطعتها غالبية الناخبين لتفرز برلمانا مشوّها وفاقدا للصلاحيات في انتظار تنظيم الانتخابات المحلية ومجالس الجهات خلال شهر ديسمبر 2023. فأيّ مصير ينتظر هذه المحطة القادمة التي يسعى من خلالها الانقلاب إلى تثبيت منظومته الشّعبوية الاستبدادية والمرور إلى فرض سياسة الأمر الواقع على الشعب التونسي؟ وهل يمكن بالفعل أن ننتظر الجديد من هذه الانتخابات خاصة من ناحية المشاركة الشعبية؟
الظروف العامة التي تنتظم فيها الانتخابات
يبدو واضحا أنّ إشكالية هذه الانتخابات لا تتمثل فقط في الجانب المتعلق بطبيعة الهيئة المشرفة عليها والقانون الانتخابي الذي يؤطّرها وحقيقة صلاحيات الهيئات المزمع انتخابها والتضييق على الأحزاب والمنظمات من خلال القانون الانتخابي المفصّل على قياس تهميشها واضطرار أغلبها إلى المقاطعة لأنّ المشاركة فيها من شأنها أن تشرعن الانقلاب وتكرّس الخيارات القديمة التي ثار ضدّها الشعب التونسي… بل تتعدّى ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المزرية التي يعاني منها المواطن والتي ما فتئت تتدهور. فأبواب التشغيل مسدودة أمام الشباب الذي خيّر الحرقة عبر قوارب الموت والأسعار ترتفع باستمرار والقدرة الشّرائية تتدهور دون توقّف وكذلك الأوضاع التربوية والصحية والبيئية.
يضاف إلى كل هذا انكماش الحياة الاقتصادية من خلال تعطّل منظومات الإنتاج وتعمّق الأزمة المالية وحدوث الفجوة تلو الأخرى في الميزانيات المعتمدة التي لم تستطع الحكومات المعنية سدّها بعد تعطّل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وعدم توفر الإرادة السياسية لدى الحكم الجديد للمضيّ في خيارات اقتصادية واجتماعية بديلة والاعتماد على القدرات الذاتية، خيارات تخدم مصالح الأغلبية الشعبية ولا تحمّلها مثلما هو حاصل اليوم تبعات أزمة الخيارات اللاشعبية واللاوطنية المتوخّاة منذ ما قبل الثورة إلى اليوم. ويضاف إلى هذا الوضع المأزوم شحّ الأدوية والمواد الأساسية والحياتيّة من سكّر وحليب وخبز، الخ.
لقد عادت تونس إلى مربّع القهر والغبن والخصاصة التي عاشها الشعب التونسي في أحلك فترات الحكم النوفمبري وهو ما عجّل بسقوطه وفراره خارج البلاد. ولا يبدو لعموم الشّعب أنّ هناك ضوء في آخر النفق وأنّ ما هو قادم أفضل.
إنّ حجر الزاوية في هذه الأزمة المركّبة هو طبيعة الخيارات والسياسات التي صُمِّمت وفق ما يخدم مصالح الأقلية الأكثر ثراء في البلاد وكبرى الشركات والمؤسسات والدول الاستعمارية على حساب الشعب وسيادته على ثروات بلاده وعلى قراره الوطني المستقل. وهي نفس الخيارات التي كرّستها مختلف المنظومات منذ 7 نوفمبر 1987 إلى اليوم. وما يزيد الأمور تعقيدا هو أنّ الحاكم الجديد مصرّ على المضيّ فيها رغم تبعاتها الكارثية.
إنّ الاختلافات مع صندوق النقد الدولي التي قدِّمت على أنها تعكس إرادة في التّغيير تتعلق فقط بالتفاصيل والتراتيب ولا تمسّ الجوهر. أي أنّ الإملاءات أو ما يسمّى بالإصلاحات، التي تتمثل في تحرير الأسعار والضغط على كتلة الأجور ورفع الدعم عن المحروقات والمواد الحياتية وخصخصة المؤسسات العمومية، مقبولة في مجملها من قبل سلطة الانقلاب والحكومات بصدد تكريسها وتنفيذها منذ 2021 إلى اليوم. لكن ما هو مرفوض من وجهة نظر الحكم هو وتيرة وحجم تنفيذ هذه الإملاءات التي يريد صندوق النقد الدولي أن تتمّ دفعة واحدة بالنظر إلى الحالة التي عليها المالية العمومية التونسية ومخاطر عدم القدرة على خلاص الديون وفوائدها.
لقد تأكّد للأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين أنّ “العهد الشّعبوي الجديد” هو مواصلة لنفس الخيارات والسياسات القديمة وخدمة المصالح الطبقية للأقلية الكمبرادورية القابضة على المؤسسات الاقتصادية والتي تتحكم أيضا في مؤسسات الدولة وتسيّرها وفق مصالحها.
أيّ سلوك منتظر من الناخبين؟
إنّ أولى الملاحظات هو عدم اهتمام التونسيات والتونسيين بهذه الانتخابات وعدم الرغبة في خوض غمارها، وهو ما تأكد من خلال العدد القليل من المترشحين الذين قدّموا ملفاتهم إلى هيئة الانتخابات واضطرار هذه الأخيرة إلى تأجيل موعد غلق أبواب الترشح لإعطاء مزيد الوقت لتقديم الترشحات، والدعاية المكثّفة التي تطلقها عبر الانترنات وتدعو من خلالها إلى “تحيين مراكز الاقتراع” وتحرّض على الترشح [“ترشّحْ باش تخدم جيهتك”] إلى جانب الندوات الصحفية التي تعقدها في كلّ مرة. والهدف هو خلق رأي عام قابل للمشاركة في هذه الانتخابات. وهو سلوك يتنافى مع دور الهيئة “الحيادي”، فهي هيئة إشراف تقف على نفس المسافة من الجميع والمطلوب منها أن لا تدين بالولاء لأحد، ودورها يقتصر على إنجاح العملية الانتخابية وفرض الالتزام بالقوانين الانتخابية إلى جانب المراقبة والمحاسبة لا توسيع المشاركة فيها، خاصة وأنّ المقاطعة هي تعبير عن موقف سياسي واعٍ ومتقدّم وإيجابي من وجهة نظر سياسية معيّنة.
إنّ البحث عن شغل ورغيف خبز وقارورة “زيت حاكم” ودواء مفقود وإعداد العدّة لحرقة عبر قوارب الموت باتت اليوم الشّغل الشاغل لأغلب شباب تونس. لقد استحال العيش في البلاد وليس هناك أيّ ضمانات لتغييرات إيجابية في المستقبل القريب ولا أيّ رهان على الشعبوية كمشروع سياسي واقتصادي واجتماعي قادر على الإنقاذ.
هكذا يرى التونسيات والتونسيون في أغلبهم المشهد اليوم وهكذا ينظرون إلى الواقع ويستقرؤون المستقبل. وبالتالي لا تعنيهم الانتخابات ولا تشدّ اهتمامهم خاصة وهم يتابعون بين الفينة والأخرى حقيقة ما يدور داخل قبّة البرلمان والدور الهامشي الذي أصبح عليه “نائب الشعب”.
المشهد قاتم والمعنويات في تراجع والآفاق مسدودة والانتخابات لا تشكّل المخرج الحقيقي من هذه الأزمة المركبة. ومقاطعتها هي أقرب اليوم إلى مزاج شباب تونس ورجاله ونسائه.
البلاد بحاجة إلى مشروع جديد مختلف جذريا عن كل المشاريع الرجعية التي فرضت على التونسيات والتونسيين منذ 2012 إلى اليوم، مشروع وطني ديمقراطي شعبي اجتماعي قادر على معالجة الأزمة والانطلاق في بناء الدولة الديمقراطية العصرية المستقلة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، دولة قادرة على احتضان أبنائها وتوفير كل شروط العيش الكريم وتأمين المستقبل.