إبراهيم العثماني
مقـدّمة :
لم يكن الهجوم الذي شنّته المقاومة الفلسطينيّة المسلّحة عمليّة عسكريّة مباغتة فاجأت الكيان الإسرائيلي المحتلّ، وأذهلت القوى الامبرياليّة والاستعماريّة الدّاعمة له، وأربكت حسابات النّظم العربيّة العميلة والمطبّعة فحسب بل كان حدثًا أسقط أقنعةً وأزال غشاوات وبدّد أوهامًا وفضح مثقّفين وأدخل حركيّة ثقافية على ساحة عربيّة كاد الجمود يرين عليها.
1. سقوط الدّعاية الصّهيونيّة :
تقوم الدّعاية الصّهيونيّة على الكذب والافتراء والتّضليل وقلب الحقائق وتزييف الوقائع والظّهور بمظهر المظلوم لاستدرار عطف الغرب المتعاطف أصلا مع هذا الكيان الغاصب. ويجنّد هذا الكيان الإعلام الذي يسيطر على صحفه ومجلاّته وقنواته في بلدان الغرب، ويوظّفه لتمرير خطابه القائم على تشويه المقاومة وتقديم نضالها على أساس أنّه عمل إرهابيّ يجب إدانته وإدانة القائمين به. وقد اعتبر هذا الإعلام العمليّة البطوليّة التي قامت بها المقاومة الفلسطينيّة يوم 7 أكتوبر2023 عمليّة إرهابيّة ذُبح فيها أطفال أبرياء لا ذنب لهم سوى أنّهم إسرائيليّون. فكان تنديد الغرب بهذ ا”الفعل الشّنيع” وكان التّعاطف مع “ضحاياه” وكان دعم الكيان الصهيوني بلا حدود.
لكن سرعان ما سقطت هذه الدّعاية المضلّلة وانكشفت ألاعيبها. ذلك أنّ الذين وطّنوا أنفسهم على اختلاق الأراجيف نسوا أنّ العالم تغيّر وأنّ وسائل الاتّصال الحديثة أضحت تقصّر حبل الكذب وتكشف سوءات الكذّاب وتفنّد مزاعم المضلّلين.
وما إن عجز الإعلام الصهيوني عن تقديم ولو صورة واحدة لأطفال ذُبحوا ظُلما حتّى اِرْتدّ السّحر على السّاحر وخسر العدوّ الإسرائيلي معركة الإعلام وتأثير الصّورة في المتقبّل وتوظيفها في دعايته الخسيسة، وقد كان للإعلام المضاد لهذه الدّعاية دوره الفعّال إذ نقل الأعمال البربريّة الهمجيّة الّتي يقترفها الكيان المحتلّ صباح مساء وليلا نهارا من قبيل تدمير البيوت والمستشفيات والمدارس والكنائس، وتشريد السكّان وتهجيرهم، وقتل الخِداج والرضّع والأطفال والشّباب والنّساء والشّيوخ، وإشهاد العالم وقواه المحبّة للسّلام والمؤمنة بحقوق الشّعوب في تقرير مصائرها على وحشيّة هذا الكيان الفاقد للأخلاق، المنفلت من عقاله والمتحدّي للقوانين الدّوليّة ومقرّرات المنظّمات الدّوليّة.
ولمّا انكشف زيف هذه الدّعاية وفقدت مصداقيّتها اكتسحت الجماهير الغاضبة شوارع المدن الغربيّة مُنادية بالحرية لفلسطين، شاجبة جرائم الكيان المحتلّ، مندّدة بحكّامها الدّاعمين له وداعية إلى إيقاف مشاركتهم في هذه المجازر المروّعة والإبادة الجماعيّة. وهكذا ظلّت هذه الجماهير ونخبها المتنوّرة وأحزابها التّقدّميّة تقود المظاهرة تلو المظاهرة وتدين جرائم إسرائيل وتشنّع على كلّ من يدعمه.
ومع سقوط هذه الدّعاية سقطت أيضا منظومة فكريّة لا تقلّ عنها خطورة.
2. تهافت فكر العولمة :
ما إن تفكّك الاتّحاد السّوفياتي وانفضّت من حوله دول أوروبا الشّرقيّة التي كانت تدور في فلكه حتّى سارع لفيف من المفكّرين والمثقّفين إلى تأبين الفكر الاشتراكي، وإعلان نهاية الإيديولوجية (اقرأ نهاية الإيديولوجية الاشتراكيّة فقط)، والتّبشير ببزوغ مرحلة جديدة قوامها الحوار بين الحضارات والأديان، والتّعايش السّلمي بين الشّعوب والأمم، وتحوّل الكون إلى قرية يتقاسم فيها الجميع قيم التّسامح والتّآخي وينبذون منها الأحقاد والضّغائن.
ومن ثمّ صاغ لنا دعاة العولمة عالما جديدا لا تشقّه تناقضات كبرى لاقتسام مناطق النّفوذ، ولا تتضارب فيه مصالح الشّعوب مع مصالح القوى الهيمنيّة، ولا تتصارع فيه الإيديولوجيّات التي بشّروا بموتها، ولا يُستعمل فيه العنف لاسترداد الحقوق المسلوبة بل تسوده قيم مشتركة شرقا وغربا.
وقد تنكّر هؤلاء الدّعاة لخصوصيّات المجتمعات واختلاف ثقافاتها وموروثها الحضاري، وتناسوا أنّ الشعوب إذا فُرضت عليها قيم لا تمتّ بأيّ صلة إلى واقعها ولا تستجيب لتطلّعاتها ولا تعبّر عن طموحاتها فإنّها سترفضها، وإذا سعت القوى الهيمنيّة إلى طمس مقوّماتها الحضاريّة، والاستخفاف بموروثها الثّقافي والفكري، وتدنيس مقدّساتها فإنّها ستثور في وجهها، وإذا أنكرت حقّها في التّحرّر والانعتاق فإنّها ستتمرّد عليها.
لقد أثبت العدوان على غزّة أنّ تنظيرات هؤلاء الدّعاة مجرّد أضغاث أحلام، ولهث وراء سراب خلّب، وتهويمات مثقّفين واهمين. فالنظم الغربيّة لم تتغيّر طبيعتها الاستعماريّة وهي ليست صديقة الشّعوب، ودعمها للكيان الإسرائيلي لا حدود له، وعداؤها لقضايا التّحرّر وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينيّة مسألة راسخة لا تتغيّر مع تغيّر الحكّام، والحوار بين الحضارات أكذوبة سمجة. ذلك أنّ البورجوازيّة الغربيّة منذ أن خانت رسالتها التّنويريّة وقيم الأخوّة الإنسانيّة والتّسامح “تحوّلت إلى قوّة رجعيّة على طول الخطّ تمارس أبشع ألوان القهر القروسطي…” (الطاهر الهمّامي : تجّار الدّين في تونستان / دار صامد – ط1 ص24)، وأنّ الوحدة الحقيقيّة هي وحدة الشّعوب المتظاهرة في الشّوارع والمتحدّية للحكّام الدّاعمين للعدوّ الإسرائيلي.
ولقد أبان هذا العدوان أنّ حجر الدّومينو بدأ يتساقط وقد التحق بهذا الرّكب “رهط” من المثقّفين لا يستقرّ لهم رأي.
3- افتضاح أمر بعض المثقّفين :
من الوهم أن ننتظر من النّخبة المثقّفة، أينما كانت، موقفا موحّدا من أيّ قضيّة من القضايا. ذلك أنّ هذه النّخبة لا تمثّل كتلة متجانسة بل هي خليط يبدي آراء ومواقف من قضايا المجتمع والشّعوب والأمم تأتلف حينًا وتختلف حينًا آخر، وتتلوّن بلون المواقع والمصالح. فبعض المثقّفين يَشينون الجميل ويَزينون القبيح، ويشوّهون الشّرفاء ويمتدحون السّفهاء، ويصادقون الطّغاة ويعادون الثّقات أو يلوذون بالصّمت.
ولنا، هذه الأيّام، في تونس مثقّفون تقطّعت بهم السّبل إذ أصاب بعضهم عِيّ وغشت أبصارُهم ووُقِرت آذانُهم فتواروا عن الأنظار وانتبذوا أماكن قصيّة ولازموا جُحورهم صائمين عن الكلام، متجاهلين العدوان على غزّة ومنتظرين مرور العاصفة (جماعة الجوائز الكبرى المرتبطة بالإمارات العربيّة المتّحدة ومن لفّ لفّها).
وارتبك البعض الآخر فالتجأ إلى المواربة وعاد إلى الماضي محتميا بالتّاريخ وتهيّب الإفصاح عن رأيه من هذا العدوان الغاشم. فهذا حمّادي بن جاء باللّه يكتب مقالا مطوّلا موسوما بـ”فلسطين المناضلة من Einstein وبورقيبة إلى عرفات” عبارة عن درس فلسفي بدأه بالكندي وأنهاه بعرفات، واعتبر ما حدث يوم 7 أكتوبر بادرة تنضاف إلى بادرة أنشتاين الذي اقترح دولة علمانية ديمقراطيّة يتعايش فيها العرب واليهود، وبادرة بورقيبة الذي نصح الفلسطينيين سنة 1965 بقبول قرار التقسيم رغم ظلمه ومواصلة النّضال لاسترجاع بقية الأرض. أمّا البادرة الثّالثة فهي بادرة ياسر عرفات الذي يعتبره صاحبنا مثالا يُحتذى، ويدعو الفلسطينيين إلى الاقتداء به يقول “أمّا اليوم وقد جدّ الجدّ فليس للفلسطينيّين – على ما أعتقد – إلاّ أن يواصلوا المسيرة على نهج بطل التّحرير الفلسطيني الشّهيد ياسر عرفات رحمه اللّه رحمة واسعة. فقد أدرك بعبقريّة لا مثيل لها أنّ موضع قدم في فلسطين يمكن يتيح [كذا] استعادة كل فلسطين على النّحو الذي دعا إليه أنشتاين وبورقيبة” (انظر الصّحيفة الألكترونيّة “الشّارع المغاربي” عدد 380 – الثلاثاء 31 أكتوبر 2023 ص 2).
يتحرّج الكاتب من تسمية العمليّة العسكريةّ الّتي شنّتها المقاومة يوم 7 أكتوبر بأيّ إسمٍ ويساوي بينها وبين مبادرات أنشتاين وبورقيبة وعرفات رغم أنّ هذه المشاريع لا رابط بينها، بل هي متعارضة متناقضة وتعكس تصوّرات مختلفة وصيغت في ظروف غير متشابهة. ولئن ظلّ مقترحا أنشتاين وبورقيبة مجرّد أفكار فإنّ عرفات قبل مشروع أوسلو الذي لم يجلب للشّعب الفلسطيني إلاّ الخراب والدّمار والحصار والاعتقالات والسّجون، وهو مشروع يعتبره صاحبنا آية من آيات العبقريّة ويدعو الفلسطينيين إلى النّسج على منواله.
تُرى أيّ منطق يقود هذا الرّجل في مقاربته موضوعا بمثل هذه الخطورة؟ وكيف تكون عمليّة عسكريّة نوعيّة شبيهة ببادرة سلميّة تدعو إلى تقسيم فلسطين؟
أمّا الأستاذة ألفة يوسف فقد نشرت، على صفحة الفايسبوك، موقفا أثار انتقادات لاذعة واتّهامات خطيرة. فهي تشمئزّ من مشاهد القتل والدّم والخراب، وتستحضر صورة هابيل الضّحيّة وتدعو إلى مقابلة القتل بالتّسامح لأنّها تخاف ربّ العالمين. وهكذا تهيم في عوالم المثل والميثولوجيا والأديان وتلفّ الصّراع ببعد أسطوري وتجرّد ه من بعده الواقعي متناسية أنّ القضيّة هي قضيّة تحرّر وطني، وأنّ الفلسطينيّين يواجهون عدوّا شرسا لا يبقي ولا يذر شيئا. فهل يُطلب من شعب محتلّ أن يواجه عدوّه باللّين والتّسامح؟ ومتى تحرّرت الشّعوب بمثل هذه السّفسطة وهذا الهذيان؟
ولا نريد أن نتوقّف طويلا عند شطحات حمادي الرّديسي. ففي مقال الجيلاني الهمّامي الموسوم بـ”عندما يسقط بعض من النّخبة في “العبوديّة الطّوعيّة””ما يغنينا عن الرّد عليه (تفسّخ فكري / منطلق انتهازي / ولاء لفرنسا / إدانة العمليّة وحماس والجماهير التّونسيّة المتعصّبة – انظر صوت الشعب بتاريخ 2 نوفمبر2023 ص6).
لقد اقتصرنا على هذه الأمثلة الثّلاثة التي تمثّل عيّنات لمثقّفين عُرف الكثير منهم، في العهد البائد، بخدمة السّلطة الحاكمة وكيل المديح لها ووصفها بما لا تستحقّ لمّا ضيّقت الخناق على المفكّرين والمبدعين وأصحاب الرّأي المخالف وصادرت حرية التّعبير وصحّرت السّاحة الثّقافيّة وشجّعت الرّداءة والتّفسّخ.
ولكنّ للعملة وجها آخر قد لا يدركه الكثير.
4- انتعاشة ثقافة المقاومة :
منذ أن سيطر وحيد القرن على العالم بدءا من تسعينات القرن العشرين سادت ثقافة التّفاهة والإسفاف والتّسطيح، وكاد الحديث عن الفنّ الملتزم والأدب المقاوم يستحيل سُبّة، وأصبح التّذكير بالقيم الكونيّة مثل العدالة والاشتراكية والتّضامن الأممي مثار سخرية وتندّر وضربا من الخيال عند المتشيّعين لفكر أصحاب “نهاية التّاريخ” و”صدام الحضارات”.
وفي الحقيقة فقد الفنّ الملتزم ألقه وبدا وكأنّ الزّمن تجاوزه، واستحضاره قلّت مناسباته. فالشّباب انساق وراء ضروب من الفنّ جديدة تستجيب لذوقه وتُترجم محدودية وعيه وسطحية ثقافته وبساطة مشاغله، والأجيال الّتي تربّت على قيم النّضال وأشعار عمالقة الشّعر العالمي وأغاني الفنّ الملتزم ودعم حركات التّحرّر الوطني بدأت تنقرض تدريجيّا. وهكذا أصبحت إسرائيل، زمن الردّة، مزارا يؤمه الفنّانون العرب وتوالت موجات التّطبيع وتكرّرت الدّعوات إلى التّعايش السّلمي مع الكيان الصهيوني المحتلّ.
إلاّ أنّ المقاومة الفلسطينيّة أيقظت يوم 7 أكتوبر هؤلاء الغفاة حتّى لا تأخذهم سِنة أخرى وذكّرتهم بأنّ جرح فلسطين لايزال نازفا وبأنّ العدوّ لم يغيّر جلده. وهكذا أصبحنا ننام ونصحو على أغاني فيروز وفرقة العاشقين بفلسطين ومرسال خليفة وأحمد قعبور والشيخ إمام. وفي تونس أقامت فرقة البحث الموسيقي بقابس وعيون الكلام وأجراس والكرامة أكثر من حفلٍ، وظلّت هذه الفرق تذرع البلاد من شمالها إلى جنوبها. كما أنّنا أصبحنا نسمع صباح مساء قصائد محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وأمل دُنقل.
واختلطت الأصوات المندّدة بجرائم العدو الصهيوني بأغاني هؤلاء الفنّانين وامتزجت الشّعارات الثّوريّة بأهازيج المتظاهرين. وتواترت الكتابات والنّدوات الفكريّة والحوارات الثّقافيّة التي تشرّح طبيعة هذا العدو وتدين المثقّفين الدّاعمين له.
خاتمة :
ما أحدثته المقاومة الفلسطينيّة يوم 7 أكتوبر 2023 لن يكون لحظة فارقة في تاريخ الشّعب الفلسطيني فحسب بل ستترتّب عليه تداعيات مزلزلة على جميع الأصعدة. ذلك أنّ الضّربة الموجعة التي سدّدت إلى الجيش الإسرائيلي أنسته أسطورة التّفوّق التي طالما تباهى بها، ونبّهت الغرب لوهم جيش حليفها الذي لا يُقهر، وكشفت طبيعته الهشّة فهبّ مدجّجا بالأسلحة لنجدته، فاسحًا له المجال ليرتكب أبشع الجرائم، كما أنّها أربكت حسابات النّظم العربيّة التي استقلّت قطار التّطبيع وحذّرتها من مغبّة صنيعها. والأهمّ من هذا وذاك هو سقوط تهويمات كتبة العولمة ومزاعم المثقّفين المتلوّنين وقصر نظرهم، وتذكير الجميع، شرقا وغربا، بأنّ من يزرع الأوهام يجني السّراب.