دشّن حكم “قيس سعيد” مسار انقلابه في 25 جويلية 2021 بإطلاق حملة إعلامية وسياسية واسعة مضامينها الأساسيّة سيل جارف من الوعود بـ”فيض الخزائن” بالأموال وتحقيق الرّفاه الاجتماعي ضمن “الجمهورية الثالثة” التي تقطع مع العشريّة السوداء حسب زعم هذه الحملة!!!
فجميع أقلام وأصوات لفيف داعمي الانقلاب ملأت كلّ المنابر والفضاءات بضجيج “الخير القادم” الذي أعاد إلى الأذهان فظاعات “البروباغاندا” زمن “بن علي”. فحملات الكذب وتزوير الواقع هما السّلاح المرافق على الدّوام لسادة الانقلابات في كلّ مكان وزمان بهدف تظليل الرّأي العامّ الشعبي وإخفاء بشاعة النّكوص والارتداد.
فكلّ المؤشرات الملموسة على جميع الواجهات تؤكّد بما لا يدع مجالا للشكّ تسارع وتأئّر التقهقر الخطير الذي أصاب ولا يزال مجمل مَناحي حياة التونسيّات والتّونسيّين.
فالتّدحرج نحو الأسوأ شمل ويشمل أدقّ تفاصيل حياة، ليس فقط الطبقة العاملة وباقي الطبقات والفئات الشّعبية، وإنّما طال الشّريحة الأوسع من البورجوازية الصّغيرة وتجاوزه إلى البعض من كبار أصحاب الأملاك والثّروات الطائلة.
فمسار 25 جويلية يتقدّم بخطى حثيثة في خنق الحياة السياسيّة وتخريبها بوسائل عديدة تجمع بين الاستعمال الاعتباطي لمختلف الأدوات القضائية (ترسانة قوانين زجريّة، نيابة عموميّة، قضاء…) مرورا إلى إقحام المؤسّسة الأمنية في المعارك السّياسية وإطلاق يديها من جهة لممارسة شتّى أنواع التّنكيل بالملاحقين وذويهم، ومن جهة أخرى لفبركة القضايا وتلفيقها بطرق بدائيّة وقحة يتكثّف جلّها تحت عناوين “التآمر على أمن الدولة” و”محاولة قلب نظام الحكم” !!
بخطى متسارعة تعمل منظومة الحكم القائمة على تثبيت أسس نظامها الفاشستي على أنقاض جميع مكتسبات الثّورة التونسية، فتاج الحرّيات، ونقصد الإعلام بشقّيه العمومي والخاصّ، أضحى في أتعس حالاته باعتراف أبرز الفاعلين فيه سواء أفرادا أو هياكل منتخبة.
فالكلّ يذهب إلى أنّ حرية الإعلام والتّعبير عموما هما في مرمى سهام الدّيكتاتورية طورا بمفاعيل المرسوم 54 سيء الصّيت وحينا آخر بألاعيب وطرق ملتوية.
فكلّ المؤشّرات الملموسة تؤكّد أنّ كلّ الحرّيات، بما فيها حرّية العمل النقابي والجمعيّاتي عموما، هي في مرمى تلك السّهام ولعلّ بقاء بعضها الكلّي أو الجزئي بمنأى عن تلك الأضرار ليس سوى أمر مؤقّت.
فالاعتقاد السائد على أوسع نطاق لدى جلّ المتابعين للشأن العام ببلادنا يذهب إلى الجزم بأنّ قائمة ضحايا الدّيكتاتورية مفتوحة وفق عوامل كثيرة أهمّها بطبيعة الحال ما يتلاءم مع حسابات القابضين على مقاليد الحكم.
إنّ حالة الاختناق والتّردي تنزل بأثقالها كما لم يحدث من قبل على الواجهة الاجتماعيّة وهو ما يجد ترجمته الملموسة أوّلًا في تزايد طوابير المعطلين من أصحاب الشّهائد العليا وسواهم واتسّاع دوائر التّهميش والفقر وحتّى المجاعة بما يصحبها من جميع الآفات الاجتماعية (كحولية، مخدرات، بغاء، سطْو وسرقة…).
وثانيا في تردّي المقدرة الشرائية نتيجة الارتفاع الجنوني للأسعار لكلّ الموادّ الاستهلاكية وجميع الخدمات.
وثالثا في استفحال ظاهرة فقدان أو ندرة الكثير من ضروريّات العيش مثل السّميد والسّكر والحليب والشّاي الأخضر…
تتعاظم معاناة السّواد الأعظم من الشعب مثلما أسلف بالغلاء الفاحش للأسعار وتنقلب حياتهم إلى جحيم حقيقي نتيجة انهيار خدمات المرفق العمومي مثل النّقل والصّحة والتّعليم… وتتزايد مظاهر التّنكيل بهم لتوفير أبسط متطلّبات الحياة كالحليب والخبز وغيرهما.
فجهاد التونسيّة والتّونسي كما يرد على أفواه الكثيرين منهم في النّهوض فجرا للتّدافع في طوابير طويلة أمام المساحات التّجارية الكبرى أو المخابز لتأمين القليل من حاجياته الدنيا.
يحدث هذا الاختناق السياسي والاجتماعي وتغرق البلاد في أتون أزمات متوالدة أثبتت الأيّام أنّ سلطة الانقلاب لا تملك من الحلول سوى مفاقمتها ومرافقتها باشتغال سرديّات الكذب وإطلاق العنان لترديد الشّعارات الجوفاء التي أضحت مثار سخرية وتندّر في الأوساط الشعبيّة.
فالكثيرون في طوابير البحث عن الخبز والحليب والأرز يتهكّمون على اسطوانة مراقبة الاِحتكار والمحتكرين.
والكثيرون في اشْتداد متاعبهم لضمان أساسيّات العيش يلْعنون بأصوات عالية زمن “قيس سعيد” الذي أضاقهم ويْلات تجاوزت ما عرفوه في أوقات ثاروا عليها وقدّموا تضحيات كبيرة للقطع معها.