يحيي العمال والكادحون وكافة الفئات الشعبية المتضررة من نظام العمالة والاستبداد والتفقير يوم 17 ديسمبر الجاري الذكرى الثالثة عشرة لاندلاع ثورة الحرية والكرامة. لقد انطلقت هذه الثورة من سيدي بوزيد. وكان قادحها احتراق الشاب محمد البوعزيزي احتجاجا على الفقر والبؤس والظلم. انتشرت الاحتجاجات بسرعة لتعمّ كافة مناطق البلاد وتشارك فيها كافة الطبقات والفئات الشعبية المسحوقة وتتحوّل إلى انتفاضة حقيقية تهدف إلى إسقاط نظام الحكم الدكتاتوري (“الشعب يريد إسقاط النظام”) وتحقّق تحوّلا جذريّا في واقع المجتمع يمكّن الأغلبية الساحقة المضطهدة من الشغل والحرية والكرامة الوطنية.
وكما هو معلوم فقد انتهت هذه الثورة بإسقاط نظام بن علي ولكنها توقفت في منتصف الطريق. لقد تمكّن الشعب التونسي من افتكاك الحرية السياسية والتخلص من نظام الدكتاتورية ولكنه لم يتمكن لا من افتكاك السلطة ولا من وضع يده على ثروات البلاد أي عبر تنظيم الدولة والاقتصاد بما يخدم مصالحه ومطالبه الجوهرية.
لقد بقيت السلطة والثروة بيد الأقلية البورجوازية العميلة المسنودة خارجيا من القوى الامبريالية والرجعية العربية وغيرها والتي عرفت في نفس الوقت كيف تتكيف مع الوضع الجديد أي مع الديمقراطية الليبرالية وتحوّلها إلى أداة للحفاظ على مصالحها وتطويرها مستندة إلى ممثليها الجدد من قوى سياسية دينية (حركة النهضة) وليبرالية (نداء تونس وغيره).
لقد وجد الشعب التونسي نفسه بعد سنوات من إسقاط الدكتاتورية في وضع لا يحسد عليه ذلك أنّ أوضاعه تدهورت على كافة المستويات وانكشفت أمامه حدود الديمقراطية الليبرالية البورجوازية المتعفنة. وهو ما فسح المجال، في ظل ضعف القوى الثورية وتراجع حركة النضال الشعبية، أمام بروز التيار الشعبوي بقيادة قيس سعيد الذي وصل إلى دفّة الرئاسة في انتخابات 2019 واستغلّ تفاقم الأزمة للانقلاب على خصومه في المنظومة وعلى دستور 2014، الذي أقسم على احترامه، والانفراد بالحكم والسير نحو تركيز نظام سياسي جديد استبدادي ودكتاتوري يصفّي كل مكاسب الثورة الديمقراطية خدمة لمصالح الرجعية الداخلية والدول والشركات الأجنبية التي ضاقت ذرعا بما تحقق الشعب التونسي من حرية يمكن أن تعصف في لحظة من اللحظات بتلك المصالح.
إنّ الشعب التونسي الذي يحيي هذه الأيام الذكرى 13 لاندلاع ثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011 يجد نفسه بعد حوالي العامين والنصف من انقلاب 25 جويلية 2021 في وضع غاية في الخطورة، لا يختلف جوهريا عن الوضع الذي كان يعيشه زمن الدكتاتورية النوفمبرية. فالأزمة الاقتصادية والمالية تعصف بالبلاد ونتائجها الاجتماعية تنعكس على الطبقات والفئات الكادحة والشعبية بشكل كارثي غير مسبوق في الوقت الذي تشتدّ فيه سطوة الحكم الفردي المطلق على المجتمع، هذا الحكم الفردي الاستبدادي الذي يكاد يأتي على كافة مكتسبات الثورة في مجال الحريات.
لكن ما يفرق بين وضع ديسمبر 2010 وديسمبر 2023 هو بلا شك أننا كنا قبل 13 عاما في حركة مدّ ثوري بينما نحن اليوم في حالة جزر خطيرة وقفنا عند أسبابها والخوض فيها في عديد المناسبات. وهو ما يفسر ضعف ردّ الفعل على تدهور الحالة اليوم وخطورتها. إنّ قيس سعيد الذي يسير بالبلاد نحو الكارثة، مستندا خاصة إلى أجهزة الدولة القمعية، مازال خطابه الشعبوي يلقى رواجا في صفوف بعض الأوساط الشعبية التي ماتزال تحمل آمالها عليه ولا تدرك أنّ خياراته تخدم غلاة رأسمال في الداخل والخارج. أمّا الفئات الأخرى الواسعة وشديدة التذمر من الحالة التي وصلتها فإنها لا ترى مخرجا واضحا من الأزمة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ المعارضة السياسية والمدنية في حالة تراجع، وهو ما يمكّن سعيد، إلى جانب ضعف الحركة الاجتماعية والشعبية، من مواصلة تنفيذ برنامجه الرّجعي الاستبدادي المعادي للعمال والأجراء والفقراء والفئات الوسطى، رغم هشاشة حكمه وانسداد الآفاق أمامه وهو ما تؤكّده ميزانية الخراب لعام 2024.
إنّ المسؤولية كل المسؤولية تُلقى اليوم على حزبنا وعلى كل القوى الثورية والتقدمية السياسية منها والنقابية والحقوقية والثقافية والنسائية والشبابية والايكولوجية، من أجل التصدي لنظام قيس سعيد والنهوض بالحركة من جديد وفتح الآفاق أمامها عبر برنامج ثوري يعكس طموحاتها وخطط عمل وتنظيم قادرة على استيعاب كل مكوناتها.
إنّ واقع العمّال والأجراء والفقراء والمعدمين والمحرومين سيدفعهم شيئا فشيئا إلى الاحتجاج الذي لم ينقطع بالمرة حتى إن خفت وتراجع. والمسألة التي ستطرح في هذه الحالة : هل توجد القوة المنظمة القادرة على دفع الحركة وتنظيمها وتسليحها بالوعي والتنظيم أم لا؟ وما من شك في أنّ الجواب عن هذا السؤال هو من مشمولات القوى الثورية والتقدمية التي عليها ألاّ تضيع الوقت في الانتظار أو المهاترات الفارغة. إنّ الوقت للعمل ولا شيء غير العمل لتقريب ساعة خلاص الشعب من الاستبداد الشعبوي الجديد ومن كافة المشاريع اليمينية الرجعية الأخرى التي تنتظر فرصتها لتتربّع على عرش الحكم من جديد وتستمر في خدمة نفس المصالح المعادية للشعب والوطن بعناوين وأسماء جديدة.