ما هو السياق العام الذي أوجد الشركات الأهيلة؟
يندرج تأسيس الشركات الأهلية ضمن تصوّر شعبوي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية يعتمد على آليات تمويل خصوصية مصدرها الرئيسي جزء من عائدات الصلح الجزائي مع عدد من رجال الأعمال (“الذين سرقوا آمال الشعب ونكلوا به”) المخيّرين اليوم بين دفع مبالغ هامة لإنجاز مشاريع تنموية في الجهات الأكثر احتياجا أو البقاء في السجون جرّاء التحقيقات والتّتبعات العدلية ضدهم.
كما يندرج ضمن تصوّر لنظام حكم سياسي مبني على قطبين: قطب البناء القاعدي (المجالس المحلية ومجلس الجهات والأقاليم) الذي ألغى مسار اللامركزية المنصوص عليه بالباب السابع من دستور 2014 وأفقد مجلة الجماعات المحلية مرجعيتها الدستورية وقطب الحكم الفردي الاستبدادي المفلت من أية رقابة أو محاسبة والموظف لمختلف السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية لفائدة المشروع الرئاسي.
ما هي الأهداف التي حقّقها هذا النموذج الاقتصادي على مستوى التنمية والتشغيل ؟
جاء خلال الندوة الصحفية التي خصّصتها الحكومة لعرض المخطط الثلاثي للتنمية 2023-2025 في مطلع هذه السنة أنه يتعين إحداث 80 شركة أهلية خلال سنوات المخطط المذكور. ثم عند استقبال رئيس الجمهورية لوزير الشؤون الاجتماعية في تاريخ 18 جويلية 2023 تمت الإشارة إلى تأسيس 31 شركة إلى حدّ ذلك التاريخ. في هذا الصّدد لا بدّ من الإشارة إلى أن تعثّر مسار الصّلح الجزائي حيث لم تجن اللجنة التي تأسّست للغرض إلا القليل من الأموال بالمقارنة مع التقديرات (بعض العشرات من ملايين الدنانير مقابل الآلاف المنتظرة !) رغم مرور سنة كاملة على أشغالها من ناحية، واصطدام باعثي هذا الصنف من الشركات بصعوبات كبيرة لا سيّما في المجال التشريعي خاصة عندما يتعلق الأمر باستغلال الأراضي الدولية رغم تسخير الجهاز التنفيذي مركزيا وجهويا ومحليا للنهوض بها من ناحية أخرى. كل ذلك جعل هذه الشركات في أغلب الأحيان موجودة على الورق فقط لا أثر لها يذكر على مستوى التنمية والتشغيل إلى حد الآن. ولتلافي النقائص المتعلقة بالتمويل نصّ قانون المالية لسنة 2023 على خطّ تمويل لفائدة الشركات الأهلية بـ 20 مليون دينار يصرف من اعتمادات الصندوق الوطني للتشغيل، فيما تواصل هذا الدعم بمقتضى أحكام قانون المالية لسنة 2024 بالتنصيص على الترفيع في الاعتمادات المخصّصة لخط التمويل بـ 20 مليون دينار إضافية والتمديد في فترة الانتفاع بالخط إلى موفّى ديسمبر 2025 وكذلك توسيع مجال التصرف فيه ليشمل، علاوة على البنك التونسي للتضامن، بقية البنوك، وهو ما يُمّكن أكبر عدد ممكن من الشركات من الانتفاع بتدخّلات الخط المذكور. بينما لم ينص قانون المالية الجديد على أي إجراء لفائدة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بل إن خط التمويل الذي نصّ عليه قانون المالية لسنة 2022 لفائدة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني المقدّر بـ 30 مليون دينار لم يستفد منه إلا العدد القليل من الشركات التعاونية للخدمات الفلاحية ومجامع التنمية بسبب الشروط التعجيزية المطلوبة من المؤسسات المذكورة للانتفاع بهذه القروض.
الرئيس ومفسّري مشروعه يدّعون أن الشركات الاهلية هي شكل آخر من التعاضديات. ما وجاهة هذا القول، خاصة وأنّكم أحد الخبراء البارزين الذين قدموا سابقا مشروع قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ؟
ذكرنا سابقا أن واضعي المرسوم المتعلق بإحداث الشركات الأهلية قد استأنسوا إلى حدّ بعيد بأحكام النص المتعلق بالقانون الأساسي العام للتعاضد لسنة 1967 وبالقانون 2005 المتعلق بالشركات التعاونية للخدمات الفلاحية لسنة 2005 وكذلك بالقانون المتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني لسنة 2020 ما يجعلها شكلا من أشكال التعاضديات في بلادنا وهو ما جعلنا نحن نصنْف الشركات الأهلية ضمن مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني واقتراح إضافتها إلى قائمة مكوناته الواردة بالفصل الثاني من القانون المرجعي لسنة 2020 وذلك بصرف النظر عن المشروع السّياسي الذي تندرج في إطاره والتناقضات العديدة التي تكبّلها من حيث شروط الانخراط والحوكمة والتمويل وغيرها وكنّا أشرنا إلى البعض منها مع أمل معالجتها في إطار مراجعة النصوص القانونية المنظمة لمختلف العائلات المكونة لمنظومة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
غير أن السلطة التنفيذية ذاهبة اليوم في اتجاه فصل الشركات الأهلية عن قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وتمكينه من كل الحوافز والتشجيعات والوسائل والإغراءات التي تجعل منها قبلة المشاريع التنموية المحلية والبديل للاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي تعطّل إصدار نصوصه التطبيقية لثلاث سموات ونصف السنة وتعطل معه بعث مؤسساته وإحداث آليات تمويله الخاصة (البنك التعاضدي) وبذلك تتحوّل النسخة إلى الأصل والجزء إلى الكل من منطلق هيمني خدمة لمشروع هلامي.
ونحن نقترب من الذكرى 13 للثورة، ماذا كان يمكن أن يكون البديل الحقيقي للإيفاء بأحد أهداف الثورة، وهو الشغل الكريم واللائق؟
نعيش اليوم في تونس على وقع أزمة شاملة تستوجب منه مقاربة عميقة تهتمّ بالتوازنات النوعية التي تعطي الأولوية للرهان الحقيقي وهو رهان إيتيقي بالأساس قبل أن يكون رهانا محاسباتي باعتبار أنه يطرح ضمن أولوياته الرئيسية استعادة التوازنات بين الإنسان ورأس المال وبين الإنسان والطبيعة وبين الطبقات والفئات الاجتماعية وبين الجهات وبين الأجيال وبين قطاعات الإنتاج (الفلاحي والصناعي والخدماتي والرقمي) وبين الانماط الاقتصادية (العمومي والخاص والاجتماعي والتضامني والموازي). بعبارة أخرى نحن اليوم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى منوال تنموي بديل يتجاوز تاريخيا المنوال الرأسمالي الليبرالي من خلال إعادة صياغة مفهوم الإنتاج وغاياته ونمط الاستهلاك وشروطه، وآليات التسويق وقيمها. يتجاوزه أيضا من خلال تصوّر مغاير لكيفية توزيع ما يقع خلقه من خيرات حتى ينتفع منها كل فرد وكل شريحة اجتماعية وكل رقعة ترابية حسب الجهد المبذول ووفقا لمبدأ التضامن.
ولعل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يمثل اليوم مدخلا مناسبا لبلورة منوال التنمية البديل الذي يحقّق فعلا طموح الطبقات الكادحة والجهات المحرومة والفئات الوسطى المفقّرة في العيش الكريم ماديا ومعنويا وذلك من خلال إحكام المعادلة بين المردودية الاقتصادية والغايات الاجتماعية، بين الشروط الكفيلة بخلق الثروة وشروط توزيعها العادل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يشكّل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مدخلا أيضا لإعادة الاعتبار للقيم الاشتراكية باعتبار أنه يقوم علي إعطاء الأولوية للإنسان على رأس المال، فهذا الأخير ليس سوى وسيلة لا غاية في حد ذاتها ولا يسعى الاقتصاد الاجتماعي والتضامني إلى تحقيق الربحيّة القصوى التي تمليها المصلحة الخاصّة بقدر ما يبحث عن أعلى مستويات المردودية ضمانا لأوفر المنفعة الجماعية. كذلك يعدّ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني مدرسة للديمقراطية في مجال الحوكمة حيث لا تقوم السلطة على سلطة المال ولا الولاء لأيٍّ كان بقدر ما تقوم على قوّة الحجة وحسن التّدبير فلكل شخص صوت يزن كغيره من الأصوات ضمن آلية أخذ القرار، إنّها ديمقراطية المنتجين.
لكم كلمة الختام
يعلمنا التاريخ أن من يربط مصيره بـ”الفوق” يرحل معه و”ما يبقى في الواد كان حجرو”.