جيلاني الهمامي
انطلق الحديث عن “غزة ما بعد الحرب” أسبوعا بعد اندلاعها. فمنذ منتصف أكتوبر شرعت المخابرات الأمريكية في العمل على “طبخ” مشاريع إنهاء القضية الفلسطينية. وهي تنكبّ الآن برعاية إدارة بايدن على إعداد مخطط لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، وبطبيعة الحال بعد أن يكون الجيش الصهيوني قد أجهز تماما على حركة “حماس” وقضى القضاء المبرم على المقاومة الفلسطينية المسلّحة. وبصورة موازية لذلك راح قادة البيت الأبيض الأمريكي يجوبون منطقة الشرق الأوسط يجسّون نبض من يسمّونهم “الشركاء” و”الحلفاء” لمعرفة ما إذا سيجد مشروعهم مقبولية لدى هؤلاء “الشركاء”.
لكن القناعة الحاصلة لدى المسؤولين الأمريكان أن أي استراتيجية سيضعونها لن تمرّ بسهولة وستواجه عقبات كثيرة ومتنوعة. فعناصر الخارطة تبدّلت وتغيرت المعطيات القديمة التي كانت تعتمد عليها واشنطن في وضع خططها. الوزن السياسي العسكري الذي ظهرت عليه حركة “حماس” في قطاع غزة والشكوك حول صلابة الفريق اليمينيّ المتطرّف الماسك بالحكم في الكيان الصهيوني واهتزازه داخليا والتطورات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط والطموحات التي باتت تغذّي الزعامات الشابة الجديدة في بلدان الخليج، في قطر والسعودية الإمارات، وعموم المناخ الدولي الذي يشهد بداية أفول نظام القطب الواحد الذي كان مسيطرا على العلاقات الدولية طيلة فترة ما بعد سقوط جدار برلين كلّها من العوامل التي تحفّ بالاستراتيجية الجديدة الجاري العمل على وضعها في الشرق الأوسط.
وقد كانت عملية “طوفان الأقصى” في مستوطنات غلاف غزّة التي استدرجت الكيان الصهيوني إلى المواجهة العسكرية بمثابة الإعلان الرسمي عن حصول هذه النقلة في الأوضاع العامة وبداية نشوء موازين جديدة (بصرف النظر عمّا إذا كانت حماس قد خططت لذلك بوعي أم لا) ورسم ملامح خارطة متغيّرة في الشرق الأوسط. في كلمة: انتهت مرحلة التّسويات (مسارات مدريد وأوسلو) والتطبيع وانطلقت مرحلة جديدة ستحدّد نتيجة الحرب الجارية الآن في غزة طبيعتها وخصائصها والمآلات التي يمكن أن تفضي إليها .
ومعلوم أن لحظة التحولات الكبيرة يصعب الحكم بدقّة على كل شيء، وعامة ما تتطلب الأمور كثيرا من الحذر والدقة في متابعة تفاصيل ما يجري من تطورات. ربما ذلك ما يفسر التكتم الكبير الذي سلكته الإدارة الامريكية في وضع الاستراتيجية الجديدة وعدم الكشف إلا على عناوين عامة في انتظار أن تكتمل صورة الخطة الجديدة من ناحية، ولكن ربما أيضا لتوفير مستلزمات النجاح في تمريرها خصوصا وأن النتائج النهائية للحرب لم تتضح بعد. وقد صرّح أحد المكلفين بصياغة الاستراتيجية الجديدة بالقول “كيفية القيام بذلك وما هو موجود بالفعل في غزة للقيام بذلك أمر صعب حقا لأنه لا توجد إجابة واضحة أو سهلة”.
حلٌّ سيّء ولكنه الأفضل من ضمن الحلول السيئة
تبدو الآفاق على درجة من الضبابية والغموض مما اضطر إدارة بايدن للتسليم بأن المتوفر الآن ، وحتى يأتي ما يخالف ذلك، هو أفضل ما يمكن اعتماده في خطة المستقبل حتى وإن بدا حلا سيئا. فبمعنى ما تبدو الآن كل الحلول سيئة. فالحالة باتت تقتضي القبول لا محالة حتى بأنصاف الحلول، إذ في خلاف ذلك لا حلّ غير الاستمرار في الحرب إلى أجل غير محدد. ومثل هذا السيناريو يمثل مغامرة غير مضمونة العواقب في ظل التحولات الدولية الراهنة.
لهذا الغرض شكلت إدارة بايدن فريقا من المسؤولين السامين في مجال الأمن والدفاع والخبراء في التخطيط الاستراتيجي بقيادة بريت ماك قورك Brett McGurk المسؤول السامي في مجلس الأمن القومي الأمريكي بمساعدة تيري وولف Terry Wolff من قدماء وزارة الدفاع )يعمل حاليا في إدارة الاستعمالات NCS التابعة لوكالة الاستخبارات الامريكية CIA). ويضم الفريق أيضا عدد من الخبراء المختصين في ملف الشرق الأوسط والتخطيط السياسي بوزارة الخارجية مثل بربارا ليف Barbara Leaf ودان شابيرو Dan Shapiro وهادي عمر Hady Amr.
انطلق هذا الفريق في العمل منذ منتصف أكتوبر الماضي، أي بضعة أيام بعيد هجوم حماس على الكيان الصهيوني وانطلاق عملية “طوفان الأقصى”، وبعد حوالي شهرين من العمل، لم يكشف هذا الفريق عن نتائج نهائية. لكن يمكن أن نستشف من تصريحات كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية ، بايدن وبلنكن، أو بعض المتحدثين باسم البيت الأبيض أو البنتاغون أو وزارة الخارجية دون الكشف عن هويتهم، الملامح الكبرى للمشروع الجاري وضعه الآن .
لا شك أن نسق سير المعارك وبطء الجيش الصهيوني في بلوغ أهدافه (القضاء على حماس وتدمير بنيتها التحتية السياسية والعسكرية وتحرير الأسرى) وفر للإدارة الأمريكية متسعا من الوقت لصياغة استراتيجيتها “على راحتها” ومكنها من هامش إضافي لمزيد سبر نوايا واستعدادات كل الأطراف ذات الصلة وخاصة الائتلاف الحاكم في تل أبيب وسلطة عباس والأنظمة العربية، مصر والأردن والخليج خاصة. وفي هذا الإطار تأتي الزيارات المتكرّرة للمسؤولين الأمريكيين إلى المنطقة، إلى جانب حرصهم على “الاطمئنان” على سير عملية الإبادة التي يقوم بها الجيش الصهيوني في غزة.
فالإدارة الامريكية تتوقع أن تستمر الحرب على غزة لأسابيع أخرى، ولا أقل من منتصف أو نهاية شهر جانفي 2024 للإعلان عن توقف أعمال القتل والتدمير. لذلك مازال هامش الوقت يتسع لمزيد استيضاح اتجاهات تطور الأوضاع واستطلاع النتائج الملموسة للتأكد من مسألة مهمة وهي للاستعاضة عن حماس ببديل، أي بديل، لا بدّ من التأكد مما سيتبقّى من حماس بعد الحرب.
وضمن هذا التدرج في إعداد المخطط والحذر في التصريحات حوله اكتفى وزير الخارجية بلنكن بالتلويح بـ”إعادة إحياء” أو “إعادة تنشيط” السلطة الفلسطينية revitalisé (والعبارة للرئيس بايدن) لتكليفها بإدارة غزة بعد الحرب وبعد التخلص النهائي من حماس. وقد عرضت الفكرة على محمود عباس الذي رحّب بها وعبّر عن استعداده بل وعن قدرات “سلطته” على الاضطلاع بالمهمة. وقد رشحت بعض المعطيات تفيد أن هناك توجه بصدد التشكل من خلال المحادثات الداخلية يتضمن إعادة بناء غزة على مراحل وتتجه النية إلى التعويل على الإمارات العربية والسعودية في ذلك، ومن ناحية أخرى تشكيل قوة دولية، بعد أن تبين أن تشكيل قوة عربية فكرة غير مقبولة، تسهر على إدارة القطاع لفترة زمنية تليها فيما بعد السلطة الفلسطينية بعد أن يتم “إصلاحها” أو “إعادة هيكلتها” أو “إعادة تنظيمها” بحثا عن الترجمة الأدق للعبارة التي استعملها الرئيس بايدن “إعادة تنشيطها” revitaliser l’Autorité Palestinienne.
ويلاقي هذا التوجه اعتراضات البعض وشكوك البعض الآخر في مدى وجاهته أو فاعليته وفي مدى ضمان “الاستقرار في غزة” أي بعبارة أخرى مدى ضمان أمن الكيان الصهيوني وعدم عودة المقاومة المسلحة إلى القطاع. فرئيس الحكومة الصهيونية، نتنياهو، سارع برفض هذا التوجه بشكل قاطع بحجة أن حكومته منشغلة الآن بمجريات الحرب، ولكن وبحسب العديد من المحللين لأنه في الحقيقة يخطط لإبقاء قطاع غزة تحت الاحتلال العسكري المباشر على الأقل لفترة زمنية قد تصل إلى بضعة سنوات.
من جانب آخر تلاقي فكرة التعويل على السلطة الفلسطينية في الحلول محل حماس معارضة بعض الأوساط الحاكمة في أمريكا لأنها، أي سلطة عباس، حسب رأيهم مكروهة لدى الغالبية العظمى من الفلسطينيين وفاسدة ولا تتمتع لا بمصداقية ولا بهيبة لبسط سلطتها وضمان التحكم في الأوضاع الأمنية على مدى مباشر أو متوسط أو على مدى بعيد. ويمثل تقدم محمود عباس في السن (88 سنة) إلى جانب عدم القيام بانتخابات منذ مدة طويلة من العوامل التي لا تشجع على تكليفه بقيادة هذه الاستراتيجية.
لكن المباحثات الحثيثة التي جرت بين مختلف المصالح الأمنية والسياسية الامريكية التابعة للبيت الأبيض أو لوزارة الخارجية بدأت تقترب من صياغة الحل على الأقل في عناصره الكبرى وهي: تشكيل قوة أممية بشكل مباشر للسّهر على بسط الاستقرار في غزة لفترة من الزمن يجري في غضونها إعداد السلطة الفلسطينية لاستلام الأمور والتعويل على البلدان العربية (الإمارات والسعودية) في إعادة إعمار غزة في أفق إعادة إحياء مشروع الدولتين الذي يعوّل على الخطة العربية للسلام في تفعيله كمدخل لإحلال السلام في المنطقة المناخ الأسلم الذي يؤمّن اندماج الكيان الصهيوني بمحيطه وتطبيع علاقاته معه.
هذا هو الحل الوحيد من وجهة نظر الإدارة الأمريكية الحالية للصراع العربي الصهيوني سواء على المدى المباشر لإنهاء الحرب أو على المدى المتوسط والبعيد. هو حلِّ سيء نعم، ولكنه الأفضل من جملة كل الحلول السيئة كما خلص إليه الفريق المكلف بإعداد استراتيجية المستقبل في الملف الفلسطيني. وقد عبر مسؤول من وزارة الخارجية عن الصعوبة التي تلاقيها الإدارة الأمريكية بالقول: “نحن محشورون في الزاوية، صحيح هناك تفضيل سياسي قوي للسلطة الفلسطينية للعب دور حاكم في غزة، لكنها تواجه تحدّيات كبيرة من حيث الشرعية والقدرة”.
لذلك صدرت التوصيات بالترفيع في حجم المساعدة المتعلقة بالأمن التي يقدمها مكتب الشؤون الدولية لمكافحة المخدرات إلى السلطة الفلسطينية وتوسيع صلاحيات المبعوث الأمريكي المنسق الأمني الذي يتمتع بخبرة في مساعدة القوات الأمنية لسلطة عباس.
هذه الخطوط الكبرى لاستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية التي يجري إعدادها الآن وينتظر الكشف عن تفاصيلها في الأيام القليلة القادمة مع اقتراب ساعة توقيف الحرب في الأسابيع الأولى من السنة الجديدة.
إن لم تكن هناك إسرائيل لكنّا عملنا على إقامتها
تستند هذه الاستراتيجية الأمريكية إلى جملة من الثوابت منها ما له بصلة بالموقف الأمريكي من الصراع العربي الصهيوني عامة والقضية الفلسطينية، ومنها ما هو مرتبط بالحرب الجارية الآن في غزة. فعلى المستوى الأول جدّد بايدن قولته الشهيرة والمعبّرة التي أعلنها يوم 18 أكتوبر الماضي في تل أبيب “لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها” وأضاف إليها يوم الثلاثاء 12 ديسمبر الجاري في جلسة مغلقة في واشنطن “ليس بالضرورة أن تكون يهوديا كي تكون صهيونيا”. ما يعني بوضوح ما بعده وضوح أن الصهيونية ليست مجرد أيديولوجيا عنصرية تستمد من الديانة اليهودية واحدا من مبرّرات وجودها، إنما هي إلى جانب ذلك أيديولوجيا الاستعمار الجديد في أشنع صيغه وأكثرها وحشية. وهو ما يعني أيضا بجلاء ما بعده جلاء أن الكيان الصهيوني ليس غير أداة في يد الامبريالية الأمريكية في سياساتها الهيمينية في العالم ورأس حربتها في منطقة الشرق الأوسط.
وقد جاءت هذه التصريحات بالتوازي مع الانتقادات التي وجهها الرئيس الأمريكي بايدن إلى الحكومة الصهيونية والتي يجري العمل على تقديمها على أنها دليل شرخ بين واشنطن وتل أبيب. والحقيقة أن لا شيء من ذلك في الواقع. لقد أكّد بايدن على تمسكه بمواصلة الحرب على غزة وتقتيل الشعب الفلسطيني وإبادته حتى الانتهاء من عملية “القضاء على حماس” واستعمل حقّ النقض ضد مشروع قرار لمجلس الأمن وصوّت ضد قرار وقف إطلاق النار للجمعية العامة للأمم المتحدة واستخدم سلطاته لتمكين الكيان الصهيوني من دفعة جديدة من الذخيرة (14 ألف قطعة) لتدمير غزة.
فالاستراتيجية الأمريكية لا تخرج عن هذه الثوابت ولا تتعارض معها مطلقا وليست الانتقادات الأمريكية الأخيرة لحكومة نتنياهو غير تعبير عن خلافات جزئية وثانوية من جهة، ومناورة اقتضتها مصلحة الإدارة الأمريكية في ظل تصاعد الضغط الدولي والمحلي على قادة واشنطن الحاليين من جهة ثانية، وإعادة ترتيب للأمور استوجبته الحسابات الداخلية مع انطلاق الأطوار الأولى للسباق الانتخابي نحو البيت الأبيض بين بايدن وترمب العائد بقوة بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة من جهة ثالثة.