علي بنجدو – ناشط سياسي يساري مستقل
تمرّ تونس منذ انقلاب 25 جويلية 2021 بملامح أزمة سياسية مركبة بالغة التعقيد، طالت وغطت كل مظاهر وجوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية وأفرزت بالمحصلة وضعا اجتماعيا متوتّرا وحالة من اليأس والإحباط والقلق والتراجع في منسوب الثقة في مؤسسات الدولة ومنظومة الحكم خاصة بعد النجاح النسبي – المؤثر للشعبوية كنمط مستحدث للحكم محليا في ترذيل الحياة السياسية واستهداف مقوماتها وأسسها وبناءاتها وتشكيلاتها التنظيمية والطبقية وحصرها في مجال الفعل النخبوي والمحاولات المتكرّرة لإظهار المعارضة السياسية بكل تلويناتها الإيديولوجية (دون تمييز أو فرز) في صورة الأطراف العميلة والفاسدة والمورّطة في تعفين الوضع في البلاد.
هذه الأزمة بقدر ما هي أزمة وضع سياسي هي أيضا أزمة بدائل وأزمة منظومة حكم تعجز تماما على إدارة هذه الأزمة و تلجأ في غالب الأحيان إلى التغطية على هذا العجز إمّا بخطاب سياسي شعبوي ممجوج وهلامي أقرب في مضمونه إلى السفسطة والشعارات الغوغائية وعبارات التخوين والاتهامات المبطنة والصريحة أو بتحميل المسؤولية السياسية لأولئك الذين حكموا البلاد على امتداد الفترة التي عقبت الثورة رغم أن هؤلاء الذين يحكمون الآن هم جزء من تلك المنظومة وامتداد صريح لها سواء في الخيارات الاقتصادية الليبرالية المنتهجة أو في معالجة الأزمة وترحيلها إلى المستقبل ارتباطا بسياسة التداين واستقالة الدولة ذاتها من معالجة الأزمة الاقتصادية وما يترتب عنها من تداعيات اجتماعية (البطالة، الحوكمة الإدارية، الفقر، التهميش، الرفع التدريجي للدعم، غلاء الأسعار وندرة المواد الأساسية فضلا عن تغوّل الاقتصاد الموازي وغياب الرقابة الاقتصادية، أزمة الخدمات الاجتماعية في مستوى النقل والصحة والتربية…) أو في علاقة بارتباط الدولة التونسية باتفاقات اقتصادية خارجية تنسف سيادة الشعب على مقدراته وثرواته وتضيق مجال استقلالية سياسته الاقتصادية المحلية.
هذه الأزمة ليست وضعا قدريا تونسيا ولا هي قرار شعبي سيادي وإنما هي نتاج لسياسة دولة تشهر انتصارها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعب التونسي من جهة وتمارس على مستوى الفعل تضييقا على هذه الحقوق وتقيّد الحريات وتخضِعها لرقابة استبدادية تشريعا وقانونا وفعلا كما يتجلّى ذلك في المرسومين 54 و80 مع ما تبع ويتبع ذلك من ملاحقات قانونية ومحاكمات للنشطاء السياسيين والاجتماعيّين والنقابيّين بتعلّة التآمر على مصالح الدولة والمسّ من القيمة الرمزية والاعتبارية للذوات في الإدارات ومصالح الدولة ومراكز قوتها ونفوذها.
إن الزعم السياسي الرسمي لمن يحكم تونس بأن هذه الأزمة هي فقط حصيلة السنوات التي مضت والموروثة على ما اصطلح تسميته بـ”العشرية السوداء” فيه مجانبة للحقيقة ومحاولة لنزع المسؤولية على من يحكم الآن؛ فرغم الاتفاق على أن العشر سنوات التي تلت الثورة من حكم النهضة ونداء تونس ومن دعمهما أو تحالف معهما من اليمين والليبراليّين أحزابا وخبراء اقتصاد ومالية تمثل تكثيفا موضوعيا لجزء كبيرة من الأزمة الناتجة عن التداين الخارجي وتسديد الديون المستحقة على نظام بن علي وما تلاها بعد الثورة من عمليات نهب للمال العام وفساد وسوء تصرف من طرف من حكم طيلة العشرية السابقة، ورغم أن السياسات المالية والاقتصادية وسوء التصرف في الموارد المالية والسياسة الجبائية كانت معطيات أساسية في صناعة هذه الأزمة وإدارتها، فإن ذلك لا ينفي أن هذه السياسات ظلت هي ذاتها بعد انقلاب 25 جويلية، بل إن الأزمة اتخذت منحى أكثر عمقا وشمولية حيث أن الدولة في ميزانيّتي 2023 و2024 مثلا عجزت على توفير الموارد المالية الكافية لتغطية النفقات والالتزامات المستحقة رغم تصاعد وارتفاع حجم الضرائب ومعدلات النظام الجبائي على الأجراء والموظفين وأصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسطة والخدمات.
ورغم تعهّد الدولة باستعادة الأموال المنهوبة ووضع كثير من ممتلكات عائلة بن علي وأصهاره تحت التصرف القضائي وفرض قانون الصلح الجزائي لإدراج عائداتها المالية والربحية في دورة الاقتصاد والمالية العمومية فإن الدولة عجزت عن ذلك فلا هي استعادت الأموال المنهوبة ولا كانت قادرة على تأمين عائدات مالية مهمة بوضع الممتلكات المشار إليها تحت تصرف الدولة مثلما لم تحقق الأرقام المالية المأمولة من تطبيق الصلح الجزائي. كل هذه المعطيات يضاف إليها تسديد الديون الخارجية والداخلية وعدم الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية كالفلاحة وغيرها أدّى إلى ما يشبه وضعيّة العطالة والشّلل في القدرات المالية والاقتصادية للدولة وهو ما تكثّف وتوضْح بشكل ملموس في أرقام قانون المالية لسنة 2024 بعجزٍ قدره 1151.0 أي بنسبة 6.6 بالمائة رغم ارتفاع المداخيل الجبائية المباشرة وغير المباشرة التي بلغت في قانون المالية 44.050.0 وارتفاع نسبة الضريبة على الدخل الخاصة بالمرتّبات والأجور إلى 12.383.0 مع العلم وأن خزينة الدولة في قانون المالية لسنة 2024 مطالبة بتوفير ما قدره 28188 مليون دينار على سبيل الاقتراض الداخلي والخارجي.
كل هذه الأرقام تؤشّر على المستوى الاقتصادي التونسي إلى أن الدورة الاقتصادية تظلّ في النهاية في مواردها المالية مرتهنة لخيارات ليبرالية تراوج بين الاقتراض ورفع معدلات الجباية والنظام الضريبي مع الامتناع التام عن تبنّي منوال اقتصادي يحقق سيادة الشعب على ثرواته ومقدراته وينتج الثروة ويمنع التضخّم ويتحكّم في الأسعار ويخفّف من أعباء الجباية والضريبة ويخلق مواطن أخرى للتشغيل، وهذا ما سيؤدي بالضرورة إلى توسيع دائرة الفقر وارتفاع نسبة البطالة والرّفع التدريجي لدعم المواد الأساسية وتجميد الأجور.
إن هذه الأزمة في وجهيْها الاقتصادي والاجتماعي لا تُحيل فقط إلى عجز القائمين على الحكم في تونس ومسؤوليتهم السياسية الكاملة مؤسسات وأجهزة دولة على مجرّد رصد مواطن هذه الأزمة، بل تعني أيضا منح الضّالعين في الفساد والعبث بقوت الشعب وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية من اللّوبيات وأباطرة المال والأعمال والمتحيّنين كل الفرص الممكنة لتوسيع نفوذهم على ثروات البلاد وتكديس الأرباح خارج كل حدود الرّقابة والرّدع.
ومثلما أن هذه الأزمة تظلّ في النهاية محكومة بشروط اقتصادية وبمنظومة حكم هي ذاتها جزء من هذه الأزمة تشريعا وتنفيذا، فإن لهذه الأزمة نتائج اجتماعية تسايرها وتترتّب عنها، وهو ما يمكن ملاحظته ورصده لا فقط في ارتفاع نسب الفقر ومجالات التهميش الاجتماعي وارتفاع معدلات الجريمة وحالات الضّجر واليأس والإحباط وإنما أيضا في انتشار مزاج الخوف ومسايرة متطلّبات الحياة اليومية يوما بيوم. زد على ذلك ما نجحت فيه منظومة الحكم الشعبوية من إشاعة لثقافة تجريم الأحزاب وإلصاق أسباب الفشل في التعامل مع الأزمة وطرح البدائل بها كما لو أنّ هذه الأحزاب هي من تقوم على حكم تونس وهي المتسبّب الحقيقي في الأزمة العامّة التي تسود البلاد قبل انقلاب 25 جويلية وبعده.
إنّ هذه الأزمة تظل في محصلة أسبابها وتمظهراتها ونتائجها فعلا سياسيًّا مركّبا تطغى عليه وتحدّده سياسات دولة، دولة لم تستوعب بعد أن السياسات الخاطئة تؤدّي بالضرورة إلى نتائج خاطئة وأن المعالجة الحقيقية – الناجعة والعادلة لهذه الأزمة – لن تحصل مطلقا خارج دائرة مصالح الكادحين والمفقّرين أو ضدّها.
تونس، 11 ديسمبر 2023