الأستاذ محمود مطير*
تتغير المراحل ويتغير الرؤساء والحكومات ولكن السياسة الاقتصادية والاجتماعية من جهة والتوجهات المالية والجبائية من جهة أخرى في بلادنا لا تتغير. ولعل مشروع قانون المالية لسنة 2024 أكبر دليل حيّ على ذلك.
ورد بتقرير وزارة المالية المصاحب لمشروع قانون المالية في مقدمته أن هذا القانون يندرج في إطار مواصلة برنامج الإصلاحات الكبرى قصد استعادة توازنات المالية العمومية وذلك بـ:
– إرساء نظام يكرّس العدالة الجبائية ويدعم التصدّي للتهرب الجبائي وترشيد الامتيازات الجبائية
– تنشيط الدورة الاقتصادية واستعادة ثقة المستثمرين والتشجيع على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة
– تكريس الدور الاجتماعي للدولة
– دعم توازنات المالية العمومية
هل تحقِّق الإجراءات الواردة بمشروع قانون المالية فعلا هذه الأهداف؟
1- فيما يتعلّق بالعدالة الجبائية ودعم التصدي للتهرب الجبائي وترشيد الامتيازات الجبائية لا نرى أن الإجراءات الواردة بمشروع قانون المالية قادرة على تحقيق الأهداف المرسومة.
وحقيقة لا نجد أيّ إجراء يتعلّق بالعدالة الجبائية أو يتصدّى للتهرب الجبائية، بل على عكس ذلك فقد تمّ سنّ عفوٍ جبائيٍّ وهو ما يتنافى مع مبدإ العدالة، ويتعلق هذا العفو بالمعاليم العقارية الموظفة لفائدة الجماعات المحلية إذ سيتمّ التخلي عن المبالغ المثقلة بعنوان المعلوم على العقارات المبنية والمعلوم على الأراضي غير المبنية المستوجبة بعنوان سنة 2021 وما قبلها شرط دفع المعاليم المستوجبة بعنوان سنوات 2022 إلى 2024. كما تمّ في إطار نقاش مشروع القانون إضافة عفوٍ يتعلق بالخطايا الجبائية.
ونص مشروع القانون في باب مقاومة التهرّب الجبائي على إجراء تحت عنوان ترشيد الامتياز الجبائي الممنوح لاقتناءات الأراضي قصد بناء عقارات فردية معدة للسكن وذلك بحصر الانتفاع بالمعلوم التصاعدي في عملية واحدة. هذا الإجراء لا يمثل مقاومةٍ للتهرب الجبائي.
2- بخصوص تنشيط الدورة الاقتصادية واستعادة ثقة المستثمرين والتشجيع على تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة تعرّض مشروع قانون المالية لثلاثة محاور؛
ففي محور يتعلق بدعم قطاعات الفلاحة ورد إجراء يهدف إلى تخفيف جباية بعض المواد العلفيّة (القرط والسيلاج) وذلك بتكفل الدولة بنسبة من فوائد القروض وأقرّ تعزيز موارد صندوق النهوض بزيت الزيتون وصندوق النهوض بالصادرات وذلك بالترفيع من نسبة معلوم صندوق النهوض بزيت الزيتون المعلّب من 1 إلى 2 في المائة وإحداث معلوم بنسبة 4 في المائة من القيمة الديوانيّة على تصدير زيت الزيتون الخام غير المعلّب. كما أقرْ مشروع القانون تعزيز موارد صندوق تمويل الرّاحة البيولوجية من جهة وصندوق تعويض الأضرار الناجمة عن الجوائح الطبيعية.
وفي باب دعم الاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة نصّ المشروع على التشجيع على استعمال الطاقات البديلة والمتجدّدة والتشجيع على إنجاز أو تمويل المشاريع في مجالات الاقتصاد الأخضر والأزرق والدائري، ويتمثل التشجيع في تمتيع المؤسّسات ببعض الامتيازات الجبائية.
وأخيرا في باب دعم المؤسّسات الصغرى والمتوسطة وتشجيع الادّخار والاستثمار أقرّ المشروع إحداث خطّيْ تمويل مخصّصان لإسناد قروض متوسطة وطويلة المدى بمبلغ قدره 20 مليون دينار، وهو مبلغ ضئيل جدّا كما أقرّ مواصلة دعم تمويل الشركات الأهلية…
كل هذه الإجراءات لن تكون فاعلة في اقتصاد البلاد ومردوديّتها على التشغيل والتنمية عموما محدودة جدا.
3- في باب تكريس الدّور الاجتماعي للدولة نجد إجراءات في مشروع قانون المالية لا علاقة لها بهذا الدور، إذ لا نجد إجراءات تتعلق بالصحة أو التعليم أو النّقل أو التّشغيل…
نجد عكس ذلك إجراءات تثير الدهشة بل الضحك، إذ ما علاقة تخفيف جباية القهوة والشاي (تمكين الديوان التونسي للتجارة من اقتناء مشترياته بتوقيف العمل بالأداء على القيمة المضافة) أو دعم شركة اللحوم (تنازل الدولة عن ديونها لفائدة الشركة) بالدور الاجتماعي للدولة؟ ماذا يوفّر هذان الإجراءان للمواطن التونسي من فائدة اجتماعية؟
ونجد إجراء ثالث تمّ اعتباره ضمن تقرير وزارة المالية إجراء مكرْسا لدور الدولة الاجتماعي ويتعلق بدعم المنظومة القضائية (إحداث صندوق خاص في الميزانية لدعم تطوير المنظومة القضائية العدلية يُموَّل خاصة من معلومٍ على بعض الأعمال القضائية مثل الأذون على العرائض و… ) ونتساءل : ما علاقة دعم المنظومة القضائية بالدّور الاجتماعي للدولة؟
قد يكون الإجراء الوحيد الذي يدخل في باب الدور الاجتماعي للدولة ذاك الذي تمّ بموجبه إحداث خط تمويل على موارد الصندوق الوطني للتشغيل لفائدة الفئات الضعيفة. لكن المبلغ الذي سيُرصد لهذا الخط لا يتجاوز 20 مليون دينار وهو ما يجعل فوائده محدودة جدا.
أما الإجراءات المتعلّقة بإرساء آليات بديلة لتمويل نفقات الدعم فهدفها مالي أساسا، ذلك أن الدعم الموجود لم يطرأ عليه أيّ تغيير ولكنه في حاجة إلى تمويل، خاصة إذا لاحظنا منذ مدّة النقص الكبير في المواد المدعّمة (الحليب والسكر وفي بعض الأحيان الخبز…) وأسباب النقص مالية بحتة. وقد لجأ مشروع قانون المالية إلى توسيع مجال إتاوة الدعم ومراجعة نِسَبها :
– فتمّ الترفيع في نسبة الإتاوة من 1 إلى 3 في المائة بالنسبة للمطاعم السياحية المصنّفة والمقاهي المصنفة 2 و3 وقاعات الشاي. وتمْ توسيع ميدان تطبيق الإتاوة ليشمل المؤسسات السياحية التي تتولّى إيواء الحرفاء والحانات وصناعة المشروبات الغازية والجعّة والخمور والمشروبات الكحولية وذلك بنسبة 3 في المائة من رقم المعاملات خالٍ من الأداءات والمعاليم. كما تمّ الترفيع في نسبة الإتاوة من 3 إلى 5 في المائة بالنسبة للملاهي والنوادي الليليّة غير التابعة لمؤسسة سياحية والكباريات ومحلات صنع المرطبات مع استثناء المحلات التي تتولّى قصرا صنع بعض أصناف الحلويات التقليدية الشعبية.
– وتمّ مراجعة معلوم الإقامة بالنُّزل السياحية من دينار واحد إلى أربعة دنانير لليلة الواحدة بالنسبة للنزل من صنف 2 نجوم ومن دينارين إلى 8 دنانير بالنسبة للنزل من صنف 3 نجوم ومن 3 إلى 12 دينار بالنسبة للنزل من صنف 4 و5 نجوم وتوسيع ميدان تطبيق المعلوم ليشمل النزل السياحية المختصة في الإقامة وكل المحلات الأخرى المعدة للإيجار. ويطبق المعلوم على فترة إقامة لا تتجاوز 15 ليلة عوضا عن 7 ليال مع إعفاء الأطفال.
– وأخيرا تمّ إحداث معلوم على مشتقّات الحليب يتراوح بين دينار و500 مليم و3 دنانير الكيلوغرام للأجبان بجميع أنواعها المحلية والموردة.
هل ستحلّ هذه الإجراءات إشكاليّة دعم المواد الأساسية؟ لا نعتقد ذلك. هذه الإجراءات قد تخفّف جزئيا من الضغط على ميزانية الدولة وتبقى مشكلة الدّعم مرتبطة ارتباطا أساسيا بتطور الأسعار والقدرة على التحكم فيها وخاصة بتطور الأجور وبالتنمية عامة.
4- ورد في باب دعم توازنات المالية العمومية إجراءان: يتمثّل الأول في إحداث معلوم ظرفي لفائدة ميزانية الدولة ويتمثل الثاني في تحسين سيولة الخزينة.
ينص مشروع القانون على أن المعلوم الظرفي يتعلّق بسنتي 2024 و2025 ويستوجب على البنوك ومؤسسات التأمين وإعادة التأمين بنسبة 4 في المائة من الأرباج المعتمدة لاحتساب الضريبة على الشركات مع حدّّ أدنى بـ10 آلاف دينار. للعلم نلاحظ أن هذه المؤسسات تخضع حاليا لنسبة إضافية ظرفية على الضريبة على الشركات، ممّا يعني أن نسبة هذه الضريبة أصبحت تقدّر بما يزيد عن 40 في المائة. لقائل أن يقول : بما أن هذه المؤسسات وخاصة البنوك تحقّق سنويا أرباحا طائلة، لماذا لا يتمّ الترفيع في نسبة الضريبة بصورة نهائية في حدود 40 أو 45 في المائة ونتحاشى هذه الزّيادات الظرفية التي لا تتماشى ومبدأ الأمان والاستقرار القانوني من جهة، ونحقّق بذلك شيئا من العدالة الجبائية من جهة أخرى؟
كما ينصّ مشروع قانون المالية على إجراء يتعلّق بتحسين سيولة الخزينة وذلك من خلال التحويل لفائدة خزينة الدولة بصفة مؤقتة للأموال المجمّدة المودعة لدى البنوك بموجب قرارات أمميّة أو أحكام قضائية أو موضوع أبحاث إلى حين البتّ في القضايا المتعلقة بها وتمكين الدولة من التصرف في المبالغ المذكورة مع ضمان حقوق كل الأطراف.
هذا الإجراء منافٍ لمبدأ حق الملكية وحق التصرف فيها المطلق وهو الحقّ الذي ضمنته كل دساتير البلاد التونسية في كل العهود والمُضمّن بالقانون الدولي، ويمثّل ضرب هذا المبدأ في ظل القوانين الحالية استيلاء على أموال الغير دون موجب ودون حق (“غورة”) كما يبرهن على النزعة الهيمنية للدولة.
في النهاية، نرى أن الإجراءات الحبائيّة الواردة بمشروع قانون المالية لسنة 2024 تمثّل مواصلة لاختيارات قديمة وبالية وتتنافى تماما مع ما ورد بمقدّمة تقرير وزارة المالية المصاحب للمشروع، إذ وردت بالمقدّمة أهداف سامية وهامة مثل العدالة الجبائية والتنمية والاستثمار والتشغيل، لكن الإجراءات التي تعرّضنا إليها وغيرها، لم يتمّ ذكرها، غير قادرة على توفير التنمية والاستثمار والتشغيل والعدالة الجبائية… وعلى عكس ذلك، ستواصل بلادنا تحمّل أعباء أزمة مالية خانقة وسيواصل الاقتصاد انحداره وسيواصل الشّعب الجرْي والبحث عن رغيف خبز و”كيلو سميد” و”باكو” حليب و…
mtirmahmoud@yahoo.fr