تجري يوم الأحد 24 ديسمبر 2023 مهزلة انتخابية جديدة، مهزلة الانتخابات المحلية التي ستنبثق عنها لاحقا مجالس جهوية فمجلس وطني للأقاليم والجهات عن طريق القرعة لاستكمال الديكور الشعبوي الذي يعمل على تركيزه قيس سعيد لتثبيت حكمه الفردي الاستبدادي وإضفاء شرعية زائفة عليه. وغير خاف عن كل متابع للشأن العام أن هذه المهزلة تجري في وضع أزمة عامة وشاملة وخانقة. فالبلاد على حافة الإفلاس وعامة الشعب مهمومون بمشاكلهم اليومية من غلاء معيشة وبطالة وفقر وندرة مواد ضرورية كثيرة أو فقدانها بالكامل نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة التي تعصف بالبلاد. كما أنها تجري في مناخ سياسي سمته اتساع دائرة القمع وانتشار الخوف ممّا يذكّر بأيام الدكتاتورية الحالكة. إن معظم القيادات السياسية بمختلف نزعاتها الفكرية إمّا في الاعتقال أو ملاحقة قضائيا بتهمة “التآمر على أمن الدولة” أو بمقتضى المرسوم 54 سيئ الصيت. ولم يسلم من الملاحقة المحامون الديمقراطيون والقضاة المتمسكون باستقلاليتهم والذين يتعرضون لعملية ترهيب شاملة لتطويعهم. أمّا الإعلام فبعضه دُجّن بَعْدُ والبعض الآخر في طريقه إلى التدجين تكميما للأفواه وفرضا للصمت. وتتعرض الجمعيات والمنظمات وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل إلى التضييق بنيّة الإخضاع والتهميش.
وما من شك والحالة تلك أن المهزلة الانتخابية الجديدة لن تختلف عن سابقاتها من مهازل “الاستشارة الوطنية” و”الاستفتاء على الدستور” و”الانتخابات التشريعية” التي سجّلت نسب مشاركة ضعيفة جدا لا تكسِب نتائجها أيّة شرعية. إن غالبية القوى السياسية والمدنية لن تشارك في مهزلة يوم الأحد القادم وهي تدعو إلى مقاطعتها. أمّا عامة الناس فهم يقابلونها بلامبالاة تامة، وهو ما يؤشّر لنسبة مشاركة ضعيفة للغاية. لكن “سلطان” البلاد لا يعنيه ذلك، فالمهمّ بالنسبة إليه “إنجاز” هذه المهزلة الجديدة المضحكة/المبكية – حتى المترشحون لا يعرفون مهامهم وصلاحيّاتهم – لاستكمال ديكور نظامه الاستبدادي الجديد وقبر النظام السياسي المتولّد عن دستور 2014 وتصفية المكاسب الديمقراطية التي حقّقها الشعب التونسي وقواه الثورية والتقدمية. فكل هذه الهيئات والهياكل والمؤسسات المنصّبة عن طريق انتخابات شكلية أو عن طريق التّعيين لا معنى لها ولا معنى للأسلوب الذي وجدت به، فالسلطة كل السلطة ترجع في نهاية الأمر لقيس سعيد الذي نصّب نفسه حاكما مطلقا لا رقيب عليه ولا حسيب. وهو ما كان حزب العمال نبّه إليه منذ اللحظة الأولى لانقلاب 25 جويلية 2021. فالبلاد بصدد العودة، في ظروف جديدة وبأساليب جديدة أيضا، شعبوية، يمينيّة، محافظة، متطرّفة، إلى مربّع الاستبداد والدكتاتورية كإطار سياسي تتحقّق فيه مصالح الأقليات المحلّية الكمبرادورية من جهة والدول والشركات الرأسمالية الأجنبية من جهة ثانية.
إن حزب العمال يجدّد اليوم الدعوة إلى مقاطعة هذه المهزلة الانتخابية الجديدة. ولكن الأمر لا ينبغي بأيّ حال من الأحوال أن يتوقف عند هذا الحدّ. إن قيس سعيد ماض إلى الأمام في نهجه الاستبدادي القمعي. كما أنّه ممعن في تنفيذ خياراته الاقتصادية التي لن يجني منها العمال والكادحون والموظفون والنساء والشباب والفقراء غير المزيد من المِحن والمآسي. إنّ ميزانية 2024 التي أقرّها برلمان الدُّمى تغرق البلاد في اقتراض مفرط وغير مسبوق، داخلي وخارجي، وتفاقم البطالة وغلاء المعيشة والفقر والبؤس بما احتوته من إجراءات “تقشّفية” تصبّ رأسا في خانة إملاءات المؤسسات المالية الدولية وتفنّد شعارات قيس سعيد حول “الاعتماد على الذات” و”خدمة مصالح الطبقات والفئات الفقيرة”. وهو ما لا يترك أمام الشعب التونسي سوى مخرج وحيد وهو النضال ضدّ هذا النظام الاستبدادي، الدكتاتوري الجديد لإلحاقه بنظام بن علي وتجاوز المنظومة التي حكمت البلاد بعد الثورة (حركة النهضة ونداء تونس خاصة) وأدارت الظهر لمطالب الشعب وعفّنت الوضع العام وفتحت الطريق أمام وصول قيس سعيد إلى الحكم مستندا إلى “الأجهزة الصّلبة” الأمنية والعسكرية والبيروقراطية الإدارية التي تعادي أيّ منحى ديمقراطي شعبي.
إن الشعب التونسي مدعوّ إلى الاستلهام من ثورته التي يحيي هذه الأيام ذكراها الثالثة عشرة في وضع قاتم يتّسم بتراجع التعبئة وانتشار روح الإحباط والاستقالة رغم بؤر المقاومة الموجودة هنا وهناك والتي ستتوسّع مع الوقت. إن فترات الجزر هي من أصعب ما تمرّ به نضالات الشعوب ولكنها تبقى قادرة دائما على تجاوزها. إن حزب العمال الذي كان قبل 13 سنة إلى جانب الشعب في ثورته هو اليوم أيضا إلى جانبه وهو لن يدّخر جهدا للإسهام في عملية نهوض الحركة من جديد وتسليحها بالوعي والتنظيم اللازمين مستفيدا من أخطاء التجارب السابقة ونقائصها. فلنقاطع المهزلة الجديدة ونعدّ العدّة لطور جديد من ثورتنا، طور أرقى من سابقه وقادر هذه المرّة على تحقيق ما لم يتحقّق خلال الطور الأول الذي أجهضته القوى الرجعية في الداخل والخارج. لندافع عن مكاسبنا في حرية التعبير والإعلام والتنظيم والتظاهر، ولنتصدّى لسياسة التفقير والتجويع ورهن بلادنا بالكامل للأجنبي ونعيد بناء حركتنا النضالية الشّعبية خطوة خطوة متحدي الصفوف، مذللين المصاعب، متجاوزين روح الإحباط واليأس والخوف التي تبثها القوى الرجعية وعلى رأسها حاليا اليمين الشعبوي المتطرّف. ليس أهم اليوم من الإيمان بعدالة حقّنا، شعبا ووطنا، في الشغل والحرية والكرامة الوطنية. إن كلّ ليل يعقبه صباح…