جيلاني الهمامي
يقترن تاريخ الاحتجاج الشعبي في تونس بفصل الشتاء. ففي هذا الفصل جدت الغالبية العظمى من الاحتجاجات الشعبية الكبرى التي سجلها تاريخ تونس المعاصر. فمنذ بداية القرن الماضي وبداية ظهور الحركات الاحتجاجية الشعبية او العمالية او الشبابية غالبا ما كان توقيتها يتزامن مع حلول فصل الشتاء. ولئن كان ذلك يجري عامة بشكل عفوي ولكن أن يحدث ذلك أكثر من مرة لا شك أن في الامر حكمة. فهذا الفصل هو أكثر فصول العام قساوة على الفقراء والكادحين. فالبرد وتقلبات المناخ وندرة المواد الأساسية وصعوبات العيش والتنقل كلها من العوامل المثيرة للغضب والاحتجاج.
فبعد انقضاء فصل الصيف، فصل الراحة والاصطياف بالنسبة الى البعض وفصل الافراح بالنسبة الى البعض الاخر وبعد انتهاء فصل الخريف وموسم زرع الحبوب، أي بعد أن يكون التونسيون قد صرفوا ما لديهم في هذا وذاك من الاستحقاقات يجدون أنفسهم وجها لوجه مع مصاعب العيش وشدائد الظروف وتضيق عليهم فسحة التحمل وكما يقول ابن ابي الضياف تميل نفوسهم الى السخط والغضب مما يلحق بهم.
ومنذ عشرات السنين باتت نهاية السنة الإدارية، شهر ديسمبر (الذي يصطلح عليه في الأوساط الفلاحية بـ”دوجمبر الاصم”) تقترن بإعلان السلطة عن إجراءات جبائية وإدارية جديدة عامة ما كانت مستفزة وتتضمن تعديات إضافية على لقمة عيش الفقراء والمحتاجين. وقديما (أي في عهد البايات) كانت هذه المدة موعد خروج المحلة لجمع المجبى في الوسط والجنوب بما يجري خلالها من اعمال نهب واضطهاد لسكان الريف خاصة.
نبدأ في استعراض سلسلة الاحتجاجات والنضالات الشعبية من النضالات العمالية شتاء 1924 – 1925 تحت راية “جامعة عموم العملة التونسية” النقابة التونسية المستقلة عن النقابات الاستعمارية والتي ولدت من رحم أضرابات عمال الرصيف. عاشت تونس على وقع تصاعد نشاط محمد علي الحامي ورفاقه من أجل بعث النقابة العمالية المستقلة “جامعة عموم العملة التونسية” والصراع القوي من أجل فرض حقها في النشاط بدءا من الاجتماع العام التأسيسي للجامعة يوم 12 جانفي 1924 مرورا بإضراب عمال مقطع الحجر بحمام الانف والسدرية (بوتنفيل آنذاك) وصولا الى ما ساد البلاد من احتجاج قال عنه رئيس اتحاد النقابات الفرنسية في تونس “إن تونس في هياج سياسي مخطر تتحفز به للثورة ضد فرنسا… وذلك بقصد مقاومة الإصلاح المؤمل إنجازه لفائدة التونسيين”، كما جاء في كتاب الطاهر الحداد (العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية) ص 233”.
وكانت هذه الحركة النضالية انتهت للأسف بحملة قمعية طالت المثير والكثير من القادة والمناضلين الذي منهم من زج به في السجن ومنهم من تم نفيه الى الخارج واتخذت قرارات بمنع النشاط النقابي والسياسي استمر حتى بداية الثلاثين من القرن الماضي.
بعد حوالي عشرين من ذلك وسلسلة أخرى من الاحتجاجات والنضالات عرفتها سنوات الثلاثينات، شهد شتاء سنة 1946 تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل كتتويج لعمل دؤوب استغرق أشهرا جرت خلالها اتصالات واعمال تنسيق كثيرة ومتنوعة اثمرت انبعاث اتحاد نقابات الجنوب ثم وعلى غرارها اتحاد نقابات الشمال. لم يكن ميلاد المنظمة الشغيلة الجديدة مجرد عملية تنظيمية إدارية شكلية بقدر ما جاءت في سياق حراك اجتماعي قوي جسم الدينامية التي سرت في المجتمع التونسي ببصمة طبقية عمالية واضحة. وعلى عكس كل المحاولات السابقة كللت هذه المحاولات بالنجاح لأسباب كثيرة ومتنوعة ومعها انفتح امام النضال الوطني والاجتماعي في تونس أفق يزخر بالأمل.
في بداية الخمسينات تصاعدت نضالات الشعب التونسي ضد المحتل الفرنسي فجيء بمقيم عام جديد عسكري فاشستي (Jean de Haute Cloque) منع الاجتماعات وواجهها بالحديد والنار فسقط عشرات القتلى والجرحى (تونس ومنزل بورقيبة ونابل وماطر الخ…) وقام بحملة اعتقال واسعة شملت أكثر من 150 مناضل من الدستوريين والشيوعيين والنقابيين فمرت الحركة الوطنية من النضال السياسي السلمي الى اعلان الكفاح المسلح يوم 18 جانفي 1952.
وكان لهذا التحول النوعي في النضال ضد المستعمر دور كبير في تحسين شروط التفاوض بين المستعمر وقيادة الحركة الوطنية التي بدأت تخطط لتسوية معه جسمتها اتفاقيات ما سمي آنذاك “الاستقلال الداخلي” واتفاقية 20 مارس 1956.
على صورة هذه الاتفاقيات انتصبت سلطة محلية مستقلة من الناحية الشكلية ولكنها تابعة وعميلة لفرنسا وللعالم الغربي بشكل عام في ظل الانقسام الذي كان عليه العالم فيما يعرف بالصراع شرق/غرب والحرب الباردة بينهما. وقد اتبعت هذه السلطة خيارات اقتصادية واجتماعية أدت الى سلسلة من الازمات الحادة من أبرزها أزمة 26 جانفي 1978، وهي واحدة من أكثر الاحداث دموية في تاريخ تونس المعاصر وبالخصوص يوم الاضراب العام الذي شنه الاتحاد العام التونسي للشغل ردا على سياسة النظام البورقيبي وحكومة الهادي نويرة القمعية. ومع اعلان الاضراب العام الذي تجاوز حدود توقف مؤسسات الإنتاج عن العمل الى عصيان مدني كامل شمل كل أوجه الحياة تقريبا واجهته حكومة غلاة القمع باستعمال الجيش ولأول مرة في تاريخ تونس “المستقلة” الامر الذي خلف مئات الشهداء وآلاف الجرحى. كانت مواجهة 26 جانفي برهنت على عودة الطبقة العاملة التونسية لحلبة الصراع الطبقي في لحظات تفجره. ذلك ان حالة التوتر الاجتماعي السافر كان وضع وجها لوجه العمال بقيادة منظمتهم النقابية وقد انحازت اليها بقية فصائل الحركة الشعبية وتعبيراتها السياسية والثقافية (الطلبة والنخبة المثقفة) من جهة والحكومة ونظام الحكم ككل من الجهة المقابلة.
ورغم إغراق تلك الانتفاضة العمالية في الدم فإن وهج شتاء سنة 1978 ظل ولفترة طويلة مبعث طاقة وحرارة للحركة الاجتماعية والديمقراطية في تونس.
بعد سنتين من ذلك أفاقت تونس يوم 27 جانفي 1980 على مواجهة مسلحة في قفصة بين قوات الجيش ومجموعة من الثوار الشبان العائدين من ليبيا تسللوا الى المنطقة ليعلنوا انطلاق تمرد مسلح ضد نظام الحكم الذي كان يتخبط في ذيول أزمة 26 جانفي. ومرة أخرى كان الشعب التونسي على موعد مع فصل شتاء ساخن انشدت فيه الآذان إلى “إذاعة هنا قفصة” والتسريبات والاشاعات حول ما يجري في تلك الربوع. وبطبيعة الحال لم يكتب لهذه الحركة التي تم التخطيط لها خارج تراب الوطن وبمعزل عن ديناميك الحركة المحلي وجاءت كحركة فوقية مسقطة على الوعي العام الذي مازال يتجرع خيبة المحاولات السابقة، لم يكتب لها النجاح وماتت بحبل المشانق التي نصبها لها بورقيبة ونظامه.
ولم تكن سياسة الانفتاح التي جاء بها الوزير الأول الجديد محمد مزالي خلفا للهادي نويرة الذي أصيب بالشلل جراء “عملية قفصة” وأجبر على التنحي عن منصبه، كفيلة بأن تضمن الاستقرار لأنها فشلت هي الأخرى في حل الازمة التي كان يعاني منها المجتمع التونسي. كان النظام استبدل سياسة القمع والتشدد ورموزها مثل الهادي نويرة ومحمد الصياح وعبدالله فرحات وغيرهم بسياسة “الانفتاح” والديمقراطية برموز جدد بقيادة محمد مزالي الوزير الأول الجديد ولكن هذا “التغيير” ظل مجرد مناورة لا غاية لها غير محاولة تغيير الواجهة دون المساس بجوهر سياسة الاستغلال والتفقير والتجويع والقهر والقمع والظلم. لذلك افضى مسار مراكمة عوامل الغضب والانفجار الى ما اسمي آنذاك “ثورة الجياع” أو “أحداث الخبز” وذلك في شتاء 1984 وبالتدقيق ما بين 31 ديسمبر 1983 و6 جانفي 1984.
اندلعت الاحتجاجات في مدينة دوز بالجنوب وانتشرت بسرعة اللهب في كامل انحاء البلاد حتى بلغت الاحياء الشعبية بالعاصمة. وتخللت هذه الاحداث التي مست كل المدن التونسية تقريبا مواجهات بين الشباب العاطل والمفقر والمحروم وقوات البوليس. واستنجد النظام البورقيبي مرة أخرى بالجيش لفرض الهدوء ولكنه فشل في ذلك مما أجبر بورقيبة على الخروج ليقدم لعشرات الالاف من الشبان الذي تجمهروا أمام قصر قرطاج تنازلا عبر عنه في قولته الشهيرة “نرجعو وين كنا” وسلّ بذلك فتيل الازمة بعد أن ألغي قرار الزيادة في أسعار الخبز ومشتقات الحبوب الذي كان سببا في تلك الانتفاضة الشعبية العارمة.
لقد تم الالتفاف على الرد الشعبي القوي بمناورة جديدة عبر تنازل قدمه بورقيبة لكن وما ان هدأت الأوضاع بعد أيام قليلة حتى عادت آلة القمع للعمل من جديد فانطلقت حملة انتقام في حق شباب الاحياء الشعبية فامتلأت السجون بالآلاف منهم وانتصبت المحاكم لتحكم على البعض منهم بالإعدام. وعاد مسار مراكمة الغضب الشعبي وبدأت ترتسم في الأفق ملامح هزات قادمة خصوصا وقد بلغ نظام بورقيبة درجة من الاهتراء والانخرام لم يبلغها من قبل.
وقبل أن يحصل ما لم تكن المنظومة ترضاه سارع بن علي لإنقاذ الموقف فقام بانقلاب 7 نوفمبر وإحالة بورقيبة على التقاعد الاجباري واستحوذ على الحكم ليستمر فيه أكثر من عشريتين، يسوس البلاد بعصا القمع والاستبداد بعد أن جر الغالبية العظمى من فعاليات نضال الشعب التونسي الى مستنقع الولاء لنظامه وبعد أن دجن كل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تقريبا الا القلة القليلة التي حافظت عن استقلالها عنه وفرضت حقها في النضال ضده ومعارضته برغم حالة الحصار شبه التامة.
ولئن خمدت حركة النضال ظرفيا لبضعة سنوات فإنها في الحقيقة لم تمت. فما أن نضجت شروط نهوضها من جديد حتى اندلعت حركة الحوض المنجمي شتاء سنة 2008.
انطلقت أحداث الحوض المنجمي على إثر الإعلان عن نتائج مناظرة شركة فسفاط قفصة لانتداب أعوان وموظفين وكوادر. انطلقت هذه الاحداث يوم 4 جانفي 2008 من مدينة الرديف ثم سرعان ما انتشرت لتشمل بقية مدن الحوض المنجمي أم العرائس والمتلوي والمضيلة. وكانت في ظاهرها ردة فعل على ما اعتبر تجاوزات في عملية توزيع الوظائف موضوع عملية الانتداب. ولكنها في الحقيقة كانت تعبير عن انفجار ما اختزنته الجماهير الشعبية في تلك الجهة من احتقان. وما مسألة التجاوزات في المناظرة غير قادح مباشر لتلك الانتفاضة. وليس ادل على ذلك من الانخراط الكلي والشامل لعموم سكان مدن الحوض المنجمي في الاحتجاجات الجماهيرية العارمة التي تحدت قمع نظام الحكم. وبمر الزمن انتقلت المطالب المرفوعة من مجرد المطالبة بمواطن شغل عبر مناظرة الى المطالبة بحق الجهة في التنمية وثمار التنمية وبحقها في الحرية والعدالة الاجتماعية. وقد كان لانخراط النقابيين ومناضلي الاحزاب السياسية والتيارات اليسارية الدور الفعال في تحول الحركة من مجرد حركة مطلبية الى انتفاضة ذات أبعاد أعمق وأشمل.
لقد واجه النظام كعادته تلك الانتفاضة بالحديد والنار فسقط عدد من الشبان شهداء المطالبة بحقهم في “الشغل والحرية والكرامة الوطنية” واقتيد عدد آخر منهم الى المحاكم والسجون.
لقد دامت الانتفاضة ستة أشهر كاملة تلتها أحداث مماثلة في بن قردان والصخيرة وبوسالم وفريانة وكانت كلها من الممهدات التي عبدت الطريق لما ستشهده تونس شتاء 2010 – 2011.
إنها ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 التي انتهت بسقوط الدكتاتوريّة وهروب بن علي وبداية مرحلة جديدة في تاريخ تونس. إنها الانتفاضة الظافرة التي جسمت إصرار الشعب التونسي على المحاولة المرة تلو الأخرى، جيلا بعد جيل، من اجل إسقاط النظام وتجسيد الشعار الذي لخص هذا المسعى الممتد على مدى عقود من الزمن “الشعب يريد اسقاط النظام”. وكان له فعلا ما أراد.
ونلاحظ مما سبق تبيانه “فضل” فصل الشتاء على الشعب التونسي، أو بعبارة أخرى شريط النضال الطويل من أجل الشغل والحرية والكرامة الوطنية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم والازدهار الذي كان إطاره على الدوام فصل الشتاء الذي دوّن بالبنط العريض ملاحم شتاء الغضب.