أعلنت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” أن نسبة المشاركة في انتخابات المجالس المحلية يوم الأحد 24 ديسمبر 2023 قد بلغت 11،66 % من مجموع الناخبين المسجلين والذي يبلغ عددهم تسعة ملايين و80 ألف ناخب. وكما هو ملاحظ فإن هذه النسبة الهزيلة لا تشذّ عن القاعدة التي ثبّتتها العمليات الانتخابية و”الاستشارات” التي دُعي إليها الشعب التونسي في عهد قيس سعيد وخاصة بعد انقلاب 25 جويلية 2021.
فبعد الاستشارة الالكترونية الأولى التي شارك فيها 534 ألف ناخب فقط من جملة 7 ملايين و200 ألف أي بنسبة لا تزيد عن 7,5 %، وبعد الاستفتاء المهزلة يوم 25 جويلية 2022 حول تنقيح الدستور والذي بلغت نسبة المشاركة فيه 27 %، وبعد الانتخابات التشريعية الأخيرة التي تمّت على دورتين (الأولى يوم 17 ديسمبر 2022 والثانية يوم 29 جانفي 2023) وكان معدل نسبة المشاركة فيها حوالي 11،5 % وبعد الاستشارة المضحكة حول إصلاح التعليم والتي لم تلق اهتماما من الفئات المعنية ولم يشارك فيها إلا 600 ألف مواطن غالبيتهم العظمى من الأطفال من الأعمار 12 – 15، بعد كل هذه السلسلة من النسب الهزيلة تنضاف نسبة المشاركة في انتخابات المجالس المحلية لتؤكد حالة العزوف الشعبي وخاصة في أوساط الشباب وانعدام الاهتمام بمسار تغيير النظام السياسي في البلاد. فما هي دلالات هذه النِّسب؟ وما هي أسبابها؟
سياق انتخابي في سياق سياسي
تندرج هذه العمليات الانتخابية ضمن مسار سياسي كامل يهدف إلى تقويض النظام السياسي والإداري الذي وضعه دستور جانفي 2014. فمنذ أن جاء قيس سعيد للرئاسة لم يخف نيّته في مراجعة هذا النظام وتعويضه بنظام جديد يتوافق مع ما كان بشّر به من قبل. وقد شنّ حملاته لترذيل خصومه ومعارضيه وكل القوى والمؤسسات التي يمكن أن تفسد عليه حساباته ومضى في الإعداد للهجوم على مؤسسات الحكم القائمة حتى حانت الفرصة ليعلن تعليق العمل بالبرلمان. كان ذلك الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل. فقد تبعت هذه الخطوة خطوات أخرى متتالية انطلاقا من المرسوم 117 (سبتمبر 2021) وصولا إلى انتخابات المجالس المحلية (ديمسبر 2023) مرورا بالمحطات الانتخابية التي أتينا على ذكرها أعلاه وترسانة المراسيم وقرارات حلّ الكثير من المؤسسات الأخرى مثل المجلس الأعلى للقضاء وهيئة الانتخابات وهيئة الحقيقة والكرامة والمجالس البلدية، الخ…
عملية الهدم هذه وما رافقها بصورة متوازية من “تأسيس” لمؤسسات من نمط جديد هو الطريق النموذجي الخاص بقيس سعيد في بناء دولة الاستبداد والحكم الفردي. وهو الآن في الأمتار الأخيرة من هذا المسار حتى وإن كان مسارا فاقدا للشرعية ويفتقد لأبسط درجات التمثيل لدى جماهير الشعب. ومع ذلك فقد أقدم على هذه الخطوة لأنه مصمّم على إضعاف السلطة المحلية وتشتيتها بعد أن أعلن عن حل المجالس البلدية قبل حتى نهاية مدتها النيابية، وماض في استعمال المجالس المحلية كأساس لنظام البناء القاعدي وجعلها هي الأخرى أداة طيّعة في يد السلطة التنفيذية.
ولم يبق أمامه سوى مزيد “تجريف” الساحة و”تطهيرها” تماما من كل الوجوه والقامات التي تستطيع أن تشوّش عليه حفل اعتلاء كرسي الامبراطور في انتخابات رئاسية القادمة التي من الممكن أن تجري في موعدها كما يمكن أن يقع تأخيرها ولو تأخيرا طفيفا إذا اقتضى الأمر ذلك.
فبركة وترقيع
جرت انتخابات المجالس المحلية في غياب إطار قانوني واضح ينظمها. وحيال الانتقادات المتداولة في هذا المضمار برّرت أبواق الدعاية الرسمية الوضعية بالاستناد إلى القانون عدد 87 لسنة 1994 الذي ينص في فصله الأول عن “إحداث بكل دائرة معتمدية مجلس استشاري يطلق عليه تسمية المجلس المحلي للتنمية” وينصّ في فصله الثاني : “يتركب المجلس المحلي للتنمية الذي يرأسه معتمد المنطقة من : رؤساء البلديات أو رؤساء الدوائر البلدية ورؤساء المجالس القروية بالمعتمدية وعمد المناطق الترابية بالمعتمدية وممثلين عن المصالح الجهوية الراجعة بالنظر للإدارات المدنية التابعة للدولة والمؤسسات العمومية ويمكن لرئيس المجلس استدعاء كل من يرى فائدة في حضوره”. أمّا عن دور هذه المجالس وصلاحياتها فقد جاء في الفصل الثالث من القانون 87 لسنة 1994 ما يلي : “ينظر المجلس المحلي للتنمية في كل المسائل المعروضة عليه من طرف رئيسه والمتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية بدائرة المعتمدية. يتولى خاصة : إبداء الرأي في البرامج والمشاريع المحلية للتنمية وتقديم اقتراحات في خصوص ضبط الأولويات والبرمجة لضمان مزيد من التنسيق والتكامل بينها، والمساهمة في إعداد وتنفيذ البرامج المتعلقة بالنظافة والعناية بالبيئة وبرامج المحافظة على الطبيعة وترشيد استغلال الموارد الطبيعية والمحافظة عليها وحمايتها، وتنظيم أيام تنموية محلية يقررها الوالي، والمساهمة في إعداد المخطط الجهوي للتنمية فيما يخص دائرة المعتمدية، ويرفع المجلس المحلي للتنمية إلى الوالي تقارير دورية تتضمن مقترحاته وتوصياته حول جميع المسائل المعروضة عليه. ويمكن للوالي إحالة تلك التقارير إلى الوزارات المعنية”.
وفي ردود أخرى اعتمدت دعاية الحكومة وهيئة الانتخابات المنصّبة المرسوم عدد 10 لسنة 2023 المتعلق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم كمرجع قانوني كافي لتبرير التعجيل بتنظيم انتخابات لهذه المجالس فيما لم يقع توفير الإطار القانوني اللازم. غير أن هذا المرسوم الذي خصّص ستة فصول للمجالس المحلية (القسم الأول : الترشح لعضوية المجلس المحلي) وبعض الفصول في البابين الأول والثاني المتعلقين بالأحكام العامة وتتعلق كل هذه الأحكام بكل ما يهم العملية الانتخابية ولم تقل كلمة واحدة بخصوص صلاحيات المجالس المحلية. لذلك فإن هذه الأحكام وغيرها (جانب من المرسوم 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر 2022 المنقح للقانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلق بالانتخابات والاستفتاء) لم تعالج الفراغ القانوني بخصوص تركيبة المجلس المحلي وصلاحيات أعضائه المنتخبين وغير المنتخبين. فمن غير المعروف ما إذا سيقع التمسك بما جاء في قانون سنة 1994 على أن المجلس المحلي للتنمية هو هيئة استشارية أم سيكون هيئة ذات سلطة تقريرية. ومن غير الواضح أيضا ما إذا سيكون الدور التقريري للمجلس حِكرا على الأعضاء المنتخبين فقط. العديد من الأسئلة مطروحة في ضوء الفوضى القانونية والغموض الناجم عن التناقضات التي خلقتها الأحكام القانونية القديمة وخصوصا القانون 87 لسنة 1994 ومراسيم قيس سعيد.
من جانب آخر، سيقع اعتماد تقنية القرعة لاختيار عضو بكل مجلس محلي من ذوي الإعاقة وهي طريقة لا تتفق مع مفهوم التمثيل الذي يفترض أن يكون عليه المجلس المحلي والذي (أي التمثيل) لا يستمدّ دون اعتماد آلية الانتخاب والاقتراع الحر والسري. ونفس هذه التقنية ستعتمد أيضا لاختيار أعضاء المجلس الجهوي من بين أعضاء المجالس المحلية في الجهة. جاء في الفصل 21 من المرسوم 10 لسنة 2023 بتاريخ 8 مارس 2023 “يتمّ تنظيم قرعة بين الأعضاء المنتخبين بالمجلس المحلّي لعضويّة المجلس الجهوي تحت إشراف الهيئة”.
وقد أرسي الفصل 22 من ذات المرسوم مبدأ على درجة من الغرابة وهو التناوب على عضوية المجلس الجهوي بين أعضاء المجلس المحلي الأمر الذي سيخل باستقرار هذه الهيئة الجهوية وسيعطل استمرارية عملها ونجاعته في تناول الملفات ومتابعتها. ينص هذا الفصل 22 على ما يلي “يقع التناوب لعضويّة المجلس الجهوي بين الأعضاء المنتخبين بالمجالس المحلّية، بالقرعة كلّ ثلاثة أشهر. لا يُشارك في القرعة عند التّناوب العضو الذي مثّل المجلس المحلّي للمدّة السابقة”.
فراغ جماهيري من حول العملية الانتخابية
مرة أخرى تجري العملية الانتخابية في ظل لا مبالاة تامة من طرف الناخبين وعموم التونسيات والتونسيين رغم ما تمّ تسخيره من إمكانيات مادية ولوجستية لفائدتها ورغم الجلبة الدعائية والإعلامية حولها ورغم الهرسلة اليومية للناخبين عبر الإرساليات الهاتفية القصيرة. والحقيقة أن مجمل مسار هذه الانتخابات منذ بدايتها إلى نهايتها مرّت في صمت ولم تسترع اهتمام المواطنين بالمرّة. فلا عملية التسجيل ولا عمليات التثبت منه ولا عملية الترشح ولا التصويت شهدت اهتماما أو مشاركة تذكر. لقد تولّت الهيئة (بمقتضى القانون الانتخابي) عملية التسجيل الآلي للناخبين ولم تشهد عملية الترشح إقبالا ولم تتميز هذه الانتخابات بتنافس من أيّ درجة كانت. وأخيرا عرفت صناديق الاقتراع فراغا على مدى كامل يوم الاقتراع نتيجته النسبة الضعيفة التي اعترفت بها هيئة الانتخابات.
فأن تكون نسبة المشاركة بحسب هيئة الانتخابات في حدود 11،66 % يعدّ في حد ذاته “إنجاز”، ذلك أن شكوكًا جديّة تحوم حول صحة هذه النسبة، ويجمع كل الذين تابعوا هذه الانتخابات عن قربٍ أنها أقل من ذلك بلا شك. وأن يقع الترفيع فيها لاحقا إلى 11،84 % فهي عملية تعوّدنا بها من قبل، إذ سبق لهيئة الانتخابات المنصبة أن عمدت إلى الترفيع في نسب المشاركة بتضخيم الأرقام للتغطية على الفشل وعلى انعدام المصداقية والشرعية لعملية انتخابية قاطعها الناخبون بشكل تلقائي.