شريف خرايفي
منذ سنتين أقدم رئيس الدّولة على إعلان يوم 17 ديسمبر من كلّ سنة “عيدا رسميّا” ووحيدا للثورة المجيدة، نافيا بذلك أيّ رمزيّة ليوم 14 جانفي، ذكرى فرار الجنرال الدكتاتور زين العابدين بن علي. بل أصدح مرّة في مرّةٍ أنّ هذا اليوم (14 جانفي) هو بداية الانقضاض على الثورة و”الإلتفاف” عليها. فهل كان وفيّا لوصايا الشهداء الذين عمّدوا بأرواحهم الطاهرة ودمائهم الزكية طريق الحرية؟
المحرومون والمهمشون : وقود الثورة وقادتها
ليس الأمر صعبا في تتبّع الإرهاصات الأولى للثورة. لم يكن الأمر يتطلّب أكثر من أن يشعل شابّ، الشهيد محمد البوعزيزي، التاجر المتجوّل في إحدى مدن الدّاخل المهمّش، نفسه لكي تشتعل من بعده كل مدن البلاد، طولاً وعرضًا، بل وتمتدّ ألسنة لهيب هذا التمرّد إلى دول، بعضها في الجوار، وبعضها في أقاصي الدنيا.
الأمر غاية في البساطة : الشاب الذي أحرق نفسه، بعد أن اعتدت عليه عون الشرطة البلدية بشكل مهين، ثمّ أغلق مسؤول السّلطة الجهوية في وجهه إمكانية التظلّم وردّ الاعتبار، هذا الشاب هو نموذج لآلاف من شباب تونس الذين عانوا “الحقرة” والظّلم والحيف، فيختار بعضهم الصمت كمدًا، ويختار البعض الآخر معاقرة “الممنوعات” ليحلّق بعقله إلى غير هذا الواقع الذي يعيشه، ويختار بعضهم الهروب في مغامرة مجهولة المصير، إلى ما بعد البحر، نحو أوروبا، فيما يختار بعضهم، وهم كثر أيضا، أن يسارع بسكب بنزين أو مادّة حارقة، ويقدح نفسه ويتحوّل رمادا.
هذه المرّة، حادثة البوعزيزي، لم تكن كسابقاتها. “لقد بلغ السّيل الزّبى”، بل لقد “فاضت الكأس”، ولم يعد الصّمت والتجاهل ممكن. فكان ما كان، وحدث ما حدث.
إنّ الذين انخرطوا في الثورة منذ الساعات الأولى، هم بلا شكّ عشرات، فمئات، ثم آلاف من “البوعزيزي”، طالتهم البطالة والتهميش والإقصاء والتهميش.. أغلبهم يئنون تحت وطأة الحرمان والعوز، آمالهم شاخصة نحو غد أفضل يحقّقون فيه الشغل دون وساطة أو تملّق، يعالجون أمراضهم المزمنة منها أو الطّارئة دون تنكيلٍ، ويَدرسون ويُدرّسون ذويهم في ظروف آمنة ومريحة تحقّق التكافؤ في فرص النجاح والارتقاء، يتنقّلون في حياتهم اليومية دون انتظار ساعات للحافلات، يؤمّون دُور الثقافة والترفيه في كلّ أمكنة البلاد، بما فيها أريافها ودُشُرها وبأسعار في المتناول، يأكلون ممّا تزرع أيديهم وبما تنبته أراضيهم الطيبة المِعْطاء.. وكثيرة هي أمانيهم وآمالهم. هم طبعا حملة الأمل نحو غدٍ مشرق وزاهر وآمن..
هم الفئات المتنوّعة والمختلفة من السّواد الأعظم من الشعب، هم المعطّلون والمهمّشون، طلبة الجامعات والمثقفون، أصحاب المِهن الحرّة وصغار الفلاحين والصناعيين والتجّار الذين عانوا الأمرّين من سطوة أصهار الرّئيس ومقرّبيه وخدمه وقوّاده وقيّاد حزبه المشؤوم..
إلى كلّ هؤلاء، ينظاف طيف واسع من المبدعين والفنانين والنقابيين الديمقراطيين والتقدميين وكلّ المتطلّعين إلى الحرية والتحرّر، بعد أن عانوا عقودا من الحيف والقمع والتّنكيل وتكميم الأفواه.. كلّ هؤلاء اندفعوا بكلّ قواهم وبكلّ كفاحية ودون حسابات في مواجهة حزب الدّستور وترسانة بوليسه وكلّ أجهزة قمعه.. وصنعوا تلك الملحمة الخالدة.
الجهات والثورة
من المهم التذكير أنّ الثورة انطلقت من أكثر الجهات فقرا وتأخّرا في مستوى التنمية. فمهدها، سيدي بوزيد، وكذا جارتها القصرين، يتذيّلان ترتيب المناطق الأكثر تهميشا. أمّا المدن التي تلقّفت الحدث منذ بداياته الأولى، القيروان، سليانة، مدنين، وحتى بعضها الذي يتقدّم هذا الترتيب (سوسة، صفاقس، تونس العاصمة، أريانة..)، فإنّ انخراطها مبكّرا في الثورة جاء انطلاقا من أحيائها الشعبية الفقيرة التي تنعدم فيها مرافق التنمية والرّفاه والخدمات الإدارية الضرورية. هناك حيث تغيب الدّولة وتحضر بقوة فقط عبر أجهزة البوليس و”شُعب” الحزب الحاكم لمراقبة الناس وتتبّع “المنحرفين”. وفي حقيقة الأمر، هذه المناطق والجهات انخرطت في أحداث الثورة منذ بداياتها ودفعت بشبابها إلى الشارع بصدور عارية في مواجهة رصاص البوليس والجيش وفرق “القنّاصة”، التي عرفها كل التونسيّين، إلاّ من مسكوا السلطة بعد ذلك (“الّي يلقى قنّاص يجيبهولنا”) في إطار التفصّي من مسؤولية فتح تحقيق في العصابات التي نفّذت جرائم القتل والقنص في حقّ المنتفضين.
إنّ خروج آلاف التونسيات والتونسيّين، وفي طليعتهم الشباب، كان مدفوعا برغبة جامحة في نفض سنين من التهميش والإقصاء و”الحقرة”، والتطلّع نحو غد أفضل يُعيد التوازن التنموي الجهوي ويضع المقدّرات والثروات العديدة والمتنوّعة للجهات (فسفاط، حديد، منتوجات فلاحية، ثروات باطنية..) تحت تصرّف أبناء الشعب، فيمكنهم، إذا انتصرت ثورتهم، أن يكرّسوا سيادتهم عليها، ممّا يعيد لأبناء هذه المناطق الشعور بالانتماء الوطني، و الحلم بأنّ تونس لكلّ التونسيّين، وأنّ الدولة هي كيان يدير شؤون البلاد ويؤمّن توزيع ثرواتها بشكل عادلٍ ومنصفٍ ويُتيح الفرص أمام الجميع بشكل متكافئ من أجل تملّك الثروة والارتقاء الاجتماعي، وليست، كما هي قبلاً وراهنًا، أداة تكرّس التفاوت التنموي وتحافظ على سرديّةٍ خلقها الاستعمار وواصل فيها حكام ما بعد “الاستقلال” أنّ تونس هي “ساحلٌ” في مقابل “الدّاخل” و”بلْدِيّة” في مقابل “آفاقيّين”.
ماذا ربحت الجهات المهمّشة؟
بعد 13 سنة من فرار الرئيس وسقوط رأس النظام، لم يعد هناك تفاوت جهوي بالمعنى القديم المتداول، ولكن في حقيقة الأمر التحقت أغلب المناطق الأخرى بخارطة التهميش والتفقير، ولم تسلم من الانحدار حتى المناطق التي كان التونسيون يحسدون سكّانها عليها (صفاقس، سوسة، مدن السياحة كالحمامات طبرقة وغيرهما…). لقد أصبحت أغلب المدن والجهات تئنّ تحت وطأة انعدام الأمن والشّغل والتنمية. وحتى الخدمات الدّنيا والضرورية، كالنقل والتّداوي والتعلّم، تكاد تنعدم، بل أصبحت كابوسا لعموم التونسيين.
ليس من العسير أن ندرك حجم الخراب الذي أصبحت عليه غالبية جهات البلاد، فكلّ المؤشّرات تراجعت بشكل كبير حتى دون المستويات التي كانت عليها قبل اندلاع الثورة. وبالتوازي مع ذلك، انطلقت منذ الأيام الأولى لما بعد فرار بن علي دعوات للتشكيك في الثورة وفي “نوايا” القائمين عليها وتبنّت الحكومات المتعاقبة، مع حكومات الترويكا أو الائتلاف الرجعي (النهضة والنّداء وتحيا تونس) وحتى مع حكومات الرئيس، خطابا تآمريا يتوعّد المحتجين و”المحرّضين” بالتّتبّع والملاحقة لكونهم يهدّدون السّلم الاجتماعي ولا يتركون الحكومة “تخدم على روحها”..
وتبخّرت أحلام الثورة !
كلّ المطالب والآمال التي علّقت على الثورة ذهبت أدراج الرّياح. تبخّرت وكأننا في حلم لم يدم أكثر من بضع ثوانٍ بمقياس الزمن النفسي، ولكنّها بمقياس الزمن الثوري، كانت حصيلة نزالٍ مريرٍ بين قوى الثورة والفئات التي تسعى إلى تحقيق أهداف الثورة من جهة، وقوى الثورة المضادّة بمختلف مرجعياتها وخلفياتها الفكرية وانتماءاتها السياسيّة (منذ إعلان فؤاد المبزّع رئيسا مؤقتا خلفا للرئيس الهارب ومحمّد الغنوشي رئيسا للحكومة، إلى غاية اليوم، ونحن نعيش زمن حكم فرديٍّ مطلق، من جهة ثانية).
الجميع يدرك أنّ من يحكم الآن، مثل من سبقه، لا يحوز على برنامج واقعي وبديل يعيد للناس أمنهم الغذائي ويضمن لهم قوت يومهم بعيدا عن الطّوابير أمام المخابز والمساحات التجارية، يلهثون منذ ساعات النهار الأولى، وراء الخبز والزّيت والسكّر والبنّ والحليب وغيره من أساسيات يومنا.. لقد وصلت في ظلّه كلّ المؤشرات إلى منطقة حمراء تنذر بالجوع وبالإفلاس وبالتّدهور على جميع المستويات، حتّى بدت تونس في المحافل الدّولية دولة متسوّلة..
لقد تبخّرت أهداف الثورة، في الشّغل والكرامة والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، وحتى الحرية، المكسب الوحيد الثمين للثورة، فإنه يُتهدّد يوميا بفعل مراسيم القمع والاستبداد، وها أنّ اليوم يقبع عشرات، ومئات من الشباب، في السجون تحت طائلة “الـمرسوم 54” سيّء الصيت.
ليس أدلّ على حقيقة سعي الرئيس وأتباعه التفصّي من الثورة ومن أهدافها وتطلّعات الفئات والطبقات المفقرة من تجاهل الذكرى الـ13 لهذا الحدث المجيد. فهو، وقد أقلع في نفس اليوم في طائرة خاصة نحو دولة الكويت لتقديم واجب العزاء في أمير الدولة “صاحب السمو الشيخ نواف الأحمد جابر الصباح”، لم يكلّف نفسه، مثلما كان يفعل وهو رئيسٌ للدولة منذ 2019، أو كما كان يفعل سابقوه منذ 2011، بإلقاء كلمة رسمية في ذكرى انطلاق شرارتها المدوّية، 17 ديسمبر، على الأقل للتذكير بأنها ذكرى “عزيزة على الجميع”. لقد دأب “المتعاقبون” على “قراءة الفاتحة” على شهداء الثورة في كل 17 ديسمبر، حتى وإن كنّا نعلم حجم النفاق وراء تلك “التلاوة الخاشعة”. أمّا الآن فقد تبيّن أنهم “قرؤوا الفاتحة” على الثورة وعلى مطالبها وأهدافها و”ترحّموا” عليها..
إنّ حصيلة 13 سنة من الالتفاف على الثورة سلبيّة للغاية، بل تقهقرت الأوضاع إلى ما قبل 14جانفي، وأصبح من الأكيد والضروري الاستعداد لمواجهة هذه المنظومة، بما تقتضيه هذه المهمّة من تضحيات ومسؤولية، للحيلولة دون غلق قوس الثورة، بل ولاستكمال بقية أطوارها من أجل الحياة الكريمة والآمنة لكل التونسيّين ولكل الجهات ولغالب الفئات الاجتماعية.