حسني حمودي
تمرّ هذه الأيام ثلاثة عشرة سنة على إحدى أعظم محطّات النضال للشعب التونسي المفقّر، ثلاثة عشرة سنة مرّت على تلك اللحظات التي لخّصت في أحشائها مراكمة عشرات السنين من التفقير الممنهج.
كانت باكورات الاحتجاج تتزايد يوما بعد آخر، ومسامير نعش الديكتاتورية النوفمبرية تدقّ الواحد تلو الآخر على مهلٍ، وكلّ صرخة احتجاج ورفض للواقع الجاثم على صدور التونسيين في كل شبر من هذا البلد تعرّي عنجهية الدكتاتورية النوفمبرية في مشهديّة تحمل في طيّاتها سنين من معاناة الطبقات والفئات الكادحة والمفقّرة لعشرات السنين.
لقد مثّل هذا الحدث لحظة استبشرت بها الأغلبية السّاحقة من الشعب التونسي، وخاصة فئة الشباب الذين كانوا المحرّك الرئيسي لكل تلك الأحداث، حيث كان الشباب في كل ولايات الجمهورية القوة الميدانية الفعلية الدافعة بحركة الاحتجاج نحو أقصاها، فخرج شباب تونس وملؤوا الشوارع والساحات نضالا واحتجاجا ومواجهة مباشرة مع قوى القمع النوفمبرية دون أدنى حسابات أو خوفٍ، وقدّم من أجل ذلك المئات من الموقوفين وقافلة من الشهداء.
انطلق كل ذلك السّيل الجارف من الأحداث إثر وفاة شهيد الغبن والحيف محمد البوعزيزي بسيدي بوزيد لتعلن انطلاق الشرارة الأولى للثورة التونسية، وقد لعب في ذلك الشباب الدّور الريادي أوّلا بفكّ الحصار على ولاية سيدي بوزيد وتحويل ذلك الحدث (استشهاد محمد البوعزيزي) إلى حدث وطني عمّ البلاد من شمالها إلى جنوبها فيما بعد.
اندفعت الفئات والطبقات الكادحة والمفقّرة بقواها السياسية والمدنية بكل قوة في كل ساحات البلاد وشوارعها من أجل التعبير عن رفضهم القطعي للحكم الدكتاتوري الجائر للطاغية بن علي ورفعوا في ذلك كل الشعارات التي تكثفت فيها جملة المهام الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية (“خبز وماء وبن على لا”، “التشغيل استحقاق يا عصابة السراق”، “حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة”، “لا لا للطرابلسية الّي نهبوا الميزانية”، “يحكم بشهادة طبية يخرج بإرادة شعبية”، “بالروح بالدم نفديك يا حرية…”).
كانت لحظات فارقة لكل شاب تونسي عاشها وعايشها، كان الأمل كبيرا وإرادة الشباب لا تقهر، كانت عزيمة الشباب التونسي تيّار جارف لا يعرف النّضوب، كان الحلم كبير وقريب، فحلم كل شباب تونس بالقضاء النهائي على الظلم والحيف والتفقير والمهانة، كان يحلم بأن يعيش حرّا وبكرامة.
انطلقت أحداث الثورة الشعبية التونسية في 17 ديسمبر 2010 لتعلن نجاح خطواتها الأولى في 14 جانفي 2011 بإسقاط رأس نظام الحكم وتنطلق في مسار استكمال مهامها من أجل الشغل والحرية والكرامة الوطنية.
انطلق منذ ذلك الحين مسار عسير ومتعرّج ونِزال ضارب بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، إلى حين تفرّد قيس سعيد بالحكم في 25 جويلية 2021 معلنا نفسه الحاكم بأمره، صاحب السلطات اللاّمحدودة، مدّعيا أنه المنقذ المنشود ولكنه لم يكن كذلك، مجرّد “سلطان” جديد، يواصل اتّباع خيارات نفس منظومة الحكم التي ثار عليها الشعب التونسي في 2010 / 2011 وواصلت اتباعها حكومات الإلتفاف على الثورة طيلة “عشرية الخراب”.
لقد أصبحت هذه الذكرى في عهد قيس سعيد باهتة ولا تذكّر التونسيّين بغير الإحباط اليأس وخذلان الحكومات المتعاقبة. ثم ألغى قيس سعيد ذكرى هي أيضا لها حضورها القويّ في ذهنية التونسيات والتونسيين، وهو يوم فرار الدكتاتورية بن علي ذات 14 جانفي، مدّعيا أن هذا اليوم هو يوم إجهاض الثورة.
إن غاية سعيّد من هذا الإجراء هو السعي لربط إسمه بأحداث لم يشارك فيها أصلا ولم يحمل قِيمها ومبادئها مطلقا، وهو يسعى أيضا لغلق قوس الثورة نهائيا والتراجع عن كل مكاسبها (الحرية) وتحويل ذكرى الثورة التونسية إلى حدث “مشؤوم” لدى الشعب المتطلّع دوما إلى التقدّم لا إلى الانتكاس والعودة إلى عهود التخلف والاستبداد والطغيان، وهو يسعى في نهاية المطاف إلى النّسف النهائي لسردية الثورة ونجاحها وتعويضها بسرديّة الشعبوية الخاصة به، كل ذلك كما قلنا سلفا خدمة لمصالح نفس منظومة الحكم الجاثمة على صدورنا منذ عشرات السنين.
بعد ثلاثة عشرة سنة من تاريخ اندلاع الثورة التونسية وبعد أربعة سنوات من حكم قيس سعيد وعامان ونصف من تفرّده بالحكم، ها أننا نحيي هذه الذكرى مرة أخرى وشباب تونس مُشتّت بين السجون والاعتقالات العشوائية تحت طائلة مراسيم جائرة – المرسوم 54 سيئ الصّيت – والبطالة والهجرة غير النظامية.. بعد ثلاثة عشرة سنة من اندلاع الثورة التونسية يعاني شباب تونس مرّة أخرى انسداد الأفق جرّاء انعدام التنمية التشغيل وغلق باب الانتداب صلب الوظيفة العمومية، واستشراء اليأس والإحباط والخوف..
إنّ شباب تونس الذي ابتدع في تاريخه كل أشكال النضال والتنظم وأعلى درجات المواجهة مع منظومة الحكم، مازال بإمكانه ابتداع كل الطرق والأشكال من أجل افتكاك حقوقه المشروعة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، خاصة وأنّ جذوة النضال لم تنطفئ ولن تنضب وستظل تقاوم إلى حين تحقيق أهداف ثورته المغدورة.