بقلم عمّار عمروسية
“عيد بأيّ حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد؟”
تحلّ بعد أيّام قليلة الذكرى 13 للثورة التونسية ضمن مناخ عامّ عفن ومأزوم على جميع المستويات السياسيّة والاقتصادية، وبطبيعة الحال الاجتماعية والقيمية – الأخلاقيّة. فجديد هذه “العودة” ليس فقط استفحال تلك الأزمة الشاملة وتعاظمها بل تنامي مشاعر الإحباط والانكسار ومرفقاته من سيادة قيم ثقافة الانهزام والتسليم بالأمر الواقع بالرّغم من فظاعاته.
لم يقف التّدمير تحت النظام الشعبوي عند حدود بُنى الدولة ومؤسساتها المرتبطة بالمرافق العمومية ولا هياكل الاقتصاد ومنظوماته الإنتاجية، بل طال الحياة السياسيّة والفكرية والإعلامية وامتدّ إلى الذهنية العامّة لأوسع الطبقات والفئات الشعبيّة. فالأذى الذي لحق بالرّوح العامّة للشعب التونسي تحت حكم “قيس سعيد” قد يكون أشدّ وطأة على المسار الثوري وإمكانات تطوّراته مستقبلا من تداعيات تفاقم أزمة البطالة وغلاء الأسعار وندرة الموّاد الأساسيّة، الخ… فتلويث قيم النضال وتبخيس جدوى التغيّير وشيطنة السّياسة والأحزاب وجميع أطر التنظٓم مثلّت دوما المداخل الضروريّة لتعبيد الطريق لإرساء أسس الديكتاتورية بما تعنيه من بطش ونفي للاختلاف والتعدّد. فكلّ دواليب الدولة بيد الفرد وجميع السلطات تحت قبضته التّي تتحكّم في الفضاء الإجتماعي بجميع أبعاده الدينية والمعرفية.
وفق هذه المنطلقات المنغلقة والعقيمة أباح لمن لاصلة له من بعيد أو من قريب بالنضال الديمقراطي ولو في حدوده الدنيا بتنصيب نفسه فوق التاريخ ليحكم على التاريخ وفق منطق لاعقلاني موغل في هلوسات ذاتية منتفخة بنرجسيّة تثير السّخرية تحكمها آليات مرض التفرّد العاق للثورة وشعبها.
فالغائب طوال عمره عن كافّة مجالات النضال الديموقراطي والنقابي والسياسي ضدّ الديكتاتورية في بلادنا، والغائب الذي لا أثر له في مجمل الفعاليات الشعبية التي أثمرت بعد تضحيات كبيرة إسقاط رأس النظام الديكتاتوري وإجباره على الفرار صبيحة 14جانفي 2011.
ذاك الغريب عن نضالات أجيال متعاقبة من القوى الديموقراطية والتقدمية التّي راكمت على امتداد عقود طويلة من التضحيات الجٍسام، طريق الانتصار على النظام الديكتاتوري الذي تحققّ ولو جزئيا بفضل ثورة 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011، أوجد لنفسه مشروعية ليّ عنق التاريخ وشطب المنجز الكبير لشعب الثورة يوم 14جانفي 2011 وتصفية كلّ مكتسبات ما تحقّق ضمن مسار ثوري شديد المصاعب تحت كلّ الحكومات الرجعيّة المتعاقبة بدءً من “محمد الغنوشي” إلى “الترويكا” مرورا إلى “الباجي” وغيرهم…
إنْ منطق الاستفراد بجميع السلطات والعودة المتسارعة لبناء نظام شمولي فاشستي يسيّر جميع دواليبه حكم الفرد الواحد ألأوحد استلزم تحريك كلّ آليات التصفية والقفز فوق كلّ أساسيات القراءت التاريخية بما فيها الأكثر بداهة ومحلّ إجماع مجتمعي واسع.
فرغبة الإنفراد والتّفرد وميكانيزمات تدشين المسار الإنقلابي الذي افتتحه “قيس سعيد” يوم 25 جويلية 2021 وسّع شاهية مضامين الردّة والنكوص وأخرجها من مجال القبض على كلّ السلطات وخصخصتها وإلغاء الدستور وقضم هوامش الحريّات وتدجين الإعلام إلى الفضاء الأشمل والأعمّ الذي كان ثمرته مزيد خلط الأوراق وتقسيم المجتمع وتوسيع شروخه حول تاريخ ثورته بتبريراتٍ وحججٍ واهية فيها الكثير من الديماغوجيا، زيادة عن مضامينها الشعبوية الزائفة.
ومثلما أسلف، فقرار الرئيس بجعل 17 ديسمبر عيدًا وحيدا للثورة فيه دلالات كثيرة يصبّ جميعها في محاولته اليائسة لخلق سردية منسجمة مع نزواته الخاصّة وقناعاته المضطربة المحكومة بعداءٍ مقيت للثورة وقواها الفاعلة وعلى الأخصّ عناصر الوعي فيها الذي تكثّف يوم 14 جانفي 2011 بما يتطابق كليّا مع أحد ثوابت السياسة الشعبوية التّي تناصب العداء السّافر لجميع الأجسام الوسيطة وتتخفّى للتمويه والتعمية باللّجوء إلى الجماهير وعلى الأخصّ فئاته ومناطقه المهمّشة، وهو ما يتوفر من الزاوية الشكلية مع قرار الرئيس تاريخ الثورة يوم 17 ديسمبر.
فالوقائع عنيدة كما يقال، ذلك أنّ التاريخ الأخير ليس سوى شرارة اندلاع ثورة الحرية، أمّا 14 جانفي فهو لحظة تهاوي رأس النظام الديكتاتوري الذي أعقبته موجات ثورية عزّزت المكاسب المتصلّة بتفكيك تلك المنظومة ضمن مسارٍ مفتوح ميزته الأساسية الصراع المفتوح بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادّة التّي لم تدّخر جهدها بكافّة الوسائل الناعمة والغليظة لغلق المسار الثوري بهدف إعادة الرّوح والحياة للمنظومة القديمة التي ثار عليها شعب تونس.
ولعلّ أخطر محاولات الإجهاض والتصفية هو ما يقوم به النظام الشعبوي المُمعن في سياسات العبث والتفقير والتنكيل بالجميع.