بقلم جيلاني الهمامي
عاد وزير الخارجية الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط في جولة مكّوكية قادته إلى عدد من البلدان العربية (السعودية وقطر والإمارات والأردن ومصر) وتركيا والكيان الصهيوني وما يسمى بالسلطة الفلسطينية في رام الله بالضفة الغربية. وتندرج هذه الجولة في إطار مساعي الامبريالية الأمريكية إلى مدّ يد العون للكيان الصهيوني الذي يعاني من صعوبات حقيقية في ميدان المعركة كما يعاني من مصاعب اقتصادية واجتماعية ومن تصدّع حقيقي في الفريق اليميني الفاشستي الحاكم سواء في الحكومة ككل أو في “الكابينيت” أي مجلس الحرب. وإلى جانب ذلك فإن أهم نقطة في جدول أعمالها هو بداية العمل من أجل صياغة “الطبخة” المستقبلية للقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة وتصفية القضية وتأمين “أمن إسرائيل” ومنع حدوث ما حدث يوم 7 أكتوبر الماضي، مجدّدا دون أن ننسى بطبيعة الحال إقناع الجميع بضرورة الضغط على كل الأطراف المتدخلة من أجل أن لا تتّسع رقعة النزاع لتستفرد “إسرائيل” بالمقاومة في غزّة وتتفرغ لتصفيتها دون تشويش أو تعطيل من هذا الطرف أو ذاك وخاصة من حزب الله في الشمال.
ملامح الهزيمة العسكرية الصهيونية
بعد دخول الحرب الصهيونية على غزّة شهرها الرابع أصبح الآن من الممكن تقييم نتائجها ولو تقييما مؤقتا. ينبغي الاعتراف أن الكيان الصهيوني تمكن حقا من تدمير غزة في مستوى البنى الأساسية والمباني السكنية والمؤسسات الاقتصادية ومرافق الخدمات العامة. نعم لقد تمكن من قتل وإصابة ما يقارب 100 ألف فلسطيني بشكل همجي قلّما حصل له مثيل في التاريخ. إن المعطيات المتداولة والمنشورة حول نتائج الجرائم الصهيونية تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الكيان الصهيوني، وبمشاركة أمريكية لوجستية وعسكرية واستخباراتية ومالية واقتصادية وإعلامية، لم يقم بحرب تخضع لقواعد الحرب ومقوّماتها وإنّما قام بجريمة انتقام شنيعة ضد المدنيين وكل مظاهر الحياة المدنية. لكن ومع ذلك تأكد بعد أكثر من ثلاثة أشهر من القصف والتفجير والإغارات والتدمير أن الآلة العسكرية الصهيونية لم تتقدم، من وجهة نظر عسكرية بحتة، خطوة واحدة باتجاه تحقيق أهدافها المعلنة وهي القضاء على حماس وعموم المقاومة المسلحة أولا، والوصول إلى الرهائن وتحريرهم وعودتهم إلى بيوتهم ثانيا، والقضاء على كل التهديدات الأمنية وتفكيك منصات إطلاق الصواريخ على فلسطين المحتلة ثالثا.
بعد ثلاثة أشهر من انطلاق العملية العسكرية لم يتقدم الكيان الصهيوني خطوة باتجاه هذه الأهداف، ذلك أن فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة لا تزال تحتفظ، بشهادة الصهاينة أنفسهم وحلفائهم في أمريكا والغرب عموما، بكل إمكانياتها العسكرية والبشرية. وتأكد، بأكثر من دليل مادي ملموس، أن شمال قطاع غزّة الذي تبجح الكيان الصهيوني بأنه “طهّره من الإرهابيين” ما يعني أنه سيطر عليه، مازال منطلقا لصواريخ تضرب يوميا تل أبيب الكبرى وتجبر الصهاينة كل مساء تقريبا على الهروب إلى المخابئ. أكثر من ذلك فإن العسكر الصهيوني لم يتمكن إلى حد الآن من السيطرة على أي مكان من غزّة فكل المواقع التي تغلغل فيها مازالت ساحة لمعارك ضارية تشنّها المقاومة من حيث لم يكن الجيش الصهيوني يتوقع.
لقد تكبّد الجيش الصهيوني خسائر في العتاد والجنود بقدر لم يكن يتوقعه. وحتى عندما ذهب في ظنه أنه قضى على إمكانيات المقاومة ومقدراتها في شمال القطاع مثلا فوجئ من جديد بعمليات نوعية من هناك كبدته خسائر غير مسبوقة مثلما حصل يوم 8 جانفي الجاري الذي اعتبره الصهاينة “اليوم الأكثر قساوة”.
لقد أُجبر الكيان على سحب خمسة ألوية من جيشه أي أكثر من عشرين ألف جندي من جنوده من القطاع بتعلة إعادة ضخهم في الاقتصاد الصهيوني الذي بات يعاني من مشاكل حقيقية وأزمة قوية. كما أجبر على الانسحاب من شمال قطاع غزة (من بيت لاهية وبيت حانون وجباليا، الخ…) دون أن يحقق شيئا عدا تدمير المباني والبنى التحتية وتقتل المدنيين وتهجيرهم. وقد نشرت وسائل الإعلام الصهيونية من قنوات تلفزية وإذاعية وصحف معطيات وتحاليل لخبراء سياسيين وعسكريين صهاينة قدامى تقدّم اعترافات بأن الكيان بقيادة حكومة اليمين المتطرف الفاشي فشلت للمرة الثانية في وجه المقاومة الفلسطينية. وقد اعترفت صحيفة هآرتيس الصهيونية بأن “النظرية التي وفقها أن الضغط العسكري على حماس بغزة سيؤدي لإعادة المختطفين، فشلت فشلا ذريعا”. وذهب الكثير من الخبراء العسكريين إلى الإشادة بالاحترافية العسكرية والخبرة الميدانية للمقاتلين الفلسطينيين الذين سجلوا تفوّقا حقيقيا في تقنيات الهجوم والدفاع على حدّ السواء.
إن الجيش الصهيوني يقوم بمحاولات ربما هي الأخيرة في حي الزيتون ودير البلح وشرق مدينة خان يونس وفي مدينة رفح عسى أن يحقق إنجازا يستطيع تسويقه داخل الكيان ويمسح به آثار الهزيمة والعار الذي علق به في هذه المعركة. ويجري الآن إعداد الرأي العام داخل الكيان لتقبل عملية الانسحاب بالترويج لما يسمّى بـ”المرحلة الثالثة من الحرب” والانتقال من العملية العسكرية البرية والقصف العام والمكثف إلى “العمليات النوعية والانتقائية”. وإلى جانب ذلك فإن التصدّع الذي لحق بحكومة نتنياهو وحتى بمجلس الحرب، أي الحكومة المضيقة، يجري توظيفه بأشكال عديدة للتغطية على الهزيمة ولتبرير الانسحاب دون نتائج عسكرية تذكر والقبول باللجوء إلى التفاوض لتبادل الأسرى ورسم معالم التعاطي مع الوضع الأمني لما بعد الحرب. وعلى هامش زيارة بلينكن الحالية بدأ الحديث عن نية الكيان الصهيوني في الخفض من قواته العسكرية في غزّة والتخفيف من الغارات الجوية والتحول الى العمليات النوعية الموجهة ضد حماس وقدراتها العسكرية.
نتنياهو واليمين الصهيوني سيدفعون ثمن الهزيمة
إن نتنياهو الذي أراد من حربه على غزة أن تكون مصدر قوّة لمحو فضيحة 7 أكتوبر، ومن ثمّة لإحكام قبضته على الحكم داخل الكيان الصهيوني، ولكنه وعلى العكس من ذلك وجد نفسه مجبرا على دفع الثمن غاليا. وهناك الآن الكثير من المؤشرات على ذلك. فهو في نظر الجميع داخل الكيان أن حكومته، بل إنه شخصيا، من يتحمّل مسؤولية ما حصل يوم 7 أكتوبر الماضي. كما تُوجَّه له اليوم أصابع الاتهام كمسؤول عن الهزيمة التي بدأت ملامحها ترتسم في الأفق. وحتى عندما أراد أن يبعد عن نفسه هذه التهم ويرمي بها إلى قادة الجيش (وزير الدفاع وخاصة رئيس الأركان) ارتد عليه ذلك وأصبح عرضة لحملة شعواء في الأوساط السياسية والإعلامية الصهيونية التي رأت في موقفه إساءة للجيش. وبات من شبه المتفق فيه على أوسع نطاق في الكيان الصهيوني أن نتنياهو إنما يستمرّ في الحرب لتأخير أجل إزاحته من الحكم واقتياده إلى السجن لا فقط لأسباب سياسية وإنما أيضا بسبب ملفات الفساد العالقة به. إنّ حكومته مهددة بالانهيار، ربما في أوّل منعرج، ولولا استمرار الحرب لكانت قد انفجرت ولتمّ الإطاحة به من مدّة. علما وأن التحالف اليميني الذي بموجبه يستمر نتنياهو على رأس الحكومة لم يعد يحظى بما كان يحظى به من تأثير باعتباره في نظر عموم سكان الكيان شريك في الفشل يوم 7 أكتوبر ويتحمل اليوم مسؤولية “ضحايا الحرب” من قتلى ومصابين تحت ضربات المقاومة الفلسطينية كما يتحمل مسؤولية استدامة مدّة الأسر للمخطوفين لدى المقاومة الفلسطينية. ولهذه الأسباب أصبح هذا التحالف هدفا لكل الانتقادات والضغوط بما في ذلك بعض “الضغوط” الأمريكية. وتفيد آخر المعطيات أن نتنياهو بات يخشى من انقلاب كتلة حزبه اليميني الفاشستي الليكود في الكينيست وإمكانية سحب تزكيتها لحكومته للخروج من الورطة التي غرق فيها الكيان. لقد أصبحت غزّة بالنسبة لنتنياهو ولغلاة اليمين الصهيوني اللعنة التي ستظل تلاحقهم إلى أن يقع إبعادهم تماما عن الساحة السياسية في الكيان. ويشتمّ اليوم من الخطة الأمريكية الجاري طبخها والذي جاء وزير الخارجية إلى منطقة الشرق الأوسط للترويج لها (في مستوى المبادئ العامة ريثما يبتلع العملاء العرب في الخليج وفي تركيا “حربوشتها”) لا تعوّل على نتنياهو وحلفائه سموتريتش وبن غفير في تمريرها، بل الأكيد أن ذلك سيتم بإزاحة هؤلاء من المشهد خصوصا وأن كل تحركات إدارة بايدن من الآن فصاعدا ستجري تحت أضواء الحملة الانتخابية والسباق نحو البيت الأبيض. إن بايدن الذي تكبّد خسائر كبيرة جراء انجراره الذليل وراء الكيان الصهيوني إبان اندلاع الحرب في غزّة في حاجة إلى ترقيع صورته التي اهترأت وتدارك أمره مع جمهوره – وخاصة جمهور الشباب الأمريكي – لتحسين حظوظه في الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومثلما هو في حاجة لدعم منظمة “الإيباك” وعموم اللوبي الصهيوني في أمريكا فهو في حاجة للجمهور الذي برهن عن ميل واضح لصالح الشعب الفلسطيني وضد “إسرائيل”. وتمارس هذه المفارقة الصعبة ضغوطا جدّية على إدارة بايدن الذي يودّ إنهاء الحرب والعودة إلى الترتيبات القديمة التي بموجبها تريد الامبريالية الأمريكية استكمال مشوار التطبيع وإدماج الكيان الصهيوني في المنطقة.
الخطة الاستعمارية الجديدة
سبق للمسؤولين الأمريكيين أن كشفوا بشكل غير دقيق عن تصورهم كما بات يعرف بـ”غزّة في اليوم التالي”، أي غزّة ما بعد الحرب. وقد جاء بلينكن هذه المرّة أيضا ليحشد الدعم لهذا المخطط الذي يقوم على جملة من “المبادئ” الثابتة لدى الإدارة الأمريكية والمتفق فيها مع بعض الأطراف العربية والذي، أي المخطط، يحتاج لبعض الوقت لإقناع الصهاينة ببعض بنوده وهي :
القضاء على حماس وتجريد غزّة من السلاح.
تمكين الكيان الصهيوني بصيغة من الصيغ من البقاء في غزّة بما يسمح له بحماية أمنه. وتتراوح هذه الصيغ من إعادة احتلال غزّة وهي الصيغة التي ينادي بها غلاة اليمين المتطرف (سموتريتش وبن غفير، الخ…) إلى اقتطاع شريط عازل تحت حضور وحراسة الجيش الإسرائيلي.
وضع غزّة لفترة من الزمن تحت إدارة الأمم المتحدة في انتظار إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية لتحلّ محلها. ويلاقي هذا الحل معارضة من قبل نتتنياهو واليمين الصهيوني. ومع ذلك مازالت الإدارة الأمريكية تصرّ على إقناع قيادة دولة الصهاينة به في إطار سعيها من أجل توحيد الضفة والقطاع كصيغة لدولة فلسطين في إطار حلّ الدولتين من وجهة نظر أمريكية.
التعويل على دول الخليج (خاصة الإمارات) في إعادة إعمار غزّة ويبدو أنه يجري بحث وضع خطة في ذلك لتفكيك منظومة الأنفاق والقضاء عليها.
في الأثناء “تحوّلت” لغة إدارة بايدن إلى التركيز على ضرورة تكثيف المساعدة لفائدة المدنيين والزيادة فيها إلى جانب وضع خطة لعودة النازحين إلى ديارهم. وقد ذهب بلينكن إلى حدّ اقتراح دعوة الأمم المتحدة إلى بعث وفد أممي يتولى تقييم حجم الخسائر في شمال القطاع وضبط ما يلزم لإعادة إعماره. لكن هذا الحديث يتعلق الآن بالشمال فقط، أمّا الوسط والجنوب فمازالا يحتاجان إلى مزيد من التدمير من قبل الآلة العسكرية الصهيونية عسى أن يقع وضع اليد على قيادة المقاومة وتفكيك قدراتها العسكرية. ولهذا السبب مازالت الإدارة الأمريكية ترفض وقف إطلاق النار والاكتفاء ببعض الهدن الوقتية لتبادل الأسرى.
غير أن هذه الخطوط العريضة للمخطط الأمريكي مازالت في حاجة لمزيد التدقيق مع الكيان الصهيوني والاتفاق حولها من جهة ولمزيد الدرس مع العديد من الأطراف الأخرى، السطلة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وشيوخ الخليج والأردن ومصر وتركيا وربما أيضا الاتحاد الأوروبي حتى يحوز المخطط على رضا الجميع ويلقى بالتالي طريقه إلى المرور والتنفيذ.
وممّا لا شكّ فيه أن المواجهة العسكرية التي ستشهد تطوّرات هامة في الأيام القادمة وعلى أقصى تقدير الأسابيع القادمة سيوفر مساحات أكبر فأكبر للتفاوض والمفاهمات لا فقط للقيام بصفقات في مجال تبادل الأسرى وإنما أيضا لبداية رسم أوضاع المستقبل. وتروج معطيات حول مقترحات تقدّمت بها حكومة نتنياهو للوسيط القطري لوقف الحرب وحلّ مشكلة الرهائن. وتصطدم كلّ مشاريع الصفقات الجاري بحثها في الكواليس برفض المقاومة التي تتمتع بعناصر “تفوّق” عسكرية ومعنوية تسمح لها باشتراط وقف الحرب تماما وانسحاب العدو كليا وهو ما لم يرضخ له بعد. إن عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر والنتائج المسجلة الآن – على الصعيد العسكري – بعد حوالي أربعة أشهر من الحرب تركت آثارا مهمة في ملامح حالة موازين القوى الجديدة بين الكيان المحتل والبندقية الفلسطينية. وقد بدأت المقاومة تتعاطى مع كل التطورات في ضوء هذه الملامح. فممّا لا شك فيه أيضا أن ترتيبات أوسلو التي أسفرت عن حلّ التسوية على حساب حركة التحرير الوطنية المكافحة وتمدد الكيان في المنطقة عبر سلسلة اتفاقيات التطبيع ستستمرّ بشكل ما، ولكن القضية الفلسطينية ستعود في وضعية أفضل بكثير وربما أفضل ممّا بدأت به في جانفي 1965.