اشرأبّت أعناق أحرار العالم يوم الخميس 11 جانفي 2024 إلى محكمة العدل الدّولية، أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، لمتابعة أولى جلسات الاستماع في القضية المرفوعة من قبل جنوب إفريقيا ضدّ الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب إبادة جماعيّة في حقّ الشعب الفلسطيني في غزة وانتهاكه اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وهي جريمة لم تبدأ مع حرب السابع من أكتوبر المنقضي والتي خلّفت أكثر من 24 ألف شهيد و61 ألف جريح. بل إنّ الشعب الفلسطيني “تعرّض لنكبة مستمرة وللفصل العنصري على جانبي الخط الأخضر وأعمال إبادة جماعية في سياق الفصل العنصري الذي دام 75 عاما” كما أفاد بذلك وزير العدل “رونالد لامولا” ممثل جنوب إفريقيا في بداية مرافعته واستعراضه لتاريخ الصراع الفلسطيني – الصهيوني. وللتّذكير فإنّ الكيان يقبل للمرّة الأولى المثول أمام هذه المحكمة ومقاضاته بسبب الجرائم التي يرتكبها في حقّ الشّعب الفلسطيني بعد أن كان رفض ذلك سنة 2004 في القضيّة المرفوعة ضدّه بخصوص الجدار العنصري العازل.
وقد طالبت المحكمة بأخذ إجراءات كفيلة بحماية الفلسطينيين خلال الحرب الوحشية التي يخوضها الاحتلال ضد قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر الماضي. ومن هذا المنطلق تكتسي شكوى جنوب افريقيا أهمية كبرى في المجتمع الدّولي. حيث أرغمت الكيان الصهيوني على المثول أمام أنظار العدالة الدّولية في سابقة هي الأولى من نوعها، واستطاعت بذلك تعرية حقيقته وفضح مزاعمه في تقديم نفسه في صورة “النّموذج الديمقراطي الوحيد في المنطقة” وهي رمزية سعى الكيان جاهدا إلى ترسيخها لعقود طويلة. لذلك لا غرابة أن يشعر الكيان بالقلق وأن يبدي مخاوف من إمكانيّة إدانته من قبل محكمة العدل الدولية في لاهاي بارتكاب جرائم إبادة جماعيّة رغم غياب وسائل لتنفيذ أحكام هذه المحكمة والالتزام باحترام قراراتها. فصدور حكم ضدّ الكيان من شأنه أن يشكّل سابقة قانونية وأن يضرّ بسمعته وأن يساهم في تعميق عزلته خاصّة لما لهذه المحكمة من دور كبير في تشكيل القوانين الدّولية وفي المساهمة في التّأثير في الرّأي العام الدّولي وموقفه من الاحتلال الصّهيوني. إنّ مثل هذه المحاكمة من شأنها أن تضع المجتمع الدولي في اختبار حقيقي وفي موضع من يتحمّل المسؤولية إزاء ما يحدث للشعب الفلسطيني في القطاع. لذلك يمكن أن يبادر وأن يتّخذ جملة من الإجراءات من قبيل فرض عقوبات ضد الكيان أو الدّعوة لتعليق عضويّته في الأمم المتّحدة حتى لا نقول طرده.
وإزاء هذه الشّكوى كان من الطبيعي أن يستبشر الشعب الفلسطيني بهذه المحاكمة وأن يعتبرها خطوة بمثابة الزّلزال الذي أقضّ مضجع الكيان وزعزع هيبته المزعومة. فما أقدمت عليه جنوب افريقيا يُعدّ شكلا من أشكال المقاومة لا يقلّ في قيمته ورمزيّته عمّا تأتيه المقاومة في الأرض. لكنّ المفارقة العجيبة تكمن في الموقف الرسمي العربي، وإن كنّا لا نستغربه، وفي تواطئه المكشوف مع الكيان وخيانته للحق الفلسطيني. إنّ ما أقدمت عليه المقاومة الفلسطينية بعثر أوراق الأنظمة العربية الرّجعية الاستبدادية وأوقف مسار تطبيعها مع الكيان وجعلها في حرج حقيقي إزاء موقف جنوب افريقيا بعد أن ظنّت أنّ المقاومة قد حوصرت وأنّ القضية الفلسطينية قد قُبرت وأنّ الكيان بصدد تحقيق نجاحات في فرض مناطق معزولة ومحاصرة بالمستوطنات.
وربّما من المضحكات المبكيات ما برّر به بيان وزارة الخارجية التونسية عدم انضمام نظام قيس سعيّد لأيّ دعوى تُقدّم ضد الكيان المحتل أمام محكمة العدل الدولية من كون ذلك يمثّل اعترافا ضمنيا بهذا الكيان. ففي الوقت الذي يبحث فيه الشّعب الفلسطيني عن إدانة رسمية دوليّة ضدّ كيان غاصب، عضو في الأمم المتّحدة يقدّم نفسه واحة للديمقراطية في كامل المنطقة ويرتكب المجازر تلو الأخرى، يجبن هذا النظام أمام اتخاذ موقف مبدئي إزاء ما يحدث ويتغلّف بغلاف شعبوي ثورجي لتبرير مواقفه الرّجعيّة والمتخاذلة فيغالط شعبه من خلال البون الشاسع بين الشعار والممارسة. ولعلّ الذاكرة تأبى نسيان مواقف مشابهة لهذا النظام حيث كانت تونس البلد العربي الوحيد الذي رفض التّصويت على لائحة الجمعية العامة التي قدمتها “المجموعة العربية” والدّاعية إلى وقف فوري للعدوان الغاشم وفتح المعابر لإيصال المساعدات الإنسانية. وهو ما كانت تسعى إليه المقاومة الفلسطينيّة في ذاك الظّرف الدقيق من حرب الإبادة. على خلاف العدوّ الصهيوني الذي كان يسعى إلى تحقيق أهداف ميدانية.
إنّ المفارقة بين الخطاب والممارسة هي من أوكد سمات الشّعبوية التي تبقى عاجزة عن اتّخاذ أيّ موقف مبدئي وإن كان جزئيّا وملموسا مقابل رفعها شعار كبير تتّخذه مطيّة لتستهوي به الجماهير وتدغدغ عواطفه خاصة إن كان الأمر يتعلّق بالقضية المركزية الأم، القضية الفلسطينية. ويتذكّر جميعنا شعور التّونسيات والتونسيين بالخذلان إزاء التّدخّل السّافر لقيس سعيد في برلمان الدّمى يوم 2 نوفمبر 2023، لمنع تمرير تصويت مجلس نوّابه على مشروع قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني. هذا المطلب الذي صدحت به حناجر التونسيات والتونسيين منذ أمد طويل ولم يجد صداه على مرّ الحكومات المعاقبة منذ ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011. لقد وقف الشعب التونسي على زيف الشعارات المرفوعة من قبل سعيّد وأنّ موقفه من التّطبيع وجملته الشهيرة “التّطبيع خيانة عظمى” لا تعدو أن تكون شعارا انتخابيا يُلوّنه حسب أهوائه وارتباطاته بالدوائر الامبريالية ويستغلّه بشكل ديماغوجي لاستبلاه الشعب التونسي ومغالطته وغضّ النّظر عن اتّساع مجالات التّطبيع منذ الانقلاب.
وبصرف النّظر عن مواقف الخزي والخذلان للأنظمة العربية الاستبدادية ولخطابها الشّعبوي المزدوج وللقوى المعادية للتّحرر الوطني فإنّ معركة طوفان الأقصى قد نجحت في القيام بعمليّة فرز حقيقية محليا وإقليميّا ودوليّا بين قوى الحرية والانعتاق والتّحرّر من جهة وقوى الغطرسة والوحشية والبربرية من جهة ثانية. وتبقى القضيّة الفلسطينية في حاجة إلى مزيد الإسناد ومضاعفة تحرّك كلّ الأحرار، في تونس كما في باقي دول العالم، على كلّ الواجهات لوقف جرائم الإبادة اليوميّة التي يشنها الكيان الغاصب.
الرئيسية / الافتتاحية / جنوب افريقيا تجرّ الكيان الغاصب أمام محكمة العدل الدّوليّة وتكشف جبن الأنظمة العربيّة