إذا استثنينا “الخبر السار” حول تمكّن تونس من سداد ديون عام 2023 الذي زفّته وزيرة المالية للتونسيات والتونسيين وما رافقه في وسائل الإعلام من “تهاليل” و”زغاريد” وخاصة من مغالطات للإيهام بأن الأمور على ما يرام وإخفاء مزيد إغراق البلاد في الاقتراض وما سينجرّ عنه من انعكاسات اقتصادية ومالية وخيمة على عموم الشعب، كما أوضحه أهل الاختصاص، فإن أهم حدث آخر استقطب الاهتمام يتعلّق بقضايا “التآمر على أمن الدولة” الجديدة عدد 12 و13 و14 كما صنّفها بعض الإعلاميين في إشارة إلى تكاثر مثل هذه القضايا في عهد سلطة الانقلاب بما لم تعرفه لا تونس ولا غيرها من البلدان، على ما يبدو، في مثل هذا الحيّز الضيق من الزمن (قرابة العام).
إن ما أثار الاهتمام والجدل في علاقة بهذه القضايا هو أنّ جميعها مرتبط بـ”وشايات” أي “قوادة” بلغتنا اليومية. ولكن ليس هذا هو المعطى الأهم في إثارة ذلك الاهتمام والجدل لأن هذه القضايا ليست الأولى التي قامت على “قوادة”. فقضية التآمر الشهيرة التي أُلْصِقت بمجموعة النشطاء السياسيّين من معارضي سلطة الانقلاب ومن بينهم غازي الشواشي وعصام الشابي وجوهر بن مبارك ورضا بلحاج وعبد الحميد الجلاصي وخيام التركي وشيماء عيسى وغيرهم، قامت هي أيضا على ثلاث “وشايات” لم يفصح بموجب قانون الإرهاب عن أصحابها لـ”حمايتهم”، وقد تفنّنوا كما هو معلوم في سرد روايات مضحكة مبكية كانت حاسمة حسب الظاهر في تبرير اعتقال هؤلاء المعارضين السياسيّين وإبقائهم قيد الاعتقال دون بحث أو محاكمة إلى حدّ الساعة.
إن المعطى الأهم في القضايا الجديدة هو أنّ الأمور وصلت إلى درجة غير مسبوقة من الإسفاف، إلى درجة تجاوزت في معطياتها إسفاف القضية الأولى. ولكنّ هذا الإسفاف على تفاهته واستغبائه للناس، مثله مثل ما جاء في تلك القضية شديد الخطورة على حرية الضحايا ومستقبلهم وحياتهم. ففي القضية “13” مثلا التي هي في طور التحقيق يمثل “هنري ألفريد كيسنجر” وزير الخارجية الأمريكي المتوفّي في أواخر ديسمبر الماضي عن عمر يناهز الـ100 سنة، والذي ظل لعقود يهندس السياسة الخارجية الأمريكية في حلقاتها الكبرى المحدّدة لمصير العلاقات الدولية، المحور الرئيسي للوشاية. فهذا الوزير الذي اشتغل على كبريات القضايا الدولية المحدّدة لمصير العالم، لم يبق له وهو “ساق البرة وساق في القبر” إلا الاهتمام بالصلح الجزائي والانتخابات المحلية في تونس ممّا جعله يغدق أموالا طائلة على ساسة تونسيين أحدهم في السجن لإفسادهما لما لهما، على ما يبدو، من خطورة عظمى على تطور الصراعات الدولية بين مختلف أقطابها وهو ما جعل قضاء سلطة الانقلاب يأخذ الأمر بجدّية ويحقق فيه مع الأحياء من المتهمين.
أما القضية رقم “14” التي عهد وكيل الجمهورية لفرقة أمنية بالبحث فيها، حسب ما أورده بعض المحامين، في بعض وسائل الإعلام، فمحورها رئيس حكومة الكيان الصهيوني “ناتنياهو”. فحسب مضمون الوشاية فإن هذا المجرم، ترك على ما يبدو ساحة الحرب مع الشعب الفلسطيني و”جاء” خلسة إلى تونس للاهتمام بما هو أهمّ وهو “تفقد” غواصة (نعم غواصة) تحمل عشرات القناصة الذين سيتولّون تنفيذ انقلاب على النظام بالتواطؤ مع معارضين تونسيين بارزين للانقلاب… وقد أخذ وكيل الجمهورية الأمر “بالجدية اللازمة” وطلب بحث كل “المورّطين” في هذه المؤامرة… “ربّي يحبّس علينا العقل” كما يقول المثل الشعبي… ولكن رغم هذه الفظاعات فقد وجد من “الموالين” و”الشرّاح”، كما في القضية الأولى (قضية غازي الشواشي وعصام الشابي وجوهر بن مبارك ورفاقهم…)، من يحاول التسويق لهذه المؤامرات الشبيهة بالخرافات مدّعيا صحّتها بسبب ما يمثّله “النظام الجديد” من خطر على الدول العظمى. وحتى الذين هالهم الأمر وأدركوا أنه لا يصدّق فلم يخرجوا من دائرة المؤامرة مؤكدين أنّ هاتين القضيتين اللتين، كما قلنا يتمّ فيهما البحث، وراءهما “متآمرون” يريدون “تتفيه” المؤامرات “الحقيقية” التي تحاك ضد تونس…
إن الخلاصة ممّا تعرضنا إليه تكمن فيما وصل إليه الوضع السياسي من تعفن في بلادنا في ظل سلطة الانقلاب. وإذا كان ثمة من ملاحظة ينبغي تأكيدها فهي أن أسلوب الوشاية الذي ينتشر اليوم بشكل فظيع لتوريط أشخاص أو أطراف من نزعات أو مجالات مختلفة، لا ينتعش إلا في مناخ الاستبداد وسيادة التعسّف (l’arbitraire) وغياب دولة القانون التي ترتكز على قانون عادل، يحمي الحريات والحقوق، وعلى قضاء مستقل، يمثل سلطة لا مجرّد وظيفة في خدمة الحاكم بأمره. ومن هذا المنطلق تصبح الوشاية، على غرار ما ذكرنا من وشايات، لا جريمة يعاقب عليها القانون باعتبارها كذبا وادّعاء بالباطل، وإنما سلاحا بيد حكم الاستبداد والفاشية الذي كثيرا ما يكون أعوانه من مفتعلي تلك الوشايات ومُفبركيها للانتقام من معارضيه ومنتقديه. لذلك لا يمكن استغراب ما وصلت إليه الوشايات اليوم من تفاهة، ولكنها كما قلنا تفاهة مجرمة وخطيرة يمكن أن تطول أيّا كان مع اشتداد نزعة الاستبداد والفشستة. وهو ما يقتضي من كل القوى الديمقراطية والتقدمية التصدّي لهذه الظاهرة بقطع النظر عن هوية الضحية الفكرية والسياسية لأن من يسكت عنها اليوم أو يستخفّ بها يمكن أن يكون ضحيتها غدا.
إن حزب العمال انقاد على الدوام بمبادئ وقيم نبيلة وتقدّمية يريدها أن تؤسّس لتونس جديدة، حرّة ومستقلة وديمقراطية وتقدمية وعادلة. وهو لن يحيد عنها مهما كان الظرف ومهما كان لون الضحيّة أو انتماؤه. إن المجتمعات المتحرّرة لا تبنى على الكذب والتعسف وإنما تبنى على إشاعة قيم المساواة والمواطنة والعدل.
فلتسقطْ القضايا المُفبركة والوشايات الوضيعة التي ذهب ضحيتها الآلاف منذ العهد الاستعماري ولْيسقطْ الانقلاب والاستبداد… والحرية للمعتقلين السياسيين وكافة ضحايا قوانين الجور والتعسّف.