استقبل النقابيات والنقابيون هذه السنة شهر جانفي ككل سنة وهم يستعدون لإحياء ذكرى محطات تاريخية من مسيرة الاتحاد العام التونسي للشغل، تلك المحطات المعمّدة بالعرق والدموع والدم. لكن جانفي هذه السنة الذي يوافق الذكرى 78 لتأسيس منظمتهم العريقة يختلف عن سابقيه بالنظر إلى حجم التحديات والحصار الخانق المضروب على الحركة النقابية التونسية وعلى الحريات العامة وفي مقدمتها الحريات النقابية من قبل نظام قيس سعيد. وبالنظر خاصة إلى أوضاع البيت النقابي الداخلي و مدى و حدته و استعداده للذود عن المنظمة ضد ما يتهددها من الداخل ومن الخارج.
أولى هذه المحطات التي يتوقف عندها النقابيون والنقابيات بكثير من الحنين والافتخار هي محطة 20 جانفي التأسيسية ففي مثل هذا اليوم من سنة 1946 توّج فرحات حشاد ورفاقه مسيرة عسيرة من العمل الدؤوب والنضال النقابي في صفوف العمال منذ سنة 1944 بالإعلان عن تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل لتحقيق “التحرر الاجتماعي والتحرر الوطني” على حد تعبير الزعيم فرحات حشاد وكوريث تاريخي لتجربة محمد علي الحامي، إنّ احتفاليات النقابيين والبروتوكول النقابي الذي أصبح يرافق هذه الذكرى منذ عقود احتفاليات الوفاق الطبقي التي تنظمها القيادات النقابية المتعاقبة مع النظام سواء قبل 2011 أو بعدها، لا ينبغي أن تحجب عن أعين النقابيين والنقابيات وخاصة عن وعيهم المسيرة التي أدت إلى التأسيس والتي قادها بكل اقتدار الزعيم فرحات حشاد وزملاؤه واجهوا خلالها شتى أنواع العراقيل والصعوبات سواء منها المرتبطة بالمواجهة مع الاستعمار الفرنسي أو بوكلائه المحليين الذين سبق وأن أجهضوا تجربة محمد علي.
وبالنظر إلى الظرفية التاريخية التي يحيي فيها النقابيون والنقابيات الذكرى 78 لتأسيس منظمتهم، سواء الظرفية النقابية الداخلية أو الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية والإقليمية والدولية، فإنّ الذكرى هذه السنة تحمل دلالات خاصة تكشف عنها النقاشات بين النقابيين وتوجساتهم التي يعبّرون عنها فيما بينهم أو على صفحات التواصل الاجتماعي نظرا لخطورة المنزلق الذي انحرفت إليه البلاد تحت الحكم الشعبوي المتمظهر في الانحراف بنظام الحكم تدريجيا نحو الاستبداد الفردي الذي يستمد عدة مقولات في تصوراته وخطاباته حول الحكم وعلاقة الدولة بالمجتمع مباشرة من المدونة الفاشية، ونظرا كذلك إلى انتظارات النقابيات والنقابيين وغالبية الشعب التونسي من الاتحاد العام التونسي للشغل لا سيما بعد التراجع الكبير في الأداء النقابي رغم التحديات الكبرى المطروحة أمام المنظمة. فعلى المستوى المحلي لم يصل الشعب التونسي إلى مثل هذه الدرجة من انهيار مقدرته الشرائية وعجزه عن تلبية الحد الأدنى من حاجياته الأساسية. وعلى المستوى الإقليمي فإنّ الحضور الباهت جدا للاتحاد العام التونسي للشغل في دعم المقاومة الفلسطينية الباسلة وتنظيم وقيادة الفعاليات والمبادرات الشعبية أثار الاستغراب والاستهجان. ومما فاقم من مخاوف النقابيين وشكوكهم حول مدى قدرة الاتحاد على مواجهة هذه الملفات والتحديات الحارقة جمود النشاط النقابي في أغلب هياكل الاتحاد وغياب تقاليد العمل النقابي التي راكمها الاتحاد طيلة تاريخه من عقد للاجتماعات العامة والتجمعات العمالية والاتصال بالقواعد في مراكز عملهم لتتحول الهياكل النقابية إلى جزر معزولة في بحر متلاطم من التهديدات والتناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
من أهم الدروس التي ينبغي استحضارها من لحظة التأسيس هي تلك الإرادة الفولاذية الصلبة ووحدة الوعي والممارسة النقابية وقيم نكران الذات والتضحية حتى بالنفس في سبيل المبدأ التي تسلح بها جيل المؤسسين وعلى رأسهم الشهيد فرحات حشاد. تلك القيم التي ما فتئت تضمحل داخل المنظمة فاسحة المجال أمام قيم أخرى من أقذر ما تفرزه المجتمعات المأزومة كالإنتهازية والزبونية وعلاقات الاستزلام والتفسخ الطبقي إلى حد أصبح فيه الاتحاد العام التونسي للشغل تعبيرة مكثفة عن الأزمة الأخلاقية والسلوكية التي يمر بها المجتمع التونسي وإطارا لإعادة إنتاج نفس قيم علاقات الإنتاج التي يناضل ضدها نظريا، شأنه في ذلك شأن عدد كبير من المنظمات والجمعيات الناشطة ببلادنا. إنّ علاقة التأثر والتأثير أمر طبيعي وقانون من قوانين التطور الاجتماعي ولا تخلو منظمة أو جمعية أو حزب من هذه الظواهر وما يفاقم من خطورة هذه الظاهرة هو استفحالها والتطبيع معها وتحوّلها إلى قاعدة للعلاقات والتسيير في ظل ضعف أو غياب جهاز مناعة داخلي يصفي الجسم التنظيمي ويمارس الفرز المستمر في المحطات النضالية الكبرى. إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم ضحية نفسه بهياكله ومناضليه قبل أن يكون ضحية الهجمة الإخوانية أو الدستورية أو الشعبوية. فالاتحاد الذي واجه جبروت بورقيبة في أوج قوته دفاعا عن استقلاليته وعن حرية العمل النقابي ليس عاجزا عن مواجهة نظام يخشى حتى من مصارحة شعبه بالأسباب الحقيقية لأزمة الخبز أو الحليب… ولكن المسألة كل المسألة هي في مدى استعداد هياكل الاتحاد للدفاع عن المنظمة في إطار وحدة نقابية صماء على مستوى الوعي والممارسة وفي مدى قدرة القيادة النقابية على تحقيق هذه الوحدة وتوجيهها نحو الأهداف الاجتماعية والوطنية التي حددتها رسالة التأسيس الأولى.
ثاني محطات شهر جانفي هي ملحمة 26 جانفي 1978 دفاعا عن استقلالية المنظمة وحرية العمل النقابي ضد الديكتاتورية البورقيبية والتي دفع فيها مئات النقابيات والنقابيين ضريبة الدم والسجن والتعذيب دفاعا عن منظمتهم. وقد أكدت محطة 26 جانفي مرة أخرى أنّ الفصل بين النضال المدني والسياسي والنقابي مجرد وهم من شأنه إطالة أنفاس أنظمة الحكم المعادية لشعوبها والمعادية لقيم الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية وليس من باب الصدفة أن تكون الهجمة على العمل النقابي وعلى الاتحاد العام التونسي للشغل تحديدا مسبوقة دوما ومن قبل مختلف أنظمة الحكم المتعاقبة على البلاد بشن هجمة دعائية على دور الاتحاد وضرورة أن يلزم حدوده النقابية والاجتماعية كمنظمة مهنية وأن لا شأن له بالسياسة وبمصير البلاد. إلاّ أنّ رؤية النظام الشعبوي للعمل النقابي وللعمل المدني والسياسي بصفة عامة تختلف من حيث جذريتها وتطرفها عن المقاربات الرجعية السابقة. فقيس سعيد ومريدوه لا يخفون عدم إيمانهم بوجود عمل نقابي أو منظمة نقابية من الأساس في إطار مقاربة أشمل للعمل السياسي والمدني والنقابي تريد إلغاء الأجسام الوسيطة التي تضطلع بهذا الدور وحصر كل عمل بشري داخل إطار الدولة المختزلة بدورها في شخص “الزعيم الأوحد والقائد الملهم صاحب الرسالة التاريخية” ولئن لم تتفطن قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل للخطر الداهم يوم 25 جويلية 2021 وأعلنت مساندتها للمسار الإنقلابي فإنّ جمود موقف القيادة في تلك اللحظة بعد التطورات الخطيرة التي عرفتها الحياة السياسية في بلادنا وانكشاف خطورة المشروع الشعبوي على الحريات العامة والفردية وفي مقدمتها حرية العمل النقابي، هو ما يثير التساؤل والشكوك في أوساط النقابيين وفي الأوساط الديموقراطية والتقدمية عن مدى وجود وعي نقابي في مستوى المركزية بالمخاطر المحدقة بكافة المكاسب الديمقراطية التي حققها الشعب التونسي بعد 2011، بل وحتى بعض المربعات التي كانت موجودة قبل ذلك، لأنّ معركة الاستقلالية والدفاع عن حرمة المنظمة الشغيلة ستكون في ظل النظام الشعبوي أشرس وأصعب من كل المحطات السابقة بالنظر أولا إلى طبيعة النظام الشعبوي وثانيا بالنظر إلى الوضع النقابي الداخلي الذي يعاني من التشرذم والاختراقات من القاعدة إلى القمة إلى حدّ أنّ الشعبويين يراهنون على حسم معركة تركيع الاتحاد من الداخل.
الاتحاد العام التونسي للشغل مقبل على مرحلة حاسمة في تاريخه يتعلق بها مصير الحركة النقابية التونسية برمتها لا تقل أهمية وخطورة عن محطة 26 جانفي، وكلما استمر تردد القيادة النقابية وتذبذها في حسم الصراع داخلها حول مسألة استقلالية المنظمة عن السلطة كلما ازدادت المرحلة تعقيدا وخطورة. من هنا تنبثق أهمية استلهام دروس التأسيس ودروس انتفاضة 26 جانفي للاستعداد للدفاع عن المنظمة ضد الأمراض البيروقراطية والانتهازية التي تنخرها من الداخل وضد مشاريع التصفية والتركيع المتربصة بها من الداخل والخارج.