بقلم جيلاني الهمامي
“إنّ شعبا بأكمله كان يتصوّر أنه، عن طريق الثّورة، قد سرّع تطوره يجد نفسه فجأة يرجع القهقرى إلى عصر انقرض” كارل ماركس(1).
هل ثمة أبلغ مما قاله كارل ماركس منذ أكثر من قرن ونصف عن الثورة في فرنسا سنوات 1848 – 1951 إذا ما أردنا أن نطلق على ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي في تونس الوصف الذي يليق بها أو أن نقيّم حصيلتها بعد 13 سنة؟
عندما هبّ الشّعب التّونسي إلى الشّوارع شتاء 2010 – 2011 غضبا وسخطا على أوضاعه البائسة وعلى نظام الحكم كان له أمل لا يتزعزع في افتكاك حقوقه واستبدال تلك الأوضاع بحياة جديدة قوامها الحرية والكرامة والعدل. وازدادت قناعته هذه رسوخا يوم فرّ بن علي. فقد رأى الشعب في فراره تأكيدا على أنّ إرادته لا تُقهر وأنّ نضاله لم يذهب أدراج الرياح وأنّ الطريق نحو تحقيق أهدافه الكبرى قد بدت وقتها سالكة. ولم ينتظر وقتا طويلا ليدرك أنّ الأمر ليس كما يتصوّر وأنّ ما يصطلح عليه في عالم السياسة بـ”الثورة المضادة” بالمرصاد لما حقّقه من مكتسبات وأنها غير مستعدة للقبول بأبسط التنازلات ولا للتفريط في امتيازاتها مهما كانت صغيرة وجزئية. لقد بدا واضحا وبصفة مبكّرة أنّ كلّ الأجهزة والمؤسسات والفعاليات اتفقت على ضرورة العمل بكل جد وتفان من أجل غلق ذلك القوس المزعج قوس الثورة. وجرت سلسلة طويلة جدا من المحاولات والأعمال في هذا الاتجاه. ولئن تطلب الأمر وقتا أطول مما كانت تريده الثّورة المضادّة فإنّها تحلّت بالصّبر ولم تضيّع ولو لحظة كما لم تفرّط في أبسط فرصة من أجل أن تستعيد مساحات متتالية ممّا خسرته لفائدة الثّورة والشّعب.
ففي مرحلة أولى اضطرّ الشّعب التّونسي إلى القبول – رغم أنفه – بالتنازل عن مطالبه الاقتصادية والاجتماعية بعد أن يئس من حلّ معضلة البطالة وبشكل عام من الحصول على التنمية. ثم وفي مرحلة لاحقة رضخ لتحمّل غلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية وتردي الخدمات العامة بعد أن احتج كل شتاء طيلة سنوات ما بعد الثورة بلا طائل. وأخيرا وجد نفسه مكرها على القبول بالتنازل عن المكسب الوحيد الذي ناله من الثورة وهو مربع الحريات. هكذا تبدو لوحة الحصيلة في مجملها. أمّا إذا غصنا في تفاصيلها كان المشهد مروّعا على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية والقيمية.
الحصيلة الاقتصادية
ثار الشعب التونسي على نظام بن علي لأنه لم يعد يحتمل العيش على تلك الصورة. لقد ملّ حالة البؤس والفقر والبطالة وكل مظاهر التهميش لأنّ النظام لم ينجح في تنمية البلاد وبناء اقتصاد متطور يحصّن البلاد ضد كل مظاهر التدخل الأجنبي والهيمنة ويلبّي حاجات المواطنين ويوفر لهم العيش الرغيد. ففي عهد بن علي تفكك النسيج الاقتصادي والصناعي جراء الاتفاقيات غير العادلة التي أمضاها مع الاتحاد الأوروبي (اتفاقية الشراكة) وتعطلت “ماكينة الإنتاج” وتراجع الاستثمار والادّخار وتدهورت إنتاجية القطاعات الأساسية، الصناعة والفلاحة والخدمات وغرقت البلاد في المديونية وفرضت الدولة سياسات التقشف على المواطنين الذين دفعوا من دمهم وعرقهم تبعات الأزمة العميقة التي تردت فيها البلاد.
كانت هذه الأوضاع إلى جانب انعدام الحريات واستشراء الفساد هي الدافع الأساسي لاندلاع انتفاضة يوم 17 ديسمبر والأيام الموالية. لقد خرج الشباب إلى الشارع ثم التحقت به بقية الشرائح الشعبية مطالبين “بالشغل وبالخبز وبالحرية وبالكرامة والعدل والمساواة”. وظل ينتظر بعد فرار بن علي وسقوط النظام أن تتحقق آماله وأمام محاولات الالتفاف من قبل القوى الرجعية التي حلّت محلّ نظام بن علي استمر الشعب التونسي في النضال كل شتاء من كل سنة للضغط من أجل افتكاك حقوقه. لكن وللأسف لم يتحقق له شيء من ذلك بل ازدادت أوضاعه سوءا بالنظر إلى الخراب الذي لحق بالاقتصاد التونسي. ولا غرابة في ذلك ما دام مجمل النشاط الاقتصادي تحت سيطرة أقلية من السماسرة والمضاربين، أقلية فاسدة ومرتبطة بالخارج لا يهمها غير تحقيق الأرباح على حساب الوطن والشعب. لذلك استمرت الأزمة بل واشتدت وشملت كل الميادين ودخلت كل المؤشرات المناطق الحمراء. فالمالية العمومية في أسوأ حالاتها وبشكل لم يعرفه الاقتصاد من قبل. عجز الميزانية وعجز ضخم في الميزان التجاري وصعود جنوني للديون الخارجية والداخلية (حوالي 140 مليار دينار) وتراجع نسب الاستثمار والادخار والتصدير وانهيار الدينار مقابل العملات الكبرى وارتفاع نسبة التضخم. ومن المنتظر أن تساهم حالة العزلة التي عليها النظام اليوم على المستوى الدولي في انسداد آفاق الاقتراض الأمر الذي سيداويه قيس سعيد بالسماح للبنك المركزي بتسليف الخزينة العامة للدولة أي الدخول في دوّامة طباعة العملة. ومعلوم أنّ هذه العملية ستفتح الباب على كل المشاكل المالية والاقتصادية.
الحصيلة الاجتماعية
هذه النتائج الاقتصادية أدّت إلى تفاقم المشاكل والأمراض الاجتماعية القادمة وظهور مشاكل وأمراض جديدة. لقد ارتفعت نسبة البطالة (حتى إذا قبلنا بالأرقام الرسمية) إلى أكثر من 15.8% (الثلاثي الثالث من سنة 2023 حسب معهد الإحصاء) وهي نسبة مجانبة للحقيقة بكثير وتوسعت دائرة التهميش والفقر (أكثر من 20% في تصريح لوزير الاقتصاد سنة 2020). وازدادت المقدرة الشرائية لعموم المواطنين وخاصة العائلات الفقيرة ومحدودة الدخل تدهورا نتيجة ارتفاع الأسعار حيث بلغت نسبة التضخم في وقت من الأوقات أكثر من 10% (8.1% في ديسمبر 2023). وعرفت كل الأمراض الاجتماعية الأخرى تسارعا وانتشارا بدءا من الهجرة المنظّمة وغير المنظّمة ناهيك وأنّ تونس أصبحت الثانية عربيا، بعد سوريا التي تمزقها الحرب الأهلية، في هجرة الأدمغة (قال الوزير السابق فوزي عبد الرحمان أنّ ما بين 55 و60 ألفا من أصحاب الشهائد يغادرون البلاد سنويا بحثا عن الشغل). وترتفع الأرقام إلى مستويات أكبر بكثير بالنسبة إلى بقية الشرائح الاجتماعية من العاطلين عن العمل وشباب الأحياء الشعبية والأرياف المهمشة. وقد بلغت حركة “الحرقة” ذروتها في صائفة 2023 الماضية.
ومن جانب آخر فقد بلغت نسبة الجريمة والجريمة المنظمة معدلات غير مسبوقة فيما سجلت دفاتر المحاكم معدلات عالية في حالات الطلاق كمظهر من مظاهر الأسرة والمجتمع. وانتشرت الأمراض العقلية وتشير الأرقام إلى أنّ أكثر من نصف التونسيين من كل الأعمار مصابون بمرض الاكتئاب و”الستراس”.
ينضاف إلى كل ذلك في السنتين الأخيرتين فقدان طائفة من مواد الاستهلاك الأساسية مثل الخبز والعجين ومشتقاته والحليب والسكر والقهوة وقائمة واسعة من الأدوية وغيرها. وقد دخلت إلى تقاليد المستهلك التونسي عادة الوقوف في “الصف” لاقتناء حاجاته الأساسية. وحتى في هذه الحالة لم تتحمل الدولة مسؤوليتها في تنظيم عملية التموين المنظمة le rationnement مما زاد في أتعاب المستهلك. ولا يمكن أن ننسى الإشارة إلى ما بلغته الخدمات العامة الإدارية والصحية وفي النقل والسكن من تردي خاصة في المدن الكبرى حيث بات التنقل جحيما لا يطاق وأسعار الأكرية في غير متناول عموم الناس والمستشفيات غير قادرة على استيعاب طالبي خدماتها.
في كلمة فإنّ حصيلة أكثر من عشر سنوات بعد الثورة على هذا الصعيد، كما على غيره، تراجعت أشواطا أقل ممّا كانت عليه الأوضاع قبل اندلاع الثورة. ولا تبدو المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وتوجهات قيس سعيد قادرة على تقديم أبسط الإجابات بل الأرجح أنّ الوضع ماض باتجاه مزيد التعقيد. ومن المتوقع مثلا أن تزداد أزمة الحبوب والأدوية ومواد أخرى كالسكر والقهوة وغيرها حدة طيلة سنة 2024 وربما للسنوات القادمة في ظل عجز الميزانية والارتفاع المرتقب للتضخم وحالة الجفاف. وبطبيعة الحال سيدفع المواطن من جلده فاتورة هذه الاختيارات الفاشلة.
الحصيلة السياسية
وهي بمعنى ما الأسوأ والأخطر ذلك أنها سجلت محو أثر الثورة محوا تاما والقضاء المبرم على ما أمكن للشعب التونسي أن يحققه في ثورة 2010 – 2011.
يتفق الجميع في تونس، وحتى خارجها، أنّ الثورة لم تتقدم إلاّ في الجانب السياسي وحققت للشعب التونسي مساحة واسعة من الحرية كانت في وقت من الأوقات تبدو أشمل وأعمق مما تحقق لشعوب عريقة في النضال السياسي مثل الشعب الفرنسي وشعوب أوروبا عموما. ورغم ما حيك من مؤامرات ومناورات بدءا من لجنة عياض بن عاشور وصولا إلى التحالف بين الغنوشي والباجي فإنّ الشعب التونسي واصل النضال من أجل تعميق نتائج الثورة مستفيدا من فضاء الحرية الذي خُيّل للجميع في وقت من الأوقات أنه بات مكسبا راسخا وغير قابل للانتقاص أو التراجع. غير أنّ موازين القوى لم تسمح بتجاوز الحد الذي بلغته ثمار الثورة. وبطبيعة الحال استمرت البرجوازية بكل فصائلها وشرائحها وتعبيراتها السياسية والإعلامية والدعائية في العمل علنا وسرا على التضييق على المكتسبات باتجاه غلق قوس الثورة والعودة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل 2010.
لقد استغلت البرجوازية حالة العجز الذي كانت عليه النسخة الجديدة من السلطة في تونس، النهضة والنداء خاصة، في ما يمكن تسميته “الدولة الفاشلة” لتدفع باتجاه تعفن الأوضاع العامة وتعفن الديمقراطية التونسية. وكان لها ما أرادت حتى اكتملت شروط إزاحة هذه المنظومة، بشكل ديمقراطي وعبر صندوق الاقتراع، واستبدالها بنسخة مغمورة غامضة ومغامرية لا تستند لا إلى تاريخ نضالي ولا إلى برنامج ولا إلى حضور في الساحة، النسخة الشعبوية بقيادة قيس سعيد. لقد تسلل قيس سعيد إلى الحكم في شبه غفلة من الجميع. ومنذ مجيئه إلى قصر قرطاج (الذي تعفف عن سكناه في البداية) بدأ يخطط إلى عملية انقلاب تام وعميق. وظل يراقب نضوج الأوضاع ليحدد ساعة الانقضاض على المنظومة وإعلان ساعة الشروع في تفكيكها. وكان ذلك يوم 25 جويلية 2021 تاريخ حل البرلمان وإعلان الانقلاب على مؤسسات الدولة.
وككل المنقلبين والرجعيين لم يكشف قيس سعيد عن كل نواياه دفعة واحدة بل توخّى أسلوب “التقسيط” الأسلوب الأكثر فعالية في المغالطة والتضليل. ولكن بعد سنتين ونيف من مسار الانقلاب انكشفت الحقيقة كاملة. فقد تمّ هدم منظومة الحكم التي أقامتها الثورة – بكل ما فيها من إيجابيات ومساوئ – وبنى بدلا عنها منظومة جديدة من حيث الهيكلة والصلاحيات جوهرها وضع أسس نظام الحكم الفردي المطلق. لا فائدة في استعراض كل تفاصيل الإجراءات التي اتخذها في المرسوم 117 في 22 سبتمبر 2021 وترسانة المراسيم والأوامر التي أصدرها لينظم بها عملية تفكيك أجهزة الدولة وحتى أجهزة تعتبر مستقلة عن السلطة التنفيذية مثل الهيئات الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء الخ…
لقد أدى هذا المسار إلى استصدار دستور جديد على المقاس وضع أسس الحكم من وجهة نظر قيس سعيد، ولا فائدة في التذكير بالفضائح التي واكبت صياغة هذا الدستور ويكفي الاطّلاع على تصريحات الصادق بلعيد لمعرفة التفاصيل. كما أثمر برلمانا جديدا ومجالس محلية وقريبا ستنضاف مجالس جهوية وأقاليم، كما سيتوسع نطاق الشركات الأهلية ليكتمل المشهد وليمرّ قيس سعيد إلى نيل ولاية جديدة على رأس الدولة.
من جانب آخر تتضمن الحصيلة محو كل الحقوق والحريات العامة تقريبا ويشهد على ذلك عدد المحاكمات وكثرة ملفات “التآمر على أمن الدولة” والقضايا بسبب “فعل موحش ضد الرئيس” أو على أساس المرسوم 54 سيء الذكر. ويجري الآن العمل على مراجعة قانون الجمعيات والأكيد أنّ قانون الأحزاب سيتلوه. كما يجري التحرش بالاتحاد العام التونسي للشغل والعمل في الخفاء على تفجيره من الداخل وعزل القيادة الحالية أو على الأقل بعض الرموز المطلوب رأسهم. وبطبيعة الحال في مثل هذا المناخ لا يمكن أن تبقى الحريات الفردية بمنأى عن الهجوم والاستهداف.
في كلمة عدنا إلى ما قبل نقطة الصفر أي إلى أوضاع ما قبل ديسمبر 2010.
شدة وتزول
علّمنا تاريخ الشعوب وتاريخ الثورات على وجه التحديد أنّ مسارات الثورة متعرجة وغير مستقرة ولا يمكن أن تسير في خط مستقيم. فالعملية تحكمها قواعد بل قوانين تسيّر الصراع بين الأقطاب الكبرى. بين البرجوازية الرجعية (البرجوازية العميلة عندنا في تونس) وجماهير الشعب التونسي وخاصة الشرائح الكادحة.
فعلى قدر وعي ودرجة تنظيم كلا الطرفين ترتسم ملامح التغيير الممكن تحقيقه كلما اندلعت انتفاضة شعبية. ومعلوم أنّ البرجوازية التي تستند إلى خبرة طويلة وإمكانيات مادية وغير مادية اكتسبت مهارة عالية في الدفاع عن منظومتها السياسية ونظامها الاقتصادي والاجتماعي. صحيح أنّ إرادة الشعب لا تقهر، ومهما كان بطش بن على فقد أجبرته الجماهير المنتفضة بعد شهر من المواجهة على الفرار. ولكن العبرة ليست في نيل النصر وإنما في المحافظة عليه. وقد أعطت التجربة التاريخية كما يقول ماركس “كان ما يتم الظفر به بنتيجة النصر الأول لا يصبح متينا ثابتا إلا بنصر ثان يحرزه حزب أكثر راديكالية وما إن كان يتمّ التوصّل إلى هذا وما كان يتحقق بالتالي ما كان ضروريا في اللحظة المعينة حتى كان الراديكاليون يغادرون الحلبة من جديد مع منجزاتهم”(2).
لقد غادرت القوى الثورية الحلبة فعلا ولم تعد قوة وازنة في الصراع الجاري الآن على الساحة ولكن هذا التقهقر ليس غير نكسة ظرفية تجري الآن تراكمات بما في ذلك تلك التي ينضجها قيس سعيد من حيث لا يشعر من شأنها أن تعيد “الراديكاليون” كما قال ماركس إلى مقدمة الأحداث. وإذا كانت أحداث الثورة قد أعطت البرهان على أنّ تطلعات الشعب التونسي وقواه الاجتماعية الأساسية (العمال خاصة) والسياسية (الأحزاب الثورية) لم تنضج بما فيه الكفاية كي تحقق ثورة ظافرة ليس فقط يوم قيامها وإنما بالخصوص على امتداد الأوقات اللاحقة فإنّ الديكتاتورية كما يقول مرة أخرى كارل ماركس “تعين على الإمبراطورية ذاتها أن تخلق الشروط والظروف التي كان لا بد في ظلها أن تبلغ هذه التطلعات حد النضج”(3).
ذلك هو الأمل والمأمول وتلك هي حركة التاريخ وتلك هي خاصيات مسار الصراع بين الثورة والثورة المضادة. ثورة فانتكاسة فثورة. أكثر من سبب وعامل يشير إلى أنّ الثورة في تونس آتية لا ريب لأنه وكما قال ماركس: “الحق في الثورة هو “الحق” الوحيد التاريخي فعلا الحق الوحيد الذي ترتكز عليه جميع الدول الحديثة بلا استثناء”(4).
هوامش
- (1) الثامن عشر من برومير لويس بونابارت – كارل ماركس
- (2) نفس المصدر
- (3) نفس المصدر
- (4) نفس المصدر