بقلم جيلاني الهمامي
حلقة غير مفهومة في الإجراءات
وافق مجلس الوزراء يوم 25 جانفي المنصرم على مشروع قانون يتعلق بتنقيح القانون عدد 35 لسنة 2016 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي وأحاله على مجلس النواب حيث تم تسجيله بمكتب الضبط المركزي بتاريخ 26 جانفي 2024.
بعد أربعة أيام، أي بتاريخ 30 جانفي 2024، تقدمت الحكومة إلى مجلس النواب بمطلب “استعجال نظر” في المشروع المذكور. وهو أمر مفهوم بحكم ضغط الأوضاع المالية للميزانية وربما أيضا بالنظر إلى ضغط آجال عمليات صرف مهمّة ومرتقبة في الأسابيع القليلة القادمة.
يوم الأربعاء 31 جانفي اجتمعت لجنة المالية، على عجل، لتستمع إلى وزيرة المالية، بصفتها ممثلة للحكومة صاحبة المشروع وكذلك إلى محافظ البنك المركزي. وأعدّت تقريرها الذي تضمن موافقة اللجنة على مشروع القانون.
يوم الخميس 1 فيفري الجاري نظر مكتب المجلس برئاسة بودربالة في بعض التقارير التي أعدتها لجان المجلس ومن بين هذه التقارير، تقرير لجنة المالية حول المشروع المذكور وقرّر إحالة التقرير ومشروع القانون على الجلسة العامة مساء يوم الثلاثاء 6 فيفري الجاري للنقاش والمصادقة.
يوم الجمعة 2 فيفري الجاري اجتمع مجلس إدارة البنك المركزي للنظر في عدد من المسائل وأصدر بلاغا تناول فيه من جملة ما تناول موضوع تقديم البنك المركزي لتسهيلات مالية للخزينة الذي تضمنه مشروع قانون الحكومة. ومن جملة ما جاء في بلاغه الفقرة التالية “واطلع المجلس على مشروع القانون المتعلق بالترخيص للبنك المركزي بمنح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية، حيث شدّد على أهمية أن يظل البنك المركزي التونسي، الذي تتمثل مهمته في الحفاظ على استقرار الأسعار، يقظا إزاء التداعيات الكامنة التي قد تنجم عن مثل هذا التمويل”. لكن وإلى جانب ذلك يبدو، حسب ما راج من أخبار، أنّ مجلس الإدارة كان نحا باللائمة على السيد المحافظ في ما يتعلق ببعض ما جاء في تصريحاته أمام لجنة المالية في البرلمان. فمجلس إدارة البنك لا يبدي نفس الحماس لهذا الاختيار الذي يرى فيه، كغيره من الجهات الاقتصادية والمالية، مغامرة ستزيد في مخاطر الأزمة الاقتصادية وفي استفحال ظاهرة التضخم وانهيار قيمة العملة التونسية بما ينجر عن ذلك من مشاكل إضافية تقترن بها.
والملاحظ من سلسلة التواريخ المذكورة أنّ عشرة أيام فقط تفصل بين تاريخ وصول مشروع القانون إلى المجلس (26 جانفي) وتاريخ المصادقة عليه (6 فيفري) ونشره في الرائد الرسمي من الغد يوم 7 فيفري الجاري، وهو دليل على أنّ هذا المشروع قد حظي فعلا بـ”استعجال النظر” حتى وإن صاحب ذلك بعض الإخلالات الشكلية والجوهرية في مسار إصدار هذا القانون الجديد. من ذلك أنّ لجنة البرلمان المختصة (لجنة المالية) لم تتمتع بمتسع من الوقت لتجري أوسع الاستماعات الممكنة حول قانون بمثل هذه الخطورة. فالاستماع فقط إلى وزيرة المالية ومحافظ البنك المركزي غير كاف ولا يمكن أن يضفي على عمل اللجنة الشرعية الكافية حتى من الناحية التقنية للمسألة.
من جانب آخر فقد اعترفت وزيرة المالية في معرض ردودها على النواب في خاتمة نقاش مشروع القانون أنّ الموارد الذاتية للدولة في الثلاثي الأول من هذه السنة لا تسمح لها بمواجهة جملة المصاريف المستوجبة في هذه المدة (حوالي 7 آلاف مليون دينار خدمات ديون داخلية وخارجية وأجور ونفقات أخرى) علما وأنّ الحكومة مطالبة بتسديد مبلغ يزيد عن (3000) ثلاثة آلاف مليون دينار، بالعملة الصعبة طبعا، بعنوان قروض رقاعية صادرة بالسوق المالية العالمية سنة 2017. فيوم 13 من هذا الشهر ستكون الحكومة التونسية، كما قال أحد أعضاء البرلمان الحالي يوم نقاش مشروع القانون، مطالبة بتسديد ثمن باهض لخياراتها الخاطئة وقبولها رهن كرامتها لدى طغم المال الامبريالي العالمي، فما سبق أن دفعه لها المانحون الدوليون من قبل لم يكن البتة حبا فيها وإنما طمعا في استبقائها تابعة ذليله للقوى العظمى الاستعمارية.
خيار سيادي أم إكراه مسلّط
يهدف مشروع القانون موضوع حديثنا في فصله الوحيد إلى الترخيص للبنك المركزي بصفة استثنائية في تقديم قرض للحكومة عبر الخزينة العامة للدولة بمبلغ سبعة مليار دينار دون فوائد يسدّد على عشر سنوات مع مدة إمهال بثلاثة سنوات لتمويل عجز ميزانية سنة 2024. هذا الخيار الاقتصادي والمالي يتجاوز في الحقيقة حدود تنقيح الفقرة الرابعة من الفصل 25 من القانون الأساسي للبنك المركزي والتي تنص على “لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة”. إنه خيار التراجع في “استقلالية البنك المركزي” الذي أعلنه قيس سعيد منذ مدة وذكّر به مجددا يوم الثلاثاء 5 فيفري الجاري في زيارته لقصر الحكومة يوما قبل انطلاق مداولات مجلس النواب بخصوص ذات الموضوع. فقد أعلن قيس سعيد أنّ البنك المركزي “مؤسسة عمومية ويجب أن تنصهر السياسة النقدية للبنك في إطار سياسة الدولة”، بعد أن أكد أنه “لا توجد أيّ مؤسسة عمومية مستقلة عن الدولة” مشيرا بالمناسبة إلى أنّ “مسألة استقلالية البنك المركزي عن الدولة ظهرت بناء على وصفات من الخارج غايتها تفجير الدولة”.
والحقيقة أنّ هذا الموضوع كان ومازال منذ حوالي قرنين من الزمن مثار جدل لا ينتهي بين المدارس الاقتصادية المختلفة، بين أنصار فكرة استقلالية البنك المركزي عن الحكومة ومعارضيها. وكان الأمر كذلك في تونس عندما بدأ الحديث عن إرساء “استقلالية البنك المركزي” عن الحكومة. فقد ذهب الاقتصاديون والمحللون السياسيون وغيرهم مذاهب متباينة في الموقف من هذا الخيار وجرى في مجلس نواب الشعب جدل واسع حول الموضوع شمل حتى نواب كتلة “الجبهة الشعبية” الذين انقسموا بين مؤيد ومعارض إذ صوّت بعضهم مع هذا التوجّه فيما صوّت البعض الآخر ضده. وللتذكير إنّ المسألة طرحت لأول مرة فعلا كتوصية من صندوق النقد الدولي في إطار اتفاقية القرض الممدد لسنة 2013.
أمضى إلياس الفخفاخ وزير المالية والشاذلي العياري محافظ البنك المركزي آنذاك اتفاقية قرض من صندوق النقد الدولي بـ1.7 مليار دولار مقابل جملة من الشروط وردت في وثيقة الاتفاق منها بالخصوص “رسملة البنوك العمومية الثلاثة وتدعيم استقلالية البنك المركزي وقانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص ومراجعة منظومة الدعم والتحكم في كتلة الأجور ونفقات التسيير والتصرف العمومية والمصادقة على مشروع قانون الاستثمار…” وغيرها من الإصلاحات التي تعهدت حكومة الترويكا وقتها بإنجازها. وتجسيما لهذا التعهد مرّر تحالف حزب النداء وحركة النهضة في البرلمان قانونا أساسيا جديدا للبنك المركزي نصّ بشكل صريح ووفق ما هو مطلوب من صندوق النقد الدولي على استقلالية البنك المركزي (أنظر أسفله الفصول المتصلة بالموضوع).
بناء على هذه الحقائق يحاول قيس سعيد والحكومة تمرير فكرة التراجع في استقلالية البنك عن الحكومة على أنها بدافع رفض “وصفات من الخارج غايتها تفجير الدولة” وبهدف بسط الدولة نفوذها على كل مؤسساتها العمومية. وهي ليست غير تبريرات سياسية على الطريقة الشعبوية التي توظف الشعارات الكبرى وتعبئ العواطف لتمرر أهداف أخرى لا تفصح عنها بشكل مكتمل وصريح.
إنّ الدافع الرئيسي لهذا الخيار، الآن وهنا، هو انسداد كل آفاق الحصول على قروض من الخارج أو من الداخل والحال وأنّ الميزانية في حاجة إلى أكثر من 28 مليار دينار لتغطية مصاريف سنة 2024. فقد سبق أن قدمت “الكتلة الديمقراطية” في برلمان سنة 2019 مبادرة في هذا الاتجاه وأودع عدد من نواب المجلس الحالي يوم 6 جويلية الماضي مقترحا في الصدد أيضا ولم يكن هناك أيّ حرص من قيس سعيد ولا من حكومته ولا من برلمانه على “استعجال النظر” في الموضوع. بالعكس من ذلك تماما فقد نفى وزير الاقتصاد السابق، سمير سعيد، قبل إقالته نفيا قطعيا وجود أية نية في التراجع في مبدأ استقلالية البنك المركزي.
اليوم وكما يقال “وقفت الزنقة بالهارب” إذ لم يعد أمام الحكومة من حل غير اللجوء إلى البنك المركزي بتسليف للاقتراض. وهو ما أقرت به وزيرة المالية يوم 6 فيفري الجاري أمام البرلمان قائلة “لا حلول بديلة عن اللجوء إلى البنك المركزي خلال هذه الظرفية التي تستوجب توفير حاجيات تمويل بقيمة 15.6 مليار للثلاثي الأول من 2024”. “وقفت الزنقة بالهارب” لأنّ عدم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بل وتصنيف تونس من قبل الصندوق ضمن “القائمة السلبية” قد أغلق الباب أمام تونس للحصول على قروض خارجية عدا مبالغ صغيرة ومحدودة ومرتهنة هي الأخرى بمفاوضات ومفاهمات جديدة وبشروط مجففة وكلفة مادية عالية من ناحية نسب الفائدة الموظفة عليها (حوالي 10%). أما على المستوى الداخلي فإنّ السوق المالية التونسية قد بلغت أقصى ما بإمكانها تقديمه (la saturation) وما عاد بإمكانها استيعاب ما تعرضه الدولة من سندات رقاعية متنوعة لتمويل الميزانية. أمام هذه الوضعية بات الحل الوحيد هو رفع القيد عن البنك المركزي لتسليف الحكومة خلال الثلاثي الأول ما قيمته 7 مليار دينار. وبطبيعة الحال لم يقع في ذلك مراعاة الانعكاسات السلبية على الاقتصاد والمقدرة الشرائية والتضخم وقيمة العملة مستقبلا عكس ما حاولت وزيرة المالية إقناع الرأي العام به لتبديد المخاوف الناجمة عن قطع هذه الخطوة.
مع أو ضدّ ولماذا؟؟؟
يتطلب الإعلان عن موقف مؤيد للترخيص للبنك المركزي بتسليف الحكومة وبشكل أشمل مؤيد لاستقلالية البنك أو عن موقف مناهض لذلك مجالا أوسع لتقديم الحجج النظرية والاقتصادية التي يعتمدها هذا الجانب وذاك من المدارس الاقتصادية الكبرى بهذا الخصوص.
لكن وفي الحالة المخصوصة وبصرف النظر عن الموقف النظري العام الذي ينبغي من وجهة نظرنا الانتصار له، فإنّ اللجوء إلى البنك المركزي في الظرفية الراهنة للحصول على هذه المبالغ وللأغراض الحكومية وبعض التفاصيل الأخرى التي لم يقع الإعلان عنها بالوضوح التام، هو مغامرة أخرى ستكون تبعاتها وخيمة على الاقتصاد التونسي ككل وبالنسبة إلى النظام النقدي وإلى مصالح المؤسسات التونسية وخاصة الصغرى منها والمتوسطة وبالنسبة إلى المواطنين من الطبقات والفئات الكادحة والفقيرة والمقدرة الشرائية لعموم المستهلكين.
الأمر الأول هو أنّ التنقيح المدخل على القانون الأساسي للبنك المركزي باتجاه إلغاء استقلاليته قد فتح الباب أمام الحكومة للجوء إلى الاقتراض من البنك المركزي كلما وجدت نفسها في وضع شبيه بالوضع الحالي أي وضع العزلة على الساحة المالية الدولية من جهة ونضوب منابع الاقتراض الداخلي. لقد وجدت الحكومة الحل السهل الذي سيعفيها عناء البحث عن مصادر التمويل في الخارج والداخل في ظل أوضاع دولية ضاغطة ومتحولة. ومن المتوقع أن تطلب الحكومة بعد مبلغ 7 مليار دينار مبالغ أخرى في الثلاثي الثاني أو الثلاثيات الموالية كلما كانت الموارد الذاتية للميزانية غير كافية لمواجهة المصاريف القادمة وخاصة تلك التي تتعلق بخدمات الدين والأجور والدعم الخ… وكلما اضطرت إلى تسديد عجز الميزانية. هنا يكمن الخطر كل الخطر لأننا سندخل مجال طباعة الأوراق النقدية planche à billets للاستجابة إلى طلبات الحكومة. فالمبالغ التي سيقدمها البنك للحكومة لن يكون هناك ما يضاهي قيمتها في مستوى الثروة الحقيقة والإنتاج المادي بل ستكون بالضرورة عمليات طباعة تمثل ثروة وهمية بل ثروة منعدمة أصلا. وإذا كانت هذه العملية ستوفر سيولة للبنك المركزي وبالتالي للخزينة العامة فإنها بالمقابل ستؤثر سلبا في قيمة العملة التونسية.
إنّ استسهال عملية طباعة الأوراق النقدية تحت ضغط أوضاع الأزمة وضغط آجال تسديد الديون وخدماته أو صرف الأجور سيصبح من ناحية أخرى هو المصدر الرئيسي للتضخم والدافع الرئيسي للدخول في دوامة تضخمية (spirale inflationniste) يصعب الخروج منها. ومن المرجح أن ترتفع نسبة التضخم لتكون برقمين وبدرجات لم يعرفها تاريخ تونس. وهكذا سيقع الزج بالاقتصاد التونسي وبالنظامين المالي والنقدي في حالة ارتباك بل في فوضى لا حول ولا قوة للحكومة للتعاطي معها.
ومن الأضرار الناجمة عن هذا الخيار هو أنّ الدولة ستصبح مزاحما قويا لمؤسسات الإنتاج الصغرى والمتوسطة إذ ستستأثر بما يستطيع البنك المركزي توفيره لسد عجز الميزانية وبالتالي سيكون غير قادر على الاستجابة لاحتياجات هذه المؤسسات التي تمثل الأساسي من نسيجنا الإنتاجي. علما وأنّ هذه المؤسسات، مثلها مثل عموم المستهلكين، التي تعاني من نسبة فائدة مديرية عالية (8% وقد أقرها البنك المركزي مؤخرا) مرشحة لأن تتكبد خسائر إضافية كلما لجأ البنك المركزي إلى الزيادة في نسبة الفائدة المديرية للحد من التضخم.
الحل الحقيقي هو إعادة آلة الإنتاج وخلق الثروة ومواطن الشغل للعمل والإنتاج. فذلك من شأنه أن يوفر القيمة المضافة التي تحسّن من نسبة الاستثمار وبعث المشاريع وبالتالي خلق مواطن الشغل وتنشيط الاستهلاك ومن ورائه محركات الاقتصاد الأخرى. ولا بأس أن تلجأ الدولة، أيّ دولة بما في ذلك في الدولة الاشتراكية في بداية عهدها، وأعني بذلك أوّل دولة اشتراكية في الاتحاد السوفياتي، إلى الاقتراض لتمويل المشاريع المنتجة في خدمة الأغراض المشار إليها قبل قليل. وهو ما لا ينطبق على الحالة التونسية الراهنة التي تلجأ فيها الدولة للاقتراض مباشرة من البنك المركزي – وإن كان من دون فائدة – لمعالجة عجز الميزانية وبالتحديد لتسديد الديون وخلاص الأجور وباقي أبواب التصرف والاستهلاك.
ملحق:
الفصل الذي تم تنقيحه من القانون عدد 35 لسنة 2016
الفصل 25
- البنك المركزي هو الوكيل المالي للدولة في ما تنجزه من عمليات وبالخصوص عمليات الخزينة والعمليات المصرفية.
- يتولى البنك المركزي في بمقره أو بفروعه مسك الحساب الجاري للخزينة وينجز جميع عمليات التوفير والخصم المأذون بها على هذا الحساب.
- يتولى البنك المركزي، مجانا :
مسك حسابات الأوراق المالية التابعة للدولة والتصرف فيها.
خلاص السندات التي تصدرها الدولة أو تضمن فيها كما يتولى خلاص التعهدات المحمولة على الدولة. - لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة.
- ولا ينطبق هذا التحجير على عمليات المساعدة المالية التي يمنحها البنك المركزي حسب الشروط المبينة بهذا القانون لفائدة البنوك والمؤسسات المالية التي تملك الدولة بصفة مباشرة او غير مباشرة مساهمات في رأسمالها.