بقلم ماهر الزعق
على أيّ حال، ليست الحكومة هي من يحكم وحتما ليس مكتب الضبط المُلقّب بمجلس النواب، هذا الاستثناء يزيد الأمر تعقيدا، لكن لا بدّ من المحاولة، فالفهم هو أولى خطوات المقاومة.
الأوضاع تزداد سوءً، كساد مستشرٍ، غلاء المعيشة، البطالة تفاقمت مثلها مثل الحرقة والهجرة والجريمة، المخدّرات منتشرة، أدوية مفقودة، المرافق العامّة تعيسة، وجوه كئيبة، طوابير، في كلّ مكان طوابير، الحُمق ينتشر مثل الوباء، مثل النار في الهشيم، كيف وقعنا في هذا الكمين؟ من يحكم تونس اليوم؟
الرئيس: الآمر، الناهي!
يعزل ويُعيّن، الوزير كما السفير والمدير، الوالي كما القاضي والجابي، يضع القانون، يُصدر المرسوم، هو من كتب الدستور، كلّ يوم شتائم وتهديدات، مغالطات وأحجيات، يتّهم ويُحقّق، تأبّط شرّا، نسي الابتسام، هو من يصدر الأحكام ، هو السجّان، لا أحد في مأمن، لا إعلامي ولا قاضي، لا سياسي ولا نقابي، لا يساري ولا إخواني، لا تجمّعي ولا ديمقراطي، لا طالب ولا تلميذ، لا محامي ولا طبيب، لا عامل ولا بطّال ، لا مدوّن ولا فنّان ..، لكن ماذا لو كان مجرّد واجهة لمن يتدبّر الأمور من وراء الستار ؟
الجهاز: جهاز أمن الدولة
جهاز يلفّه الغموض، يبدو أنّ مقرّه الرئيسي قائم في شارع الثورة، مُحاط بالحواجز والأسلاك الشائكة، جهاز يتعاطى التلصّص والترهيب والتضليل والتنكيل والاختراق والتوجيه، الجميع في مرمى نيرانه، العامّة والخاصّة، المصنع والجامعة، الحارة الشعبية والأحياء الراقية، البيت القصديري والقصر في الضاحية..، يستخدم جيش من اختصاصات متنوّعة، سياسيين تُعساء، قضاة مُحافظين، محامين أخسّاء، مُخبرين محترفين، أئمة جبناء، إعلاميين بلا ذمّة، وشاة بلا هويّة، نقابيين انتهازيين، مُدراء سفهاء، منحرفين مزطولين، مُومسات بائسات، أطبّاء جلاّدين، مهرّبين أدعياء ، لصوص أغبياء، نشطاء مُزيّفين، خبراء المنظومة ومثقفي البِلاط، أوغاد من كلّ صنف وأفّاقين من كلّ درب.
هذا هو الجهاز، لكن ماذا لو كان مجرّد أداة تنفيذ؟
الكمبرادور: طبقة وليس تجمّع عائلات
طبقة اجتماعية تجني أموالا طائلة من السمسرة لفائدة البرجوازية الأجنبية، تعمل أساسا في القطاعات الهشّة وغير المنتجة، الخدمات، المناولة، الرّيع، التهريب، تشكّل “كرتالات” احتكارية، دائرة ضيّقة، ثرواتها متضخّمة ونفوذها ناجز في أكثر من دائرة وجهاز، من يملك يحكم، لكن هل يتحكّم سمسار؟
القوى الخارجية: الأخطبوط
الدول الاستعمارية، العريقة منها والصاعدة، الأنظمة الإقليمية، المؤسسات المالية، التجمّعات الاقتصادية، الهيئات السياسية.. ومن الوراء ووراء الوراء، نجد ديناصورات العصر، الشركات المتعدّدة الجنسية، هدفها النهب والهيمنة والإخضاع وإعادة إنتاج المنظومة، الغاية تبرّر الوسيلة، تدّخلها في بلادنا لا يخفى على أحد، تتحكّم عن طريق الوكلاء، الكمبرادور الاقتصادي والسياسي، تتنازل عن الصغائر للصغار، لكن كما هو معلوم فإنّ قانون المنافسة والاحتكار يجري على الجميع، يجري على الصغار ويجري على الكبار!
الانسحاق: المزاج الشعبي
ما كان لهؤلاء إمكانية حكم البلاد لولا ما آل إليه المزاج الشعبي، عندنا الاستكانة والكسل واليأس والتسليم (Résignation) والاستسلام والحاجة إلى الأب الحامي (Le père sévère mais protecteur) والتطبيع مع الخصاصة والرداءة والتفاهة، التطبيع مع التملّق والفساد، مع الأوهام والاستعراض، مع الشماتة والهذيان، هذا المزاج هو نتيجة تركيبة ذهنية وخيبات ما بعد الثورة ، أمّا ما زاد الطين بلّة، فهي الصعوبات اليوميّة واللهاث المتواصل وراء لقمة العيش والتواجد في مرمى نيران الجهاز.
الأمور لم تستقرّ بعد، الكلّ يتعامل مع الكلّ، بالتوافق والنفاق، بالتهديد والابتزاز، بالطاعة والولاء بالتواطؤ والتلاعب، بالتجاهل والتآمر، بالتظاهر والتخابر، لكن جميعهم مُستفيد من تدجين الإعلام والقضاء، من تركيع النقابات وخنق المعارضة والمجتمع المدني، جميعهم مستفيد من نشر الخوف والحمق والوهم والضحالة والبلادة والاستكانة، من إبعاد الناس عن السياسة وتطبيعهم مع الاستبداد والطوابير والخصاصة، جميعهم يحتقر الشعب ويمقت الديمقراطية ويخاف الثورة. وعلى هذا وذاك يبدو الأمر جليّا كلّ الجلاء، إمّا ثورة وإمّا الانسحاق.
المعركة ليست متكافئة، لكننا لا زلنا نجيد المقاومة!