بقلم يحيى يعقوبي
صناعة المحتوى الرقمي والذكاء الاصطناعي
إذا ما اعتبرنا أن العولمة ساهمت في انتشار التكنولوجيّة ووصولها إلى أكبر عدد ممكن من الناس، فأصبحنا نتحدّث عن سرعة تلقّي المعلومة دون تأكيد مسبق على مصدرها حتى أننا أحيانا نسلّم بالإشاعة ونعتبرها حقيقة مطلقة خاصة إن وردت ضمن محتوى مزيّن ومنمّق يتماشى مع العقلية المستحدثة التي تستهلك كل المواد المقدّمة لها دون وعيٍ نقدي واعتبارها مسلّمات حتى وإن كانت مصادرها مجهولة. ولعلّ هذا ما يجعلنا نستنتج أن هذه المحتوى الرقمي رغم أن الأغلبيّة يذهبون في اعتباره يسهّل حياة الناس ويسرّع في تلقّي المعلومة ونقل الحدث حينيًّا، إلا أنه يكون في أغلب الأحيان موجّهًا ومستغَلًّا بأبشع الطرق للمغالطة وانتهاك الخصوصيات الإنسانية والمعطيات الشخصية، خصوصا وأن الشركات الرّاعية هي شركات ذات غايات ربحيّة تهيمن على مجمل القطاعات. وسرعان ما نتبيّن موقفها من القضايا الإنسانية خصوصا وأنها لا تتوانى عن إعلانها الوقوف في صفّ الكيان المحتل ودعمه ماديا ومعنويا ومحاولة التطبيع مع العنف والانتهاك وجعلها مشاهد عادية في الذاكرة الجمعيّة الإنسانية، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما يؤكد الخطر الدّاهم الذي أصبح يسيّر حياة الأفراد والمجتمعات ويتحكّم فيه ويصنع هو ذاته رأيها موقفها. ولقد تبيّن من خلال هاته الوسائل مسألة يمكن اعتبارها أخطر الوسائل التوجيهيّة التي خلقتها الرأسمالية لتحلّ محلّ العقل النقدي والبحثي للمواطن ألا وهو الذكاء الاصطناعي الذي قد “يعوّض” العقل الإنساني في المستقبل وهو ما مهّد له صناعة المحتوى من خلال التوجّه إلى إضعاف الملكات النقدية الإبداعية والهواجس التي تحرّك الإنسانية وتجهيز البديل الاصطناعي الذي سيفكّر مكان الإنسان، وهو ما يؤكد التطوّر السّريع والدائم لوسائل السيطرة على المجتمعات وجعل هذه الأنساق بمثابة آليات الدعاية والتّوجيه التي تقبع في قبضة الرأسمالية والتي لطالما اِنبت وسائلها على التّضليل والتّعتيم والتّحكّم وجعل عملية التلقّي استهلاك رديءٌ وتوجيه الاهتمامات اليومية للمواطن عبر المعلومات الزائفة والتشويش على الحقائق وتصل أحيانا إلى التأثير السلبي على الصحة والسلامة العقلية والنفسية للإنسان، وهو ما يطرح عدّة تساؤلات حول كيفية مواجهة هذه الأنساق التي تهدف إلى السيطرة على العقول والملكات النقدية والإبداعية وتوجيهها.
أيّ دور للمثقف في تنوير الرأي العام؟
لعلّ التجارب المجتمعيّة برهنت على دور المثقفين والفنانين والكيانات الثقافية بشكلٍ عام في صناعة الرأي العام وتبنّي القضايا الإنسانية الراهنة والدفاع عنها على محامل مختلفة وبوسائل وأدوات متنوْعة، على اعتبار قوّة التأثير التي تتوفر عليها هذه المحامل ودرجة الوعي التي تكون محرارًا للشعوب ومحرّكًا أساسيًّا للمثقفين في صناعة الخطاب وجعله لسان الشعوب من خلال ما يؤرقها من قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وعليه يمكن اعتبار أنّ المثقّف ليس في معزلٍ عن هاته القضايا من خلال دوره في رصد التناقضات الاجتماعية وتقديم الرّؤى النقديّة والرافض للموجود ومحاربة السلوكات والبناءات الفكرية التي ترذّل السياقات التعليميّة والثقافية العامة بدافع من الالتزام والتّموقع في صف الشعوب المضطهدة، ولطالما كان للمثقّفين والنّخبة دور أساسي في العديد من المحطّات النضالية العالمية والوطنية وفي أغلب الثورات في العالم حين يأتي دوره التّوجيهي الذي يرصد المتناقضات ويحاول تحويل وجهة الجماعة إلى الهدف الأسمى والأساسي المرجوّ، سواء كان ذلك في الدفاع عن الحريات الفردية والجماعية أو إماطة اللثام عن الانتهاكات التي تطال المجتمعات وتقديم الحلول والتصوْرات والرّؤى وطرح خريطة الطريق التي من شأنها أن تقود وتوجّه إلى الكشف عن آليات الاستبداد والقمع، العلنيّة والمخفيّة، حتى أن هذا الدّور يسمو أحيانا ويتعاظم إلى درجة القيادة والوقوف في الصفوف الأمامية في التغيير الاجتماعي، فالمثقف اليوم من شأنه أن يحرّك مجتمعه ضدّ أيّ من الطروحات المعادية للإنسانية ولحقوقها وثوابتها، بالتالي نحن نقف أمام مسؤوليّة تاريخية واجتماعية وفكريّة للمثقف في علاقته بعصره ومحيطه الذي يتأثر ويؤثّر فيه مع تنامي التناقضات والأنساق الداعية إلى إفراغ المضامين التوعويّة والنقدية من البنى الاجتماعية مهما كان نوعها، فنيّة أو تعليمية أو إعلامية، وتوجيه الرأي العام إلى النّأي عن قضاياه الحقيقية الحارقة والملفات المطروحة على طاولة السلطة. ولعل ما ساهم في حملة التّرذيل هذه وسهّل عملية انتشار السريع هي وسائل الاتصال الحديثة وصناعة المحتوى الرّقمي الذي تتباين ردود الأفعال حوله.