بقلم مرتضى العبيدي
طلب ودّ افريقيا عبر اجتماعات القمة
شهدت الفترة الفاصلة بين ديسمبر 2022 وجانفي 2024 تسابقا وتلاحقا لكبريات الدول الامبريالية لعقد اجتماعات قمة ثنائية تجمع كلا منها برؤساء الدول الافريقية.
فبين 13 و15 ديسمبر 2022، دعا الرئيس بايدن “نظراءه” الأفارقة إلى اجتماع قمة في واشنطن حضرته 49 دولة من أصل 54 (إذ غابت كل بوركينا فاسو وغينيا ومالي والسودان بسبب تجميد عضويتها في الاتحاد الأفريقي، أما إريتريا فلم تحضر لكون علاقاتها مع الولايات المتحدة محدودة للغاية). ويُشكّل عدد الدول المشاركة في القمة مؤشرا إيجابيا للأميركيين في تأسيس “الشراكة النوعية” التي تطمح لها واشنطن في ظل ما تعتبره اكتساحا للقارّة خاصة من غريميها الصيني والروسي. وهي ثاني قمة بين الطرفين بعد تلك التي انعقدت عام 2014 من قبل الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وخلال شهر جويلية 2023، احتضنت مدينة سوتشي الروسية القمة الروسية الافريقية الأولى والمنتدى الاقتصادي الروسي الافريقي، وقد حضر القمة 50 دولة افريقية من أصل 54. أما المنتدى فقد تابع فعالياته أكثر من 9 آلاف ضيف بين مشاركين وملاحظين وإعلامين قدموا من 104 دول.
ومباشرة بُعيد هذه القمة، انعقد في بيكين بين 28 أوت/أغسطس و2 سبتمبر “ملتقى السلام والأمن الصيني الافريقي” في دورته الثالثة، وهو إحدى آليات “منتدى التعاون الصيني الأفريقي” الذي يُعقد كل ثلاث سنوات منذ عام 2000، ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه وسيلة مهمة لتعزيز النفوذ الصيني في القارة من خلال تعزيز مصالحها الاقتصادية والتجارية.
أما فرنسا والتي خصصنا لها الجزء الأول من هذا المقال، فإنها أصبحت تسابق الزمن لتعويض ما خسرته من نفوذ في كامل القارّة وخاصة في بلدان الساحل الافريقي التي أطردت منها شرّ طردة. وهي تحرّك ما تبقّى لديها من عملاء لحبك المؤامرات ضدّ تلك الدول والتخفيف من حدة الشعور المعادي لفرنسا في معظم البلدان الافريقية. لذلك رأينا ماكرون يتنقل بنفسه إلى القارة في أول زيارة له خارج بلدان الاتحاد الأوروبي بُعيد انتخابه لولاية ثانية. ويقدّم خطابا مخادعا يدّعي فيه الاعتراف بجرائم الاستعمار الفرنسي في افريقيا، ويعلن نهاية عصر “افريقيا الفرنسية” ويدعو فيه إلى إقامة علاقات جديدة، علاقات الندّ للندّ قوامها المصالح المشتركة بين الطرفين.
بل إن إيطاليا لم تتوان مؤخرا عن مغازلة القارة السمراء، فدعت رئيسة وزرائها رؤساء الدول الافريقية إلى قمة افريقية إيطالية انعقدت بروما يوم 30 جانفي 2024 حضرها ممثلون عن مؤسسات وبلدان الاتحاد الأوروبي وممثلون عن 23 دولة افريقية (رؤساء دول وحكومات)، وكان هاجسها الأول والأخير ضمان أمن أوروبا بتوريط المزيد من الدول الافريقية في حراسة الحدود درءا لموجات الهجرة غير النظامية المتجهة نحو أوروبا عبر إيطاليا. ولعل المنحة السخية التي تقرّر منحها لموريطانيا التي قبلت إقامة معسكرات على أراضيها لإيواء المرحّلين قسرا من المهاجرين غير النظاميين، خير دليل على ذلك.
وزيادة عن هذه القمم، تشهد إفريقيا جولات مكوكية لكبار مسؤولي هذه الدول خاصة وزراء خارجيتها الذين أصبحت زياراتهم لإفريقيا تتكرر أكثر من مرّة في السنة الواحدة.
انزعاج أمريكي من الحضور الصيني في افريقيا
وإذا كان للامبريالية الأمريكية حضور وازن في افريقيا، عبر أدواتها العسكرية المباشرة منها (القواعد القارة) وغير المباشرة (القواعد المتحركة ونشر الأساطيل) والذي تعرضنا إليه في الجزء الثاني من هذا المقال، وكذلك تدخلها الاقتصادي عبر أدواتها مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية التي تسيطر عليها بلا منازع، فإنها تعبّر عن قلقها الكبير بخصوص الحضور المتزايد في افريقيا لمنافسيها مثل روسيا والصين، وخاصة هذه الأخيرة التي تركز على “قوتها الناعمة” للتغلغل في اقتصاداتها والاستفادة من مواردها الطبيعية. وتسعى الصين التي تغلغلت خلال السنوات الأخيرة في اقتصاديات الدول الأفريقية، سواء عبر تمويل مشاريع في هذه الدول أو نقل بعض التكنولوجيات الحيوية، إلى تعزيز مكانتها من خلال التوقيع على عقود اقتصادية واستثمارية أخرى تشمل شتى المجالات. فهي تريد من ناحية تنشيط اقتصادها وجعله يتنامى بشكل أسرع وأقوى، ومن ناحية غلق المجال أمام الولايات المتحدة وأوروبا اللتين تشتكيان من حضورها المتنامي في أفريقيا. إذ يُذكر أن تجارة الصين مع أفريقيا تجاوزت الولايات المتحدة وهي تُعد اليوم أكبر شريك تجاري ثنائي الاتجاه لأفريقيا، حيث بلغت قيمتها 254 مليار دولار في عام 2021، متجاوزة بذلك أربعة أضعاف التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا.
وتشير دراسة أجرتها “وكالة ماكنزي الأمريكية” أن أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حاليا في أفريقيا. بينما تتحدث أخرى عن 2500 شركة، 90 بالمائة منها شركات خاصة. كما يتوقع اقتصاديون أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من أفريقيا في حلول 2025 إلى 440 مليار دولار، أي بزيادة قدرها 144 بالمائة. وتعد جنوب أفريقيا وأثيوبيا من بين الدول التي تتصدر الطليعة فيما يتعلق بالاستثمارات الصينية. وتبلغ الديون الصينية لبعض بلدان أفريقيا حسب تقدير بعض خبراء بربع الناتج المحلي لهذه البلدان.
وماذا عن الحضور الروسي؟
أما روسيا فقد عززت حضورها في افريقيا في مجالات ثلاثة خلال الأعوام الماضية، وهي صادرات الحبوب وصفقات التسليح والتعاون في مجال الطاقة، وهي سوق تكتسب أهمية متزايدة بالنسبة إلى موسكو منذ بدء حرب أوكرانيا في فيفري/شباط 2022.
فروسيا التي تعتبر من أكبر مصدّري الحبوب في العالم، زودّت إفريقيا بـ11,5 مليون طن منها في العام 2022، بينما وصلت كمية صادراتها نحو افريقيا في الأشهر الستة الأولى من 2023 إلى نحو عشرة ملايين طن. كما عبّر بوتين عن استعداد روسيا لتزويد الدول الافريقية المحتاجة مجانا بالحبوب وحصل اتفاق روسي تركي على تزويد أفريقيا بنسبة 14 في المائة من القمح الروسي الذي يجرى تصديره عبر تركيا. وهو ما يفسر امتناع 17 دولة افريقية عن التصويت على مشروع قرار يدين روسيا في حربها على أوكرانيا.
أما بخصوص تزويد بلدان القارة بالأسلحة، فإن روسيا تعمل على الاستفادة من الاتفاقيات التي أبرمتها تلك البلدان مع الاتحاد السوفياتي السابق لتجديد ترسانتها العسكرية وتطويرها. ففي الأعوام الماضية، سعت موسكو إلى مواصلة هذه التجارة بالتركيز على “تحديث الأسلحة التي تمّ توفيرها منذ الحقبة السوفياتية”، وأيضا التزويد بأسلحة من الجيل الجديد. وأوضح مدير الجهاز الروسي للتعاون العسكري والتقني دميتري شوغاييف في صيف 2021 أن تصدير الأسلحة إلى إفريقيا يشكّل “ما بين 30 إلى 40 بالمائة” من إجمالي صادرات السلاح الروسي سنويا. إذ أن “روسيا تعمل مع كل الدول حتى تلك التي تعاونت تقليديا في هذا المجال مع فرنسا، والولايات المتحدة، أو إسبانيا”. وذكر نفس المصدر أن الدول الإفريقية طلبت سنة 2019 أسلحة من روسيا بقيمة 14 مليار دولار. وتُعتبر موسكو من أبرز المصدّرين للجزائر التي يعد جيشها من الأكبر في القارة.
كما يعتقد بعض الملاحظين أن روسيا هي أكبر مستفيد من انسحاب القوات الفرنسية من بعض البلدان الافريقية لأنها هي التي ستتولى الدور الذي كانت تقوم به القوات الفرنسية من تأمين حماية للرئيس وجهازه الحاكم عبر قوات “فاغنر”، التي عززت حضورها في أفريقيا خلال عقد، وباتت ذراع روسيا الطويلة في عدد من بلدان أفريقيا وهي تنتشر اليوم في جميع أنحاء أفريقيا: في جمهورية أفريقيا الوسطى، ليبيا، مالي، السودان، موزامبيق، أنغولا، زيمبابوي، غينيا بيساو، غينيا، مدغشقر، وربما إريتريا.
كما تسعى روسيا كذلك إلى تزويد إفريقيا بخبراتها التقنية في مجال البنية التحتية النووية. فتسعى إلى تصدير المحطات العائمة للدول الإفريقية التي تعاني من نقص بالغ في قدراتها الذرية. وبحسب وزارة الطاقة الروسية، فإن لموسكو مشاريع نفطية عدة في إفريقيا ويخصص ثلثا الاستثمارات الروسية في إفريقيا لاستكشاف واستخراج النفط والغاز، وكذلك اليورانيوم والألماس ومعادن أخرى.
تلك هي إذن أبرز مظاهر صراع الدول الامبريالية حول إفريقيا التي تصبح بحكم ما تتوفر عليه من مقدّرات محلّ أطماع هذه القوى وأحد الفضاءات المحتملة لصراعاتها المباشرة في قادم السنين.