تزايدت في المدة الأخيرة مظاهر وردود أفعال فرديّة ومنعزلة لكن بوتيرة متصاعدة بما يحمل دلالات ومؤشّرات مرشّحة للتوسّع والتحوّل. هذه الظواهر تتمثل اليوم في تعمّد محتجّين غالبا من الشباب إلى حرق أنفسهم أمام مقرات السلطة، وعملية الحرق تحمل الكثير من الرمزيات وأيضا الكثير من الرسائل، وهي التي كانت إيذانا لاندلاع الثورة بعد عمليات حرقٍ سابقة راكمت وحضّرت ليوم 17 ديسمبر. كما تنامت مظاهر إيذاء الذات مثل الارتماء من عمارة أو “تشليط” أعضاء الجسد بعنفٍ بمناسبة هجوم أمني للإيقاف على خلفيّة أعمال إجرامية آخذة في الانتشار مثل ترويج المخدرات والخمور الدعارة. كما تصاعدت مظاهر “البراكاجات” التي لم تعد حِكرا على العاصمة والمدن والأحياء الكبرى، لقد انتشرت الظاهرة عموديًّا وأفقيا في جلّ جهات تونس وفي مختلف أوساطها وأحيائها بما أصبح يطرح جدّيا مسألة الأمن الاجتماعي في أبسط شروطه. بالتوازي مع ذلك تتصاعد أيضا مظاهر “الجريمة الناعمة” المتمثّلة في التحيّل بما فيه الأكثر سُفورا مثل التحيّل الإعلامي والالكتروني الذي يتمّ في واضحة النهار وعلى مرأى ومسمعٍ من الجميع على شاشات القنوات التلفزية وعلى الفضاء الأزرق. كما أصبح خبر أن موظفا بنكًّيا أو مسؤولا ماليا استولى على مبالغ مالية وتبخّر، أصبح خبرا روتينيًّا.
إن استعراض هذه المعطيات ليس هدفا في حد ذاته. ولقائل أن يقول أن هذه الظواهر ليست جديدة، بل هي ملازمة للنظام الاجتماعي الطبقي في بلادنا وفي كل العالم. إن الجديد الذي نريد شدّ الانتباه إليه هو ما تحمله هذه المعطيات في أوضاع بلادنا اليوم من مؤشّراتٍ مرشّحة للتحوّل إلى انفجارات اجتماعية.
إن مجتمعنا الذي يتّجه إلى أن يكون محروما من آليات التعبير عن ذاته، وخاصة آليات الدفاع الجماعي التي تتعرّض اليوم إلى الاستهداف من قِبل السلطة الشعبوية بهدف التصفية والوأد مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات، إنما يفقد أهمّ آليات الاحتجاج الواعي والمنظّم، وبذلك يتّجه أكثر إلى أشكال وأساليب التّعبير الأكثر فضاضة وعنفا، وهو ما اتّجهت إليه عديد المجتمعات سابقا وحاضرا. لقد ظللنا نتفاخر كتونسيّين بالمسار الذي أخذته ثورة شعبنا في 17 ديسمبر/14 جانفي بمقتضى المكاسب والمراكمات الحاصلة من تنظّم سياسي ونقابي وجمعوي، فيما كانت تجارب قريبة منا (ليبيا، سوريا، اليمن..) أقرب للانحراف نحو أشكال تعبير خال العديد أنها قربت، ممّا سهّل توظيف كل المسارات التي انتهت بتدمير البلدان وتحويلها إلى منصّات للإرهاب والتخلف. إن تلك المكاسب التي حقّقتها الأجيال المتلاحقة من المناضلين مهدّدة اليوم بالتّلاشي بما سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة على المدى المنظور.
إن تنامي الظّواهر الاجتماعية المذكورة ليس انحرافا في السّلوك وتراجعا في الوازع الأخلاقي والقيمي بحكم تراجع دور الأسرة والمدرسة… إن هذا التقدير جزئي وسطحي. إن هذه الظواهر تجد أسبابها العميقة والحقيقيّة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصّعبة والتي تُراكم الفقر والبؤس والفاقة، وهي تراكم البطالة والانقطاع المدرسي وهي حواضن أساسية للتحوّلات السلوكية الفردية والجماعية، فمنها تتّسع مساحة استهلاك المخدرات وما يترتّب عنه من تنامي السلوك الإجرامي سواء لتوفير المال لشراء المادة المخدّرة، أو بحكم الانعكاسات العصبيّة والنفسية والسلوكية المدمّرة للاستهلاك والإدمان، فتتنامى “البراكاجات” والسّرقة والاعتداءات العنيفة، وهي ظواهر لا تقابلها السلطة إلا بالمعالجة الأمنية والقضائية التي تُكدّس آلاف الشباب في السّجون ولكنها لا تحلّ الإشكالات الملحّة في المجتمع، بل إن المعالجة الأمنية كثيرا ما تكون عنصر احتقان إضافي لأنها تترافق مع منسوب قمعيٍّ متصاعد لا يستهدف المشاركين والمعنيّين بالأعمال الإجرامية، بل يستهدف كل المجتمع، وهو ما أصبح ظاهرا للعيان في شوارع البلاد وأزقّتها، فقد عادت القبضة الأمنية وما يترافق معها من انتهاكاتٍ هي اليوم بصدد التوسّع.
إن سلطة سعيّد لا ردّ لها على مطالب الشعب سوى بالمغالطة الخطابية وبعصا البوليس. إن المغالطة بدأت تنكشف وبدأ الشعب يملّ الخُطب الرنّانة لأنها لم تترافق مع إجراءات ملموسة لتغيير أوضاعه نحو الأفضل، بل أنّ كلّ المؤشّرات تتّجه بسرعة قياسيّة نحو الأسوأ، وها هي السلطة تتخبّط تحت سِياط خيارات طبقية لا وطنية ولا شعبية، خيارات نيوليبرالية مرتهنة إلى إرادة الجهات الخارجية المانحة والمموّلة. كما أن عصا القمع لن تفلّ ولن تستطيع لجم الشعب إلى ما لانهاية، فالأوضاع اليوم بمؤشراتها الحاصلة هي أقرب إلى حالة الغليان الذي سيتحوّل إلى انفجار في أيّ لحظة. لقد أكّدت التجارب، ومنها تجربة بلادنا وشعبنا، أن انفجار الأوضاع الاجتماعية كثيرا ما يكون مسبوقا بهدوءٍ ظاهرٍ، وأن اندلاع الحراك الاحتجاجي بما فيه الأكثر قوّة كثيرا ما يرتبط بقادحٍ يبدو بسيطا وغير ذي معنى.
إن قناعتنا عميقة أن قيس سعيد ونظام حكمه الفردي يدفع البلاد نحو المجهول. إنه يدوس كل ما ضحّى من أجله الشعب وقدّم التضحيات الكبيرة، يدوس الحريات والنسيج التنظيمي للمجتمع، يستهدف الحركة النقابية والمدنية والحزبية التي لم يستطع نظاميْ بورقيبة وبن علي تفكيكها. وهو يريد من الشباب والمعطلين والمفقّرين والمسحوقين أن يجوعوا ويتعرْوا ولا يحتجّوا، يريدهم أن يملؤوا بطونهم بهواء خُطبه الجوفاء. إنّ أقصر الطرق أمام هؤلاء ليس سوى النضال الواعي والمنظّم، فالحلول الفردية للتّحايل على صعوبات الحياة، والاتجاه نحو الإجرام أو مغادرة البلاد بأيّ شكل، وترك الفضاء العام لجوقة القوّادين لن تفيد بلادنا وشعبنا، وحده النضال المتماسك وانتزاع الحرية والكرامة والعدالة من شأنه أن يمكّن شعبنا بمختلف طبقاته وفئاته من العيش فوق الأرض وتحت الشمس.