بقلم عمّار عمروسية
يشارف العدوان النازي على “غزة” على طيّ شهره الخامس مخلّفا حصيلة كارثية يذهب كثيرون على اعتبارها الأسوإ في جميع الحروب التّي عاشتها البشرية في عصرنا الرّاهن.
فآلة التقتيل الإجراميّة خاضت ولازالت حرب الإبادة الجماعية ضدّ البشر والشجر والحجر دون أدنى اعتبار، لا لأبسط مبادئ القانون الإنساني الدولي ومختلف المعاهدات المتصلّة بالحروب والنزاعات، ولا لمختلف مؤسّسات وهيئات ما يعرف بالمنتظم الأممي.
فالكيان العنصري النازي يضع نفسه كعادته فوق كلّ القوانين والأعراف يمعن في البطش والتّنكيل تحت مزاعم الدّفاع عن النّفس الذي لا يمتلكه أصلا وفق منطوق القانون الدّولي ذاته.
إنّ الحيثيات المروّعة لمجازر الإبادة والتطهير العرقي في “غزّة” حرّكت أغلب شعوب العالم وحتّى الكثير من دول المعمورة للمطالبة بالوقف الفوري للحرب ورفع الحصار.
فالإنتصار لعدالة القضية الفلسطينية اجتاح المعمورة كما لم يحدث وفرض عزلة كبيرة على حكومة الكيان الصهيوني تجاوزت حدود مجال الشعوب إلى فضاءات أغلب الهيئات والمؤسسات الدولية، زيادة على الحقل الديبلوماسي.
فحكومة “نتانياهو” غرقت في اشتباك سياسي مع دول كثيرة (البرازيل، جنوب افريقيا، إسبانيا، إيرلندا، الخ…) وانغمست في توتّرات متواصلة مع مسؤولين بارزين على النطاق العالمي (غوتيرش الأمين العام للأمم المتّحدة، فليب لازاريني المفوض العام للأونروا، جوزيب بوريل المنسّق العام للسياسات الدولية بالاتحاد الأوروبي الخ….).
لقد استعادت القضية الفلسطينية ألقها في كلّ السّاحات وكان الصّمود الأسطوري للمقاومة وشعبها في وجه العدوان الصهيو/أمريكي الدّور الحاسم في مجمل تلك التغيّرات التّي طالت المجالات سابقة الذّكر.
وحده النظام الرسمي العربي ظلّ مثل المياه الرّاكدة الآسنة والعفنة يتلذّذ حكّامه المجازر ضدّ المدنيّين العُزّل.
فالأداة السياسية لهذا المسخ، ونقصد “جامعة الدول العربية“، واصلت غيبوبتها الطويلة واكتفت باجتماع وحيدٍ ميّعت مضامينه وجدول أعماله هروبا من تحمّل المسؤولية ومن وطأة الخلافات بين مكوّناته المتنافرة بدمجه مع المنظمة الإسلامية.
لم تقدر جامعة الدول العربية على مجرّد لمّ شملها إلاّ في اجتماع يتيم بعد شهر كامل من جرائم الكيان المحتلّ.
تناوب كالعادة على حفلة الكلام بعض الرؤساء والملوك والسلاطين أو من يمثلهم.
تكلّم جلّهم بنبرةٍ خافتة وانتقاء مفردات لغويّة تنسجم مع ملزمات سيف أمريكا المسلّط على كراسيهم ومصالح التطبيع مع الكيان.
لم يقدر حكّام العرب هذه المرّة لا على أكذوبة رصّ صفوفهم مثلما كانوا يزعمون ولا حتّى على استحضار قاموس عنتريّات أسلافهم في العقود الماضية.
قمّة العرب هذه المرّة رغم تعزيزها بالمنظّمة الإسلاميّة نفخت الرّوح مجدّدا في عبارات “الشّجب” والإدانة “و“التضامن“.. وانتهت إلى بيانٍ هزيلٍ لا يرقى لقطرة دم واحدة من طفل فلسطيني أو سيّدة…
والعجيب أن لا شيء تحققّ من جملة تلك القرارات سوى بعث لجنة “المتابعة” التّي ضمّت دول التطبيع والغدر على غرار “مصر“، و“الأردن” و“السعودية“.
لجنة المتابعة كانت وفيّة لقادة “العرب” الذين كلّما أرادوا وأد قضيّة وتسويف استحقاقاتها أوكلوا مشغلها للجنة.
فالأخيرة اندثرت بعد الأسبوع الأوّل من تركيزها مكتفية بجولة في بعض العواصم العالميّة.
فاللّجنة وجميع القرارات الأخرى رغم هزالها قياسا بتحدّيات المرحلة ومخاطرها ليس فقط على المقاومة الفلسطينية وشعبها وإنمّا على كلّ الوطن العربي والإقليم عموما ضاعت – أي اللجنة والقرارات – في قمقم الحسابات الرّخيصة لأنظمة العمالة والديكتاتورية والفساد التّي أحكمت قبضتها منذ عقودٍ على مفاصل القرار في ما سمّي بالنظام العربي الرّسمي الذي زادت وتائر انحطاطه ووهنه بعد هيمنة دول البترودولار (دول مجلس التعاون الخليجي).
يعتقد البعض في الوطن العربي بأنّ هذا النظام دخل غرفة الإنعاش منذ زمان ويذهب آخرون إلى وفاته وهي آراء تعكس مشاعر السّخط والنّقمة على واقع السّياسات الرسميّة الموغلة في خدمة الهيمنة الإمبريالية وخصوصا الأمريكية وقاعدتها المتقدمة “إسرائيل“.
والحقيقة أنّ تلك الآراء سليمة فقط من زاوية تخلّي ذاك النظام عن لعب أدواره في الذّود عن الأمن القومي للوطن العربي وقضيّته المركزية “فلسطين“.
فذاك النظام حيّ ونشيط في لعب وظائفه المرتبطة بالحفاظ على مصالح الطبقات والفئات الكمبرادورية العميلة وصيانة مصالح وامتيازات الدول الإمبريالية الغربيّة وغيرها.
فوجود الجامعة العربية في تناقضٍ جوهريٍّ مع المصالح الحيويّة لشعوب المنطقة التّوّاقة للتحرّر الوطني والاجتماعي، وتواصل هذه الاستمرارية في البقاء ليس إلاّ مصلحة متبادلة بين ممثّلي الطبقات العميلة محليّا في كلّ قُطر وبين قوى الهيمنة والنّهب الخارجية التّي رتّبت منذ ميلاد الجامعة العربية سنة 1945 ملامح التطّورات المستقبليّة لذاك المولود.
فالنظام الرّسمي العربي حمل منذ النشأة تشوّهات الرعاية البريطانية التّي ضبطت الشروط الصّلبة لأعراض أمراض ذاك النظام وجينات توالد إعاقاته ضمن مثلّث التّبعيّة والاستبداد والفساد.
فالإستعمار البريطاني من خلال اتفاقية “سايكس بيكو” ثبّت أسس التّقسيم والتّجزئة وأردفها بغرس الكيان السّرطاني من خلال وعد بلفور.
جينات الإعاقات تعطّلت إلى حدٍّ ما مفاعيلها زمن نهوض حركات التحرّر العربية بالمشرق والمغرب وأخرجت قطار النظام الرّسمي عن سكّته وقرّبته من طموحات شعوب المنطقة.
ذاك الخروج الذّي تعزّز ببروز أنظمة ذات مواقف وطنية ونزعات قومية خصوصا مع “جمال عبد الناصر“.
فالجامعة العربية بلغت أعلى درجات تألقها وشدّت أنظار شعوب المنطقة في قمّة اللاءات الثلاث “لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض” سنة 1967 وكسبت (الجامعة) نوعا من الاحترام، أوّلا في حرب 1973 بعد استعمال سلاح النفط للضّغط على الكيان وداعميه وثانيا، سنة 1978 بعد إبرام “أنور السادات” اتفاقيّة “كامب دافيد” الخيانيّة.
إنّ مسار انحدار وتدحرج النظام العربي الرسمي سيرورة طويلة ومعقّدة حكمتها على الدّوام موازين قِوى بين كتله وفروعه المتنافرة، ومن المفيد الملاحظة أنّ حالات التّعافي والوهن كانت على الدّوام تقريبا مرتبطة بطبيعة الموقف من القضية الفلسطينية التّي أصبح حضورها في السنوات الأخيرة مرتبطا بوهم حلّ الدولتين ووهم نفق المفاوضات العبثيّة على حساب خيار المقاومة المسلّحة والتّحرير الكامل لكلّ أراضي فلسطين التّاريخيّة.
فالنظام الرسمي العربي سلّم “العراق” للغزو والاحتلال ودمّر “ليبيا” وأنهك “سوريا” وأدار العدوان على “اليمن” الخ.…
وهو تحت قيادة “السعودية” الظالع في طعن الشعب الفلسطيني ومقاومته من خلال المراوحة بين إمّا ملازمة مربّع العجز والفرجة أو الانخراط العلني والسرّي في أعمال عدائيّة بالتّنسيق مع حكومة القتل بهدف القضاء على المقاومة المسلّحة وكسر شوكتها لتعبيد الطريق أمام الحلول الإستسلاميّة بما يخدم التطبيع ودمج كيان الاحتلال في شرق أوسط خاضع وذليل أمام “أمريكا” والعدوّ الصهيوني.
لقد سقط مثلما أسلف النظام الرّسمي وأسهم في جرائم كثيرة في العقدين الماضيين غير أنّ انحداره أمام أبشع وأطول عدوان صهيوني – أمريكي وصل مستويات غير مسبوقة تنذر بالمخاطر الجسيمة المحدقة بكلّ شعوب المنطقة وقواها الوطنية والثورية.
فانحدار وسقوط هذه الأيّام ليس سوى مفتّحات الريادة السعودية – الإماراتية بدفعٍ من دول التطبيع التّي تزايد عددها المعلن مع اتفاقية “ابراهام” الخيانيّة زيادة عن طابور دول التطبيع المخفيّ وقائمة المنتظرين وراء الأبواب المواربة.