بقلم ماهر الزعق
المنع، الضبط، الحظر، الحجْر، الصنصرة (La censure)، إحدى أدوات الحكم والتحكّم تستخدمها جلّ الأنظمة السياسية حتى الأكثر ديمقراطية منها، وإن كان ذلك بأشكال وأساليب ودرجات متعدّدة ومتنوّعة، أمّا الصنصرة في زمن العلوّ الشاهق الذي بشّر به “الأستاذ” والذي نادى به موسيليني زعيم الفاشية في إيطاليا، فهي تترسّخ عندنا بشيء من التدرّج وببعض التمويه، لكنّها كاملة الأوصاف، حِجارتها ثلاث، حَجر في الفم للجْم التعبير الحرّ، حَجر على البطن لخداع الجوع وحَجر في الرأس لإعطاب وتعطيل العقل.
صنصرة التعبير الحرّ
لا أعتقد أنّ المواطن العادي (Monsieur tout le monde) يشعر بالخوف من السلطة، على الأقلّ ليس بعد، لا لأنّه جسُور وشجاع، بل لأنّه لا يعرف لماذا يخاف، فهو لا يتمرّد ولا حتى يحتجّ. نعم قد يحدث له أن يتذمّر فكلّ شهر أصعب من سابقه، لكنّه يتذمّر بصوت منخفض، بصوت يُشبه الصمت، ربّما هناك خوف مختفي تحت ملاءة الريبة والكآبة والجمود والبلادة، ما يقود آجلا أم عاجلا إلى الأنساق.
على النقيض من ذلك فإنّ الخوف من السلطة تغلغل لدى المتابعين للأحداث وانتشر عند نشطاء الشأن العامّ، الخوف من السلطة شعور معقول خاصّة وشبح ديكتاتورية تسعينيات القرن الماضي يحُوم، مُخبرين في كلّ حارة وفي أيّ حين، محاكمات بالجملة، سياسيين، نقابيين، إعلاميين، قضاة، محامين، نشطاء، مدوّنين..، مجرّد كلمة أو تعليق، وتشتغل آلة التنديد والتخوين وتعزف جوقة التشنيع والتشهير ويُمكن أن تُوارى وراء الشمس لعشر سنوات على أقلّ تقدير ..، لكن حين يتمّ الاستنجاد بمقولة حمّالة أوجه مثل “إذا كان الكلام من فضّة يكون السكوت من ذهب”، حين يستبّد الأنا الأعلى، حين تتمّ مقايضة الحريّة بالسراب، حين يسقط المرء في فخّ الصنصرة الذاتيّة فإنّ مصيره الحتميّ هو الانسحاق.
صنصرة الموادّ الأساسية
الاستثمار معطّل، النموّ متعثّر، الأمل يتبخّر، الخصاصة واقع، الفقر مستقرّ وشبح الجوع يحُوم والإحساس بالفقر شديد المرارة.. إذا طبّعت مع ارتفاع الأسعار، مع شحّ المواد الأساسية ومع طوابير العار، مع انقطاع الماء وفقدان الدواء، إذا قلّصت من كميّة ونوعيّة غذائك وغذاء أبنائك، إذا أصبح تناول اللحم ممنوع، إذا تنازلت عن حقّك في الوصول إلى الموّاد الأساسية وصنصرت رغباتك الإنسانية، إذا قبِلت بوضعك المستحيل فأنت حتما في عِداد المسحوقين.
صنصرة إعمال العقل وحريّة الفكر
زمن العلوّ الشاهق هو زمن المهدي المنتظر/المنتصر، صاحب الرسالة، له خطاب متشنّج لا رأس له ولا ذيل، هذيان عدواني وحنين إلى الماضي، إلى الأماكن القديمة والكتب الصفراء والقرطاس والريشة، زمن العلوّ الشاهق هو زمن الفرجة والتهريج والتجهيل، التجييش والتزييف، زمن الإشاعات والأراجيف والشعوذة والدجل، زمن الاستبلاه وتعطيل العقل والاستخفاف بالتقدّم التكنولوجي وقوانين العلم، فلا يتعجّب أحدكم إذا تمّ في هذا الزمن الأغبر التشكيك في دوران الأرض حول الشمس أو حتى في كرويّة الأرض.. زمن العلوّ الشاهق هو زمن انتشار الرداءة والحماقة واستفحال الركاكة والتفاهة، هو ليل مطلق وغباء كثيف ومكر غير قابل للترويض، إذا تأقلمت أو تماهيت مع العيش في مستنقع العلوّ الشاهق، إذا صنصرت حقكّ في حريّة الفكر وإعمال العقل فقد أصابتك “الغنغرينا” العقلية وأصبحت جاهزا للانسحاق.
ختْم المقال، الكفاح يرفع من قدر الإنسان، أن تخاف لا يعني أنّك جبان، الخوف حالة والجبن صفة، الانصياع يؤلم أكثر من التمرّد، وكلّما تأخّرت المقاومة أو رجحت كفّة الاستسلام، أصبحت المواجهة أصعب وارتفعت كلفة النضال.
الصنصرة التي تمارسها السلطة مكبّلة ومدمّرة، لكن الأخطر هو التطبيع معها، “مُكره أخاك لا بطل”، أما الأخطر على الإطلاق فهو الصنصرة الذاتيّة التي تحوّل المرء إلى سوط بيد الجلّاد، مقاومة صنصرة السلطة تبدأ بمقاومة الصنصرة الذاتيّة، المقاومة التي تحمينا من الإقامة الجبريّة في الفراغ والبؤس والغثيان والقرف، والتي تكشف السقوط المدّوي المتلحّف بالعلوّ لشاهق وفي الحقيقة وهذه حقيقة مقطوع بها عند العقلاء، أن لا معنى للحياة بدون ثورة.