الحكومة ترفّع في أسعار مياه الشرب
بقلم حسين الرحيلي
تعيش تونس ومنذ أكثر من 5 سنوات على وقعِ جفافٍ متواصل أثّر بشكل كبير على كامل أوجه الحياة والحركة الاقتصادية والاجتماعية. كما ساهم هذا الوضع المناخي القُصوَوي بشكل مباشر في دخول بلادنا مرحلة الشّحّ المائي بامتياز. إذ لم يعد يتمتّع المواطن التونسي إلا بحوالي 380 م³ من الماء سنويا، وهو أقل بحوالي 50% من الكمّية المطلوب توفّرها لكل إنسان على المستوى الدّولي ليعيش بشكل أكثر كرامة وأمان صحّي وغذائي.
كما تجسّمت حالة الجفاف المتواصل ولأكثر من 5 سنوات متتالية في تراجعٍ مخيفٍ لمخزونات السّدود على المستوى الوطني. إذ وصلت هذه المخزونات خلال شهر سبتمبر 2023 إلى أقل من 20 % أي أقل من 500 مليون م³، وهو أضعف مستوى للسّدود منذ أكثر من 40 عاما.
ولمجابهة هذا الوضع الحرج والمخيف مائيا، اقتصرت السّلطة على اتّخاذ إجراءاتٍ ظرفيّة لم تتجاوز “إقرار نظام القطع الدّوري للماء الصالح للشرب” على المواطنين القاطنين بأربعة عشر ولاية، (أي حوالي 7 مليون مواطنة ومواطن)، وذلك منذ 29 مارس 2023 وإلى أجلٍ غير مسمّى. ولقد حُدّد القطع الدوري للماء نظريا من الساعة 9 مساء إلى الساعة 6 صباحا. أما عمليًّا فإن القطع يمكن أن يكون في أوقات مختلفة من النهار ولأيّامٍ متعدّدة بالعديد من المناطق.
في ظلّ كل هذه الظروف الصّعبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومائيا، أقرّت الحكومة من خلال وزارة الفلاحة والموارد المائيْة الزيادة في أسعار الماء المُعدِّ للشرب بداية من شهر مارس 2024. ولئن أكدت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أن الزيادة في أسعار مياه الشرب لا تشمل الشّريحة التي تستهلك كمية تساوي أو أقل من 20 م³ في الثلاثية والتي ستحافظ أسعار الم³ من الماء على 200 مليم فقط، فإنّ بقية الشرائح الاستهلاكية قد تمّت زيادتها بقيمة مالية تتراوح ما بين 85 مليم و320 مليم للمتر مكعّب حسب كمّية الاستهلاك.
في هذا الإطار، وجب التذكير أن الزيادة في أسعار مياه الشّرب الجديدة تعتبر الثالثة في الأربع سنوات الأخيرة. إلا أن خدمات الماء الصالح للشّرب والبُنى التحتيّة المرتبطة بها لم تتجدّد ولم تتحسّن، ممّا يجعلنا نتساءل عن الجدوى من هذه الزيادات المُتتالية لمياه الشرب وخاصة في ظلّ وضعٍ مائيّ صعب وانقطاعات دوريّة ومتواصلة. كما أن الزيادة في أسعار الماء ومنذ زمن بعيد، لم تعطي أُكْلها والهدف منها المعلن عنه من طرف كلّ الحكومات المتعاقبة، والتي كانت مبنيّة على أن الترفيع في سعر الماء سيدفع المواطنين إلى ترشيد استهلاك الماء. ذلك أنّ ترشيد استهلاك الماء ليس مرتبطا بالضّرورة بسعره بل بمدى عُمق وتجذّر الثقافة المواطنيّة للماء في النّسيج المجتمعي في كلّ مجالات استعمالاته.
كما أن الحديث على أنّ الشريحة التي تستهلك أقل من 20 م³ ستحافظ على نفس التسعيرة، لا يستقيم، إذ أنّ مجرّد تجاوز 1 م³ من الماء للعشرين الأولى، يعاقب عليه المواطن بخروجه من الشريحة، ليس من أجل 1 م³ فقط بل للكمية بكاملها، أي 21 م³ والتي سيكون ثمنها الجديد 745 مليم للمترالمكعبّب الواحد. أي أنه عندما يأتيك ظرف طارئ وتتجاوز 20 م³ بمتر واحد يتضاعف سعر م³ ثلاث مرات وأكثر. وهو ما يجعل المواطن غير مبالي فعليا بتجاوز 1 م³ أو 7 م³ لأن النتيجة واحدة. ولو كانت الأسعار منطقيّة ومرتبطة بفلسفة متكاملة لترشيد الموارد المائية وحسن استعمالها، فإن المنطق التجاري التّحفيزي يقتضي الترفيع في سعر الكمية المستهلكة فوق 20 م³ وبالتالي تدفع المواطن إلى التفكير بشكل جيّد في ترشيد الماء والعمل على استهلاك أقلّ كمّية ممكنة.
وإذا رجعنا إلى الفوْترة الحقيقة لمياه الشرب فيمكن القول أنه حتى الشريحة التي تستهلك أقل من 20 م³ في الثلاثية والتي حدّد نظريا ثمن م³ بحوالي 200 مليم، فإن السّعر الحقيقي للمتر المكعب يقارب من 1 دينار إذا أضفنا له المعاليم القارّة ومعاليم التطهير والأداء على القيمة المضافة.
إنّ الذين يحاولون إقناعنا بأن سعر الماء المخصّص للشرب في تونس يعتبر سعرا رمزيّا ولا يرتقي إلى الكلفة الحقيقية لإنتاج الماء، فإنّه وجب الردّ بالتذكير أن المواطن التونسي ومن خلال الضرائب التي يؤدّيها هو المنتج الفعلي للماء في أشكاله ومصادره المتعدّدة، وأن المعلوم الذي نقدّمه للشركة الوطنية ليس إلا مقابل خدمة إيصال الماء. وبالتالي فإنه لا يمكن من خلال هذا المنطق الحديث عن أسعار الماء الرّخيصة أو المتدنّية.
إنّ كلفة الماء الفعليّة للمواطن التونسي، وأمام التّراجع المستمر لجودة مياه الشرب الموزعة من طرف الشركة الوطنية، تدفعه للالتجاء، إمّا إلى استهلاك المياه المُعلّبة أو اقتناء مياه مجهولة المصدر وبأسعار مرتفعة. وبعملية حسابيّة بسيطة وأمام ارتفاع درجات الحرارة ولأشهر عدّة بفعل التحوّلات المناخية يمكن لعائلة متكوّنة من خمسة أفراد استهلاك ستّ قارورات من المياه المعلّبة وخاصة لدى الطبقة الوسطى. وهو ما يكلّفها ولفترات طويلة من العام حوالي 120د شهريا، وهي كلفة تمثل حوالي 15 % من معدّل الأجر الشهري للموظف، وهي كلفة تتجاوز بكثير النسبة المعمول بها دوليّا في مجال مياه الشرب، والتي لا يجب أن تتجاوز 3 إلى 5 % من معدّل الأجر الشّهري لموظّفٍ.
إنّ الزيادة في أسعار مياه الشرب المتتالية وخلال السّنوات الأخيرة، لم تكن بهدف دفع السكّان إلى الحفاظ على الماء وترشيد استعمالاته، بل الهدف منه تحقيق التوازنات المالية للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، ولتغطية النقص المالي النّاجم عن القطع الدّوري للمياه خلال الفترة الأخيرة. وهذا التّوجّه مرتبط بتحويل الشّركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه من مؤسّسة عمومية مهمّتها الأساسية توفير الماء الصالح للشرب بنوعية جيّدة ومتواصلة وصحّية، إلى مجرّد مؤسّسة تجارية تبيع الماء وتبحث بشكل متواصل على التوازنات المالية أكثر من الاستثمار في مجال حياتيٍّ وحيويٍّ وخدمة عمومية يموّلها الشعب من الضّغط الجبائي المسلّط عليه.
إن التركيز على مياه الشرب رغم أن نسبته لا تتجاوز 12 بالمائة من جملة الموارد المائية المتاحة سنويا، يُعدّ هروبا إلى الأمام من طرف كلّ الحكومات المتعاقبة وخاصة منذ بداية التسعينات. كلّ ذلك في إطار الدّفع نحو خصخصة قطاع الماء، والذي ظهر بشكل جليٍّ في مشروع مجلّة المياه الذي تمّ إعدادها من طرف حكومات النهضة المتعدّدة، والتي كان الهدف منها، وتحت شعارات “الشّراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص”، فتح مجال الماء للرأسمال الأجنبي، إذ أنّ قطاع الماء هو القطاع الذي مازال خارج الخصخصة إلى حدّ الآن.